شبكة النبأ: ليس ادق من العنكبوت في
نسج شبكة خيوطه، فهو نسج محكم ودقيق وهندسي رائع، يتكيف مع بيئته ونوع
طعامه، ولا يترك مجالا للصدفة التي ربما تخدم فريسته.
في القرآن الكريم سورة تحمل اسم العنكبوت، وهي تحمل الرقم 29 في
تسلسل السور القرآنية، وهي سورة مكية سميت بهذا الاسم، لان الله ضرب
العنكبوت فيها مثلا للأصنام المنحوتة، والالهه المزعومة (مثل الذين
اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وان اوهن البيوت
لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون).
وهي تبدأ بعد الحروف المقطعة بالحديث عن الإيمان والفتنة، وعن
تكاليف الإيمان الحقة التي تكشف عن معدنه في النفوس، فليس الإيمان كلمة
تقال باللسان، إنما هو الصبر على المكاره والتكاليف في طريق هذه الكلمة
المحفوفة بالمكاره والتكاليف.
ويكاد هذا أن يكون محور السورة وموضوعها ; فإن سياقها يمضي بعد ذلك
المطلع يستعرض قصص نوح وإبراهيم ولوط وشعيب، وقصص عاد وثمود وقارون
وفرعون وهامان، استعراضا سريعا يصور ألوانا من العقبات والفتن في طريق
الدعوة إلى الإيمان. على امتداد الأجيال.
ثم يعقب على هذا القصص وما تكشف فيه من قوى مرصودة في وجه الحق
والهدى، بالتصغير من قيمة هذه القوى والتهوين من شأنه، وقد أخذها الله
جميعا: (فكلا أخذنا بذنبه، فمنهم من أرسلنا عليه حاصب، ومنهم من أخذته
الصيحة، ومنهم من خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا).
ويضرب لهذه القوى كلها مثلا مصورا يجسم وهنها وتفاهتها: (مثل الذين
اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيت، وإن أوهن البيوت
لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون).
والعنكبوت ايضا يرد في السيرة النبوية حين الهجرة، وكيف نسج شبكة له
على باب غار حراء الذي آوى اليه الرسول الكريم (ص)، مع عش لحمامة هي
وبيضها، مما حدى بالمشركين الى التراجع، وبقية القصة معروفة.
العنكبوت وشبكته، نسجت منها السينما العالمية عددا من افلام الرعب
عبر هجومها الكاسح على البشر ومحاولة افنائهم، العنكبوت ايضا اصبح فلما
باجزاء متعددة حمل اسم spyder man، حين يمتلك البطل قدرات العنكبوت في
نسج الخيوط والشباك لمطارة المجرمين ومقاتلتهم.
معاني القصة القرآنية تحيل الى الاوهام التي يتشبث بها الكافرون وهم
يرفضون دعوات الايمان من قبل الانبياء المرسلين، وهي اوهام ضعيفة وهشة
لا تصمد امام المحاججة العقلية او تنسجم مع المنطق والفطرة السليمة.
وهي نفس الاوهام التي يتشبث بها الانسان المعاصر ويجعلها تحيط به من
كل جانب ولا يستطيع الفكاك منها وتجعله مقيدا ومشدودا الى خيوطها...
والوهم هو تشوُّه يحدث للحواس، كما تعرفه موسوعة ويكيبيديا، ويَكشِف
كيف يُنظم الدماغ ويُفسِّر الإثارة الحسية. وعلى الرغم من أن الأوهام
تُشوه الحقيقة، يتشارك فيها عادةً معظم الناس. وتُؤثر الأوهام عادةً
على حاسة الإنسان أكثر من رؤيته. بينما يُعد الخداع البصري أكثر أنواع
الوهم شهرةً وتفهماً.
ويأتي التركيز على الخداع البصري من أن حاسة البصر تُسيطر على
الحواس الأخرى في معظم الأحيان. وتعتمد بعض الأوهام على افتراضات عامة
يقوم بها الدماغ خلال الإدراك الحسي. وتتم هذه الافتراضات باستخدام
مبادئ منظمة، مثل غيشتالت، وقدرة الفرد على الإدراك العميق والإدراك
الحركي، والثبات الإدراكي. كما تحدث أوهام أخرى نتيجة الهياكل الحسية
البيولوجية داخل جسم الإنسان أو ظروف أخرى خارج الجسم داخل بيئة
الإنسان البيئية.
ويُشير مصطلح الوهم إلى شكل معين من أشكال التشوه الحسي. أما
الهلوسة فهي تَشوُّه في غياب الحافز. بينما يصف الوهم سوء تفسير
الإحساس الحقيقي. فعلى سبيل المثال، إن سماع أصوات بغض النظر عن البيئة
يعتبر هلوسة، في حين أن سماع أصوات متداخلة مع صوت المياه الجارية (أو
غيرها من الأصوات) يعد وهماً.
ومن الاوهام التي ابتليت بها شعوبنا نتيجة تسلطها على بعض الافراد
الذين اصبحوا حكاما وقادة هو ما يعرف بجنون العظمة وهو مصطلح تأريخي
مشتق من الكلمة الإغريقية (ميغالومانيا) (بالإنجليزية: Megalomania)
وتعني وسواس العظمة، لوصف حالة من وهم الاعتقاد حيث يبالغ الإنسان بوصف
نفسه بما يخالف الواقع فيدعي امتلاك قابليات استثنائية وقدرات جبارة أو
مواهب مميزة أو أموال طائلة أو علاقات مهمة ليس لها وجود حقيقي. أستخدم
هذا المصطلح من قبل أهل الاختصاص في وصف حالات مرضية يكون جنون العظمة
عارضا فيها كما هو الحال في بعض الأمراض العقلية.
ويرى الدكتور قاسم حسين صالح الباحث العراقي المعروف ان الأوهام هي
الافكار والمعتقدات والاراء التي لا تنطبق على الواقع، ولا يمكن ربطها
باساس سببي يفسره، كما لا يمكن ازالتها بالمنطق والاقناع، فضلاً عن
تناقضها مع ما هو معلوم عن المستوى الثقافي والاجتماعي للفرد. وتأتي
الاوهام بانماط وصور متعددة على النحو الاتي:
1. الاوهام الاضطهادية. اعتقاد الفرد بأنه مضطهد، وأن الآخرين
يراقبونه ويضمرون له العداء ويتآمرون عليه لالحاق الاذى به. وشعوره بان
حيفاً لحق به او ظلماً اصابه، او انه معرّض لهما. وتأتي هذه الاوهام في
حالة المصاب بالزَوَر الفصامي (البارانويا).
2. اوهام العظمة واوهام الضعة. في الاولى يضفي المريض على نفسه
مظاهر العظمة، وانه يتمتع باهمية فريدة او عبقرية او قوة، وتظهر واضحة
في حالة النرجسية. وفي الثانية (الضِعة) يصف المريض نفسه بعدم الاهمية
والتفاهة.
3. اوهام العدم. وفيها يعتقد المريض بأن جزءاً منه، او احد اعضاء
جسمه: قلب، معدة، دماغ،.. لا وجود لها، او انها ساكنة لا تعمل. وفي
الحالات المتطرّفة يدّعي المريض بأنه ميت لا وجود له ! وتحصل في حالات
الاكتئاب الشديد والفصام.
4. اوهام الاثم. وفيها يشعر المريض بالذنب، ويدّعي مسوؤليته عن آثام
لم يرتكبها. ويصف نفسه بالمذنب الذي ارتكب خطايا فضيعة يستحق العقاب
الصارم عليها، ولذلك فهو يسعى الى التكفير عن آثامه وذنوبه وخطاياه
بوسائل مختلفة، من ايذاء النفس وعقابها، بالامتناع عن الطعام مثلاً،
الى تدمير الذات بمحاولة الانتحار او ارتكابه فعلاً.
5. الاوهام المراقية. وفيها يعتقد المريض بأنه مصاب بمرض بالرغم من
توكيد الاطباء بانه سليم من أي مرض واثبات ذلك بالفحص السريري
والفحوصات المختبرية. ومع ذلك يظل يفسّر أي الم جسمي طفيف على انه دليل
قاطع بوجود مرض خطير، ويستمر متنقلاً من طبيب الى آخر.
6. اوهام العائدية او المرجعية. اعتقاد المصاب بها أن ما يدور من
كلام بين الناس او حركات او احداث على انها تعنيه هو بالذات. أي انه
يربط بين الذي يحدث حوله من قريب او بعيد وبين نفسه.
وتبعا لحالات الوهم التي يعيشها الانسان، اصبحنا نسمع عن صناعة
الاوهام التي تلبي حاجة كل انسان، الى شيء يتعلق به ويبعث الراحة في
نفسه، كما يشير الى ذلك جورج طرابيشي:
من علامات البؤس والبائسين اكتساء الأوهام ثوب الأحلام. الانسان لا
يمكن أنْ يصنع، عامداً متعمداً، وهماً لنفسه، لأن الوهم ضرر وهراء.
ثمة أوهام تنتج عن بعض الأمراض النفسية يصاب بها بعض الناس، وثمة
أوهام يحملها صاحبها نتيجة الشطط والمبالغة في التقدير والتفكير. لكننا
لا نتكلم عن هذا النوع من الأوهام، ولا عن هذه المصادر للاوهام.
نتكلم عن انتاج الأوهام بصورة عامدة متعمدة، حين يصنع الآخرون لك
وهماً أو تصنع لهم وهماً. شباك ترمى، ويكون الطعم وهماً، والضحية ليست
سمكة بل بشراً ينقصهم الوعي والسعادة.
ان انتاج وبيع وشراء الأوهام عملية رائجة في زماننا، في الاقتصاد
والسياسة والاجتماع والثقافة، في تريج نمط الحياة والافكار والصور
والأخبار، عملية تقوم بها أنظمة ودول ومؤسسات وافراد. وصناعة الأوهام
ليست عملية بسطية، أهنها أعقد من التجارب المخبرية، وهي محصلة لعناصر
عديدة تمثل شبكة، والعمليات العقلية التي تقف وراءها وداخلها يملك أن
نطلق عليها: منظومة فكرية. |