بعد اكثر من عام على مقتل زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، تطرح
اليوم تساؤلات كثيرة حول مستقبل هذا التنظيم وعن مدى تماسكه كتنظيم
اكتسب هيبة في نفوس الكثيرين، وما اذا كان لديه اهداف واضحة كما كان
يخيل للجميع عندما وقعت حوادث 11 سبتمبر الارهابية. وثمة تساؤلات اخرى
حول انعكاس حالة العزلة التي فرضت على رموزه بعد تلك الحادثة ومطاردتهم
في كل مكان وهل ادت الى ضعف هيكليته وخطوط اتصالاته، وما اذا كانت تلك
الاوضاع قد ساهمت في تسهيل عملية اختراقه من قبل القوى التي كان
يستهدفها اساسا.
كما تطرح تساؤلات جادة حول ما اذا كان ذلك الاختراق قد حرف مسيرة
ذلك التنظيم الذي ادهش العالم بعملياته التي تجاوزت التصورات في بعض
مفاصلها. وستظل الاسئلة قائمة حول دور ذلك الاختراق، ان كان قد حصل، في
وصول القوات الامريكية الى مكان اقامة زعيم التنظيم وقتله بدم بارد
وبدون ان تكون هناك ردة فعل من التنظيم على تلك العملية.
ما اصبح واضحا الآن ان القاعدة اصبحت اكثر انشغالا بـ "أعداء"
محليين وأقل توجها للاستمرار في مشروع بن لادن الذي يستهدف الغرب خصوصا
الولايات المتحدة الامريكية. يقول تقرير بثته وكالة انباء رويترز الشهر
الماضي: "ما كان اسامة بن لان ليرضى بان تنخرط الجماعات التي تستلهم
نهج تنظيم القاعدة، بصورة متزايدة في حركات تمرد في افريقيا والشرق
الاوسط مما يؤدي الى سقوط قتلى واحداث فوضى في المجتمعات المحلية".
انه تغير جوهري في استراتيجية التنظيم الذي استمد "شرعيته" الشعبية
وغطاءه الديني من استهداف الولايات المتحدة بشكل مباشر وبأشد اشكال
العنف وأخطرها. فما الذي حدث داخل هذا التنظيم الذي كان بمثابة البعبع
المخيف للغربيين على مدى عقد كامل؟ وما هي نقطة التحول التي دفعته
للسير في هذا المنحى الذي يقول تقرير رويترز انه “لا يرضي مؤسس التنظيم”؟
قصة "القاعدة" تعود بجذورها الى الثمانينات خلال ازمة الاحتلال
السوفياتي لافغانستان. فقد تأسست باشراف وكالة الاستخبارات المركزية
الامريكية، وتنفيذ جهاز الاستخبارات الباكستانية (آي. اس. آي) والتمويل
السعودي. كان الهدف من ذلك اضعاف القبضة السوفياتية على افغانستان
واعداد مجموعات للسيطرة على الحكم بعد سقوط الاحتلال. وفي العام 1989
تحقق ذلك، وخرجت القوات السوفياتية من ذلك البلد بعد عقد من الصراع
الدموي البشع. وكان ذلك الانسحاب بداية سقوط المنظومة الاشتراكية كلها
وليس الاتحاد السوفياتي وحده. خرج "المجاهدون" منتصرين، واصبح برهان
الدين رباني رئيسا لجمهورية افغانستان الاسلامية. وهنا بدأت محنة
"الافغان العرب" الذين كان الكثيرون منهم منخرطين في تنظيم القاعدة.
هؤلاء اصبحوا مقاتلين صقلت مهاراتهم المعارك الطاحنة مع القوات
السوفياتية، واصبح وجودهم يمثل خطرا للاستراتيجية الامريكية. فضغطت
واشنطن في 1992/1993 على حكومة رباني لطردهم، فمنهم من التحق بحرب
البوسنة والهرسك التي كانت قد اندلعت آنذاك، ومنهم من توجه الى السودان
( بعد قيام "ثورة الانقاذ") والصومال التي كانت على مشارف الحرب
الاهلية بعد سقوط نظام سياد بري.
الامر الذي يمكن افتراضه هنا ان اسامة بن لادن الذي كان احد
المقاتلين ضد القوات السوفياتية شعر بنشوة الانتصار وتعمق لديه الشعور
بانه ما دام المجاهدون قادرين على تحقيق النصر ضد الاتحاد السوفياتي
فسوف يستطيعون مواجهة الولايات المتحدة وهزيمتها. واصبحت ارضية التنظيم
مؤسسة على عقلية مواجهة الغرب مستفيدا من تجربة الصراع في افغانستان.
ومع وصول حركة طالبان الى الحكم في 1995 بدأ عهد جديد لتنظيم القاعدة.
فقد استطاعت لملمة شملها بعد التشتت الذي اصابها نتيجة طردها من
افغانستان. وعادت عناصرها مجددا الى افغانستان عبر البوابة
الباكستانية، وتحالفت مع طالبان بشكل متين. واصبح لها معسكرات تدريب في
ذلك البلد، وبدأت موجات المقاتلين تتجه نحو افغانستان.
التنظيم بدأ باعداد مقاتليه بعقلية المواجهة مع القوات الامريكية
في العالم الاسلامي. وبغض النظر عما اذا كانت الاستخبارات الامريكية
تعتقد ان القاعدة سوف تنفذ تهديداتها ضد امريكا، فان ما جرى في الحادي
عشر من سبتمبر ايقظ العالم على واقع جديد. فهناك تنظيم "ارهابي" شرس
استطاع القيام باكبر عملية ارهابية في التاريخ الحديث وقتل ما يقارب
الـ 3000 معظمهم من الامريكيين في عملية واحدة اشتملت على الكثير من
التعقيد والتداخل. ومنذ ذلك اليوم الذي غير مجرى التاريخ المعاصر، بدأ
الامريكيون والسعوديون يستشعرون الخطر الحقيقي لتنظيم القاعدة. واصبح
واضحا ان التنظيم الذي استطاع اختراق العديد من الحواجز والاحتياطات
الامنية في الولايات المتحدة خصوصا مطاراتها، قادر على الحاق المزيد من
الخسائر بالغربيين خصوصا امريكا والسعودية، وان الوضع يتطلب خطة عاجلة
تستطيع احتواء الخطر على المدى البعيد.
وبشكل خاص بدا الحكم السعودي اكثر تحسسا للخطر نظرا لهشاشة اوضاعه
الداخلية وخشيته المستمرة من اعمال الارهاب التي تستهدف مصالحه. كان
واضحا في البداية ان اسامة بن لادن يحمل مشروعا عالميا يهدف لالحاق
هزيمة عسكرية بالولايات المتحدة الامريكية التي اعتبرها مصدرا لمصائب
الامتين العربية والاسلامية. ويشترك في هذه النظرة مع كافة الثوريين في
العالم الذين رأوا في امريكا معوقا لتقدم بلدانهم وتكريسا لاستبداد
حكامهم، ومصداقا للهيمنة على اراضيهم. واعتقد كذلك ان استهداف المصالح
الامريكية بالاعمال الارهابية سوف يضعفها ويهزمها. وتؤكد وقائع التاريخ
ان القوى الكبرى لا تهزم عادة باعمال من هذا النوع، مهما توسعت، خصوصا
ان الضحايا من البشر العاديين الذين لا يؤثر قتلهم على توازنات القوى
المحلية عادة.
وينتمي زعيم القاعدة الى المدرسة السلفية التي رعاها النظام السعودي
من خلال علماء المذهب الوهابي الحليف للحكم السعودي. وقد اتضح له
ولغيره ان بامكان النظام السعودي تطويع المؤسسة الدينية لخدمة مصالحه.
وهذا ما فعله في العام 1990 عندما جمع اكثر من 400 من العلماء (من
بينهم علماء كبار مرموقون مثل الشيخ يوسف القرضاوي) في مؤتمر مكة وحصل
منهم فتوى تجيز له الاستعانة بقوات "الدول الكافرة" لمواجهة القوات
العراقية في الكويت واخراجها. ولم يشذ عن موقف الدعم لاستقدام القوات
الاجنبية الا عدد محدود من العلماء والنشطاء. وراى بن لادن ان استقدام
تلك القوات الامريكية ادى الى تقوية الولايات المتحدة واعاد لها ثقتها
النفسية التي فقدتها في إثر تجربتها المرة في فيتنام. وراى في ذلك
تقوية لـ "عدو متآمر" ضد الامة، ولذلك جند طاقاته لمواجهتها، واصبح
المشهد الدولي مهيأ لمنازلات كبيرة. واستفاد من وجود نظام طالبان
لتسهيل مهمات تنظيمه، فاصبحت افغانستان محطة لعناصر القاعدة التي وسعت
دائرة عملها لتمتد الى شرق أسيا وجنوب شرقها، والى افريقيا والغرب.
بعد حوادث 11 سبتمبر كان واضحا ان الغربيين سوف يواجهون المزيد من
الهجمات حتى لو استهدفوا عناصر القاعدة واغتالوها. فقد انتشرت ثقافة
الموت في اوساط الشباب وتمكنت القاعدة من التأثير على عقول الشباب بشكل
غير مسبوق، فاصبحت التضحية بالنفس امرا عاديا على اساس انه سوف يعجل
اللقاء مع الانبياء والرسل في الجنة. وهنا تم توافق الدول المعنية بشأن
القاعدة، خصوصا الولايات المتحدة والسعودية وبعض الدول الغربية. فبدلا
من حصر المواجهة بالاستهداف العسكري لعناصر القاعدة، تبلورت لدى هذه
القوى افكار عديدة اهمها نخر التنظيم من داخله، وغرس عناصر فاعلة وسط
التنظيم ولكن ضمن مشاريع عمل أخرى واولويات تختلف عما لدى بن لادن.
فبعد الملاحقات لتنظيم القاعدة بعد 11 سبتمبر جاء التدخل الامريكي في
العراق.
وهنا بدأ المشروع الطائفي يتخذ اشكالا جديدة. فبدلا من اخلاء الجو
للقاعدة لاستهداف الامريكيين، اكتشفت هذه القوى اهمية السلاح الطائفي.
فماذا يضر الغربيين والنظام السعودي لو ان القاعدة توجهت بمنحى آخر
واصبحت تستهدف اهدافا اخرى اقل تكلفة واكثر فائدة للمشروع الغربي
الصهيوني؟ وهكذا تم اختراق تنظيم القاعدة بعناصر متحمسة للمشروع
الطائفي استفادت من غياب الرموز الكبيرة في جبال تورا بورا النائية او
في سجن جوانتنامو او المخابيء السرية التي يستحيل عليهم فيها التواصل
مع عناصر التنظيم الاخرى. في البداية اصبحت العناصر القاعدية الجديدة
تستهدف "الشيعة" في العراق بدعوى انهم عملاء لامريكا ثم توسعت واصبحت
تستهدف الصوفيين واتباع المذاهب الاخرى وهذا واضح من استهداف مساجدهم
في مصر وليبيا ومالي.
الامر المؤكد ان هذا المنحى حدث في غياب القيادات القاعدية الكبرى
التي لم تكن راضية عنه. فمثلا في 2005 كتب ابو محمد المقدسي (وهو رمز
سلفي كان معتقلا مع الزرقاوي في السجون الاردنية، ويعتبر استاذا له)
رسالة الى ابي مصعب الزرقاوي ناقشه فيها حول ما اسماه "الاختيارات
الجهادية". يقول الكاتب محمد سليمان في مقال حول هذا الموضوع نشر في
7/1/2005 بموقع "العصر"، ان المقدسي كان " يقصد بذلك العمليات الجهادية
والقتالية التي تخوضها جماعة الزرقاوي، والمسألة المحورية هي ضرورة
"التحرز في سفك دماء المسلمين"، وعدم الاستخفاف بقتل المدنيين والعزل
والناس الأبرياء تحت ضغط وطأة الصراع مع العدو الأمريكي؛ فوضع العبوات
المتفجرة والناسفة والعمليات التي تتم في تجمعات عامة كالأسواق والمدن
وتذهب بأرواح المدنيين تعمل على تشويه صورة الإسلام المشرقة، وتلوث
أيدي المجاهدين المتوضئة بدماء المعصومين". وأضاف: "من القضايا
المحظورة في هذا المجال التورط في اختيار أدوات ووسائل "غير مشروعة"
كعمليات الخطف أو قتل المسلمين بحجة "العمل عند الكفار"، ومن الواضح أن
المقدسي في هذا التحذير يشير إلى عمليات خطف الرهائن والذبح".
وينتقد المقدسي التوسع في "العمليات الاستشهادية"، ويحذر من التساهل
في شروط علماء الإسلام في إباحة هذه العمليات، وخطورة الاعتماد عليها
كأداة جهادية أساسية في حين أنها أداة "استثنائية" في الأصل يلجأ لها
عند الضرورات، وهو بذلك يوجه رسالة غير مباشرة في نقد اعتماد جماعة
الزرقاوي على العمليات الاستشهادية كاختيار قتالي رئيسي، وليس
استثنائيا.
وجاء في تقرير رويترز المذكور تصريح للسيد ريتشارد باريت منسق فريق
مراقبة القاعدة وطالبان في الامم المتحدة: "القاعدة اصبحت علما بارزا
لاي جماعة تسعى بالاساس لتحقيق اهداف محلية لكنها ترغب في المبالغة في
مدى عملياتها وتطورها." واضاف "القاعدة فقدت الكثير من سمعتها كرائدة
لقضية عالمية ولأن انشطة الجماعات المنتمية لها توقع المزيد من القتلى
وتلحق الدمار بالمجتمعات المحلية فستتسارع هذه العملية." ويقول التقرير
" إن مجموعة كبيرة من اتباع القاعدة المسلحين متعددي الاعراق مهتمة
فيما يبدو بإخضاع المجتمعات المحلية للحكم الاسلامي بعد القضاء على اي
معارضة.
واليوم لم تعد القاعدة تدار مركزيا بعدما كانت شبكة تسلسلية من
المتآمرين الذين هاجموا الولايات المتحدة يوم 11 سبتمبر ايلول 2001 تحت
قيادة بن لادن". ويضيف: "رغم ذلك توجد لها فروع غير "القاعدة في جزيرة
العرب". ففي شمال افريقيا ومنطقة الصحراء كان تنظيم "القاعدة ببلاد
المغرب الاسلامي" مسؤولا عن خطف وقتل غربيين بالاضافة الى افارقة في
حين يدمر الاسلاميون في مالي على نحو منهجي الكنوز الثقافية لتمبكتو.
وفي الصومال تقاتل حركة الشباب قوات الاتحاد الافريقي وشنت هجمات على
كينيا المجاورة في حين تستهدف جماعة بوكو حرام في نيجيريا المسيحيين
المحليين بالاضافة الى الحكومة والامم المتحدة".
وبرغم عدم توفر معلومات دقيقة فان الخط السلفي التكفيري اخترق تنظيم
القاعدة بقوة وحرف مسارها بشكل جذري. وادرك بن لادن هذه الحقيقة قبل
اغتياله، حسب ما ذكره الامريكيون. فبعض الخطابات التي وجدتها القوات
الامريكية في مخبئه في باكستان يشير الى انه قد تكون لديه قبل مقتله
بسنوات احساس بأن بعض الجماعات التي تستلهم نهج القاعدة باتت غير قادرة
او غير مهتمة على نحو متزايد بضرب "العدو البعيد".
وحسب تقرير رويترز فان الخطابات التي نشر 17 منها في مايو ايار
الماضي تظهر مدى قلقه من ان الجماعات التي تعمل باسم القاعدة تهدر
الطاقة في محاولة اقامة ادارات محلية واغضاب المسلمين المحليين بقتل
المدنيين المسلمين. وتشير كذلك الى اعجابه بالربيع العربي الذي وصفه
بأنه "حدث هائل" وحث المواطنين المحليين على الانضمام اليه لكنه اشار
الى ان حلفاء القاعدة مثل "القاعدة في جزيرة العرب" يجب ان يركزوا على
محاربة الولايات المتحدة، بحسب رويترز. وكتب في شهر مايو ايار تقريبا
عام 2010 في احد الخطابات التي نشرها مركز مكافحة الارهاب وهو وحدة بحث
في الاكاديمية العسكرية الامريكية بوست بوينت: "لذا ينبغي المواصلة
والاستمرار في استنزافه (العدو الامريكي) وارهاقه ليصل الى حالة من
الضعف لا تمكنه من اسقاط اي دولة نقيمها." واضاف: "ان الاعمال التي لا
تسهم في استنزاف امريكا تضعف اكثرها من جهود التنظيم وتبدد طاقته."
ويتوقع محللون انه كان يدور في ذهنه خطر تكرار تجربة القاعدة في
العراق حيث ناصبت الجماعات المنتمية للقاعدة العداء لاشخاص محليين
بسلسلة من المذابح. وادى هذا الى تحول الميليشيات القبلية السنية الامر
الذي ساعد قوات الاحتلال الامريكي على الانتصار على التمرد. هذه
المعطيات تؤكد ان السعودية وحلفاءها الغربيين نجحوا في اعادة توجيه
مجموعات عديدة تعمل باسم القاعدة ليس لترويج الطائفية فحسب بل لتحويل
العلاقات بين المسلمين الى حالة دموية تمنع قيام وحدة حقيقية في ما
بينهم وتحول دون قيام توافق حيال اية قضية عربية او اسلامية كبيرة. وما
حالة الاحتقان الطائفي التي تتعمق خصوصا في المشرق العربي الا دليل على
نجاح نسبي للسلاح الطائفي في إبعاد الاهتمام بالسياسات الامريكية
وتخفيف الضغط على "اسرائيل" وقتل روح الثورة ضد الاستبداد
والديكتاتورية، وحرف مسارات الثورة حتى في البلدان التي تحقق فيها شيء
من التغيير. ألم يحن الوقت لكسر جدار الصمت ازاء هذا الوضع لافشال خطط
حرف مسارات النضال والثورة وحماية الاحتلال؟ |