همّش.. هامش.. هوامش... الروتين التعقيدي وغيره في العراق

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: تروى عن احد ضباط الجيش العراقي الذين انضموا اليه بعد العام 2003 نتيجة المحاصصات الوطنية والطائفية والعرقية والمذهبية والقومية الى اخر التوصيفات لحالة المحاصصة العراقية، احد هؤلاء الضباط وقد جلس على مكتبه، وجهاز التكييف يحيل الغرفة الى ثلاجة ينعم فيها بالبرودة الذهبية، ان رئيس عرفاء الوحدة ادخل عليه البريد الذي يحتاج الى توقيعه وتوجيهه كما هو معمول في المخاطبات الرسمية، سال رئيس عرفاء الوحدة: ماذا افعل بهذا البريد؟

اجابه: همّش عليه سيدي.

اخذ قلمه وكتب كلمة (همّش) دون زيادة او نقصان.

ما اريد ان اقول؟

الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب.

ليس هذا موضوعي بل هو المدخل لكلمة همّش، التي تتفرع الى الهامش والهوامش والتهميش، وهي مفردة عزيزة على القلوب، قلوب الموظفين العموميين في العراق، ولست في وارد الحديث عن بقية بلداننا العربية.

الروتين سيد الوظائف المبجل، لا يترجل من عليائه، ولا يفارق مكانته او زمانه، انه المستبد بالقلوب، مالك العقول، لكثرة تواجده استحق اضافة في التوصيف فقيل (روتين التعقيدي)، اي انه يعقّد ما لايعقّد، ويصعّب البسيط، ولا يبسّط الصعب.

لكل معاملة اولياتها، وابرزها المقدسات الاربعة (هوية الاحوال المدنية – شهادة الجنسية العراقية – البطاقة التموينية – بطاقة السكن) وتلك تدرج في المعاملة بالالوان الطبيعية، فلا ابيض او اسود مقبول، لكراهية السواد، ولتشويش النظر بالنسبة للبياضات.

لا احب مراجعة الدوائر الرسمية، وان اضطررت الى ذلك، استعد لهذا الاضطرار (بالبسملة والحوقلة والهللة)، واية (انا جعلنا بين ايديهم سدا ومن خلفهم سدا فاغشيناهم فهم لايبصرون). آتي الى الدائرة المختصة بعد استحمام ووضوء، لتوهم ان الطهارة ستزيل كثيرا من قذارات ما قد اصادفه.

ما اطمح اليه؟ انجاز سريع. تلك امنية مستحيلة.

ماهي الخطوة الاولى؟

الطلب والمرفقات.

وبعد ذلك؟

تهميش المدير. همّش السيد المدير. الى شباك رقم واحد. الموظف يتثاءب، لم ينم ليلته السابقة، من حر ربما، ويمكن من عتّ وجر ربما، او ليلة حمراء بلون عيوني من غضب التنقل بين شباك واخر.

الى شباك رقم اثنين.

تدقيق ما دققه موظف الشباك رقم واحد، الى شباك رقم ثلاثة. المعاملة بدأت تسمن، اوراق جديدة تضاف اليها، تدقيق جديد، وطلب اوراق اخرى، ثم الى الشباك رقم اربعة.

انها اللجنة القانونية، انها عصب الاقسام في تلك الدائرة.

يعيدك الى الشباك رقم واحد، عليك ان تملأ استمارة جديدة، ثم العودة الى الشباك رقم اربعة، هامش، والان تتحرك صوب الشباك رقم ستة، انها الحاسبة، لا يوجد لديه معاملة سابقة.

الى الشباك رقم اربعة، يهمّش عليها من جديد، الى الشباك رقم واحد.

الاوراق تزداد، حتى الان احصيت بدافع الفضول، اربعة وثلاثين ورقة، ولم احقق نتيجة، الجميع يسجل اهدافا في مرماي، وانا دفاعاتي تنهار تدريجيا.

اجلس في غرفة الاستعلامات، بعد ان اغافل المسؤول عن حراسة الهيكل المقدس.الذي حين يطالبنا بالخروج ولا ينفع ذلك فانه يهددنا بالحرس، ونصاب حينها بالخرس، خرس اللسان، وخرس الاطراف.

يأتي مدير العلاقات العامة يسأل موظف الصادر، كم معاملة انجزت؟

خمسون معاملة... والانجاز كما رايته في معاملتي لم يتحرك خارج لوحة الشبابيك، ولم يتزحزح الى خارج الدائرة قيد انملة كما يقول النحاة واللفويون.

تخليت عن طموح الانجاز السريع، وبدأت طموحا جديدا، معاملة خالية من الاخطاء.

لا اوافق على طلبك، قال لي المسؤول القانوني، بعد اسبوع من الترحال بين الشبابيك، لماذا ايها المبجل؟ لست مشمولا بهذا التوصيف. لكنك لم تفهم الوصف بدقة، افهمته، واعلمته، بما اطلب واريد.

حسنا اعطيك كتابا الى تلك الجهة، وحتى ذلك الحين لا اوافق، خذها الى المدير كي يوافق بنفسه. المدير وافق مسبقا، لكنه بحاجة الى موافقة مكتوبة بخط المدير. المدير لا يصرّح، انه يلمّح، لكن التلميح لايملّح معاملتي، اريد تصريحا كاشفا وافيا ودقيقا، يقلب الاوراق بين يديه، ويكتب هامشا جديدا، الى الشباك رقم اربعة، حيث تركت الطلب معلقا على حافة القبول، لكنه الى الرفض اقرب.

حتى لو انجزت كل شيء لا اوافق، لماذا يتكلم رجال القانون دون فهم؟ انك تصيبني بالارباك، واخذ عقلي يرتبك بما تقول، ساصاب بالجنون، فكل الشروط احوز عليها، حسنا اعطيك الكتاب وما تريد، وبعدها نرى ما يستجد.

الى الشباك رقم واحد، ليس لدينا نسخة من ذلك الكتاب، اعود الى القانونية، اتصال هاتفي، اجلبوا لي جميع النسخ الموجودة من تلك الكتب. ان هي الا دقائق، ليس لدينا غير هذه النسخة الوحيدة، اطبعوا المزيد.

لم يتبق من الوقت الكثير، والموظفون صائمون، متعبون، عطشى، جائعون، والزمن يتلاشى بين الشبابيك، خرج الكتاب، ملفوفا بمغلف اسمر، ما احلى هذه السمرة، تتخطفه يدي، واتذكر رقم الخمسين، انجاز كبير، منذ الساعة التاسعة وحتى الثانية ظهرا.

أصاب بالقهر، ولا مفر من العودة اليهم غدا.

ماهو الهامش؟ الذي يشتق من الفعل (همش)؟ انه ما يكتب تحت السطور، توضيحا او تعليقا او تصحيحا، لتبيان مصدر قول او فكرة، او لشرح غامض، او للاشارة الى سابق،

وجمعه: هَوَامِشُ. وله عدة دلالات:

1. (عَلَى هَامِشِ الدَّفْتَرِ): عَلَى حَاشِيَتِهِ.

2.(يَعِيشُ عَلَى هَامِشِ الْمُجْتَمَعِ): خَارِجَ سِيَاقِ الْمُجْتَمَعِ.

3. (تَرَكَهُ عَلَى الْهَامِشِ): عَلَى الْجَانِبِ.

4. (عَلَى هَامِشِ الْحَدَثِ): بِمُنَاسَبَة.

5.(عَلَى هَامِشِ الْأَخْبَارِ): تَعْلِيقاً عَلَى مَا وَرَدَ فِيهَا.

وهمشه: عاجله، حثه.

وهمَش الرَّجلُ أكثر الكلامَ في غير صواب.

حياتي الان، زمني، اعصابي، عملي، معلقة على تلك الهوامش التي يكتبها الموظفون، ولست وحدي في ذلك، الجميع معلومة في هامش، والجميع يحيى على هوامش كل شيء، انسانيتنا، تديننا، اخلاقنا، ضمائرنا، كلها عبارة عن هوامش، لاتصعد الى السطور العليا، اليس ذلك هو موقعنا في هذا البلد وتلك الحياة؟

من يعترض؟

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 4/آب/2012 - 15/رمضان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م