النظام السّعودي وعقيدة انتهاك حقوق الإنسان...؟

مصطفى قطبي

أغرب من الخيال هذا الذي يجري في السعودية اليوم، السواد الأعظم من الشعب السعودي يأكلها الفقر ويطحنها الجوع، وتميتها عنصرية الأسرة الحاكمة، في الوقت الذي تتضخم فيه ثروات الفئات الطفيلية الحاكمة بصورة لم يسبق لها مثيل. وعلى الصعيد الخارجي، نرى الملك السعودي المريض يهرع إلى الإمبريالية الأمريكية، يرتمي على أقدامها ويترامى على عتباتها... ويجعل دولته في خدمة تنفيذ أغراض السياسة الأمريكية... وحين يعترض كتاب السعودية الشرفاء والمعارضون وصحفيوها على الحماقات الصبيانية التي تجعل من السعودية نظاماً مكروهاً لدى الشعوب العربية والإسلامية بعد الولايات المتحدة الأمريكية، حين يعترض أي كاتب أو صحفي حر أو معارض شريف، فإنه يتهم بالخيانة العظمى وتسوقهم مخابرات آل سعود، إلى المحاكم الصورية وغياهب السجون والتعذيب. وهكذا أصبح الرأي المعارض والكلمة الشريفة الحرة تشكل لدى أسرة آل سعود الوهابية، خيانة عظمى يعاقب صاحبها بالإعدام.

تثير أعمال القمع اللامحدود التي تقوم بها السلطات السعودية ضد شعبها الرازح تحت نير الاستعباد منذ عقود، تثير القلق والسخط لدى مختلف المواطنين في بلاد مترامية الأطراف ويحكمها آل سعود بالقوة الغاشمة، حيث أقاموا حكمهم بحد السيف وبمدافع الإنجليز، واعتبار البلاد ملكهم الخاص مثل أغنامهم وإبلهم ونسائهم، كما يؤكد الخبراء.‏

فآلة القمع تسحق جماهير نجد والحجاز قهراً واستعباداً البلاد والعباد، حيث تستبعد أيّة اعتبارات لمنابت الطهر في مكة المكّرمة والمدينة المنورة وتختزل الأرض وأهلوها هناك ليقال (السعودية) وهنا لابّد من القول: ليس في تاريخ الشعوب على مرّ الزمان واقعة تبتلع فيها الأرض، ويلغى فيها الانسان كما في أرض الحجاز إنّه زمن علا قدر الوضيع به، زمن غدت الكلمة السيئة فيه تمحو الحسنات والعبارة الملغومة تجهز على الوضوح، زمن قلبت فيه المعادلات حتى باتت متأرجحة مهزومة حزينة باكية.

لقد دخل النظام السعودي وحكام آل سعود في حالة من الجنون بعد الجريمة الفظيعة التي ارتكبها مؤخراً بحق مواطنيه ورجال الدين في المنطقة الشرقية من السعودية وانتهاكاته لحقوق الإنسان ليعكس بذلك صورته القبيحة التي تتستر وراء الإسلام لتحكم وتتحكّم بالبلاد والعباد على هواها وكما تشاء حتى بات بعض من داخل العائلة الحاكمة أشد كرهاً لهؤلاء الحكام ووقاحتهم في حكم البلاد من ممارسات للقمع وكمّ الأفواه‏ وتلفيق الاتهامات لكل ذوي الرأي والمعارضين ولم يكتف هذا النظام بذلك بل تجاوز حدود بلاده ليتدخل في شؤون داخلية لدول أخرى ويسخّر أمواله ونفطه للفتنة والقتل في بلدان عربية وبخاصة في سورية، ويرسل قواته ''درع الجزيرة'' الى البحرين لتقتل وتقمع الاحتجاجات السلمية هناك، كما عَمَد بعض من أفراد الأسرة الحاكمة للفرار من البلاد وطلب اللجوء السياسي هرباً من الجور الذي يتعرضون له ضمن العائلة كما فعلت الأميرة سارة بنت طلال بن عبد العزيز، وعلى خلفية قيام نظام آل سعود بقتل الشاخوري ومحمد الفلفل والشاب عبد الله الأوجامي بنيران قوات الأمن السعودي وأصيب عشرون آخرون خلال تظاهرة احتجاجية خرجت تنديداً باعتقال الشيخ نمر النمر من قبل السلطات... فقد اندلعت احتجاجات شعبية غاضبة ضد آل سعود في جميع المناطق في محافظة القطيف.‏‏ كما خرجت مسيرة جماهيرية غاضبة في شوارع العوامية، احتجاجاً على عملية اعتقال الشيخ التي وصفوها بالقرصنة المقصودة.‏‏ وردد المشاركون شعارات ''الشعب يندد بانتهاك آل سعود لحقوق الانسان'' مطالبين بالكفّ عن معاملة المنطقة الشرقية وأهلها بأنها منطقة خارجة على القانون. وأكد المحتجون ان التظاهرات لن تتوقف قبل ان تفرج السلطات السعودية عن الشيخ النمر ومعاقبة المخططين لمحاولة اغتياله.‏‏

ليس المشهد الاحتجاجي قطيفياً أو بالأحرى شيعياً على أي حال، رغم محاولات النظام السعودي لجهة جعله كذلك، حتى يحقق خطاب (التجييش الطائفي) مفعوله المأمول، والواقع أن ظاهرة الاعتراض السياسي شعبية وعابرة للمناطق والطوائف، وتمثل مواقع التواصل الاجتماعي (تويتر وفيسبوك) المجسّات الحقيقية لعمق ومساحة التحوّل في وعي شعب المملكة السعودية. مثال عابر: ذكر رئيس جمعية الحقوق المدنية والسياسية في السعودية وعضو هيئة حقوق الإنسان في السعودية، وهي هيئة شبه رسمية، محمد فهد القحطاني في برنامج تلفزيوني على قناة الحرة في 2 أيلول من العام الماضي بأن هناك 30 ألف معتقل سياسي في السعودية. ومن المؤكّد أن الغالبية الساحقة من هؤلاء المعتقلين هم من المناطق الأخرى، أو بالأحرى من غير الشيعة.

ما حدث أنّ المسؤولين في النظام لم يفهموا تراكم المتغيّرات في المجتمع السعودي الذي تشكل الفئة الشابة الغالبية الساحقة فيه، ولم يدركوا أنّ للشباب متطلبات لم تعد الأدوات والمناهج القديمة في التعاطي معهم مجدية في دفنها، وها هي تخرج إلى السطح بشكل لم يكن متوقعاً، لتؤكد على تغيير صريح في طبيعة تفكير الشبان والشابات. إذ إنّهم يخرجون في مسيرات جماعية مطالبين بإقالة أكبر المسؤولين الفاسدين، ويقدمون مطالبهم بطريقة تختلف عن استجداء الهبات والمكرمات التي كان من المفترض أنّ العقل السعودي قد تعوّد عليها، ويرفضون الواقع الحالي بما يحمله من فساد وفشل إداري وتنموي.

ويشعر المراقب لما يجري في السعودية بأن ثمة تسافلاً سريعاً لمقام الدولة، وأن سلوك الأجهزة الأمنية والإعلامية والدينية في شكله الموتور إزاء حركة الاحتجاجات، يخبر عن تحوّل عميق في الوعي الشعبي وهو ما يقرر طبيعة ميزان القوى، فقد بدا السلوك الرسمي، وكأن السلطات السعودية باتت جزءاً من لعبة صغيرة، فلم تعد تتصرّف وفق منطق الدولة، وبات اللعب في عراء السياسة وليس في كواليسها، بل تحوّل رجال السلطة في لحظة (انفلات غرائزي) الى مجرد عصابة (فقد هدّد أمير المنطقة الشرقية محمد بن فهد زوّاره الشيعة ذات لقاء، بأن أبناءكم المنتشرين في أرجاء المملكة مرصودون ويمكن اقتناصهم) إشارة الى القتل في عمليات طائفية.

والمتابع لما يحدث في السعودية من حركات احتجاجية وتظاهرات سلمية تنديداً بالظلم والاضطهاد الذي يقع على الشعب في المملكة، تتزاحم في ذاكرته عشرات الأسئلة، ربما يكون أهمها، كيف لدولة يحكمها آل سعود أن تنصب نفسها حامية لحقوق الإنسان في دول أخرى، وحقوق إنسانها ضائعة في ملفات الفساد الملكي والأميري من أكبر رأس حتى إلى من هم في المهد. إذاً فأولئك غارقون في الذنوب والخطايا ولم يصلحوا أنفسهم حتى يدعون لإصلاح غيرهم، فيما لو افترضنا أن الطرف الآخر بحاجة للنصح والإرشاد، فكيف إذا كان المستهدف بنصحهم لا حاجة له بما تنضح أوانيهم الملأى بالأحقاد والضغائن.‏

وما يثير الضحك والسخرية، اعتراض حكام آل سعود على تقييم روسيا لوضع حقوق الإنسان في ''مزرعتهم'' واعتبار النطق بحقائق ما يجري على أرضهم من انتهاك لحقوق الإنسان وظلم وقهر اجتماعي تدخل بشؤونهم الداخلية... فحكام آل سعود ومن خلال الاعتماد على عصابات المجموعات الوهابية وإطلاق يدهم في قمع الشعب السعودي، كمّ أفواه المواطنين ومنعهم من المطالبة بحقوقهم، حتى باتت أقبية زنزانات حكام آل سعود ملأى بمعتقلي الرأي وطالبي الحريات.‏ فحالة الاهتراء والتعفن الداخلي التي وصلت إليها مملكة آل سعود جراء ظلمهم وقهرهم للمواطن وحرمانه من أبسط حقوق الإنسان... دفعت بالطغمة الحاكمة إلى دعم الحركات الأصولية التكفيرية هنا وهناك... محاولة إشعال نيران الاقتتال الداخلي في العديد من الدول العربية، ظناً منها أنها بذلك ستكون بمنأى عن انتفاضة شعبية حقيقية تهز كراسي الظلم في قصور المجون.‏

لقد انتفض حكام آل سعود ضد كلمة حق روسية... وهم المنزعجون دائماً من الكلمة والموقف الروسي... ودليل ذلك أن مسألة حقوق الإنسان في المملكة وانتهاكها، أو بالأحرى عدم وجود حقوق للمواطن، ليست الأولى التي تنتقد بل هي بند دائم وكليشة ثابتة على جميع اجتماعات ووثائق المنظمات الدولية الرسمية وغير الرسمية في العالم، ولم نسمع أبداً أي '' مسؤول'' سعودي اعترض أو انتقد؟!‏

أما منظمة العفو الدولية فقد أكدت أن السلطات السعودية تجاوزت كل الحدود في انتهاكها لحقوق الانسان على أراضيها وبخاصة في المنطقة الشرقية ولم يسلم من انتهاكاتها هذه حتى العمال الأجانب الذين يخضعون لمزاجية مشغلهم وهو بدوره لا حسيب ولا رقيب على تصرفاته تجاههم. وفي هذا السياق فقد قالت منظمة العفو الدولية في تقريرها السنوي لعام 2012 أن السعودية قمعت بلا رحمة المظاهرات السلمية التي خرجت فيها وألقت القبض على مئات الأشخاص الذين احتجوا للمطالبة بالإصلاح وقدم بعضهم إلى القضاء بتهم سياسية أو تتعلق بالأمن فيما بقي في السجون آلاف الاشخاص بتهمة جرائم تتصل بالأمن.‏‏ وقال التقرير الذي نشر على موقع منظمة العفو الدولية على الانترنت أن السرية في السعودية بقيت تكتنف نظام العدالة والمعلومات عن المعتقلين بمن فيهم سجناء الرأي على الرغم من أن استمرار التعذيب والمحاكمات غير العادلة كان واضحاً كما استمر فرض وتنفيذ عقوبات قاسية ولا إنسانية ومهينة وبالأخص الجلد.‏‏ وأوضح التقرير أن النساء بقين عرضة للتمييز والعنف في القانون وعند تطبيقه وأدت زيادة حملات المطالبة بحقوق النساء إلى اعتقالات كما تعرض العمال الأجانب للاستغلال والإيذاء على أيدي مستخدميهم الذين ظلوا بمنأى عن العقاب.‏‏ وأضاف التقرير أن السلطات السعودية ناقشت قانوناً جديداً لمكافحة الإرهاب في مجلس الشورى لكن لم يتم إقراره كما أن صيغة مسودة القانون الجديد التي تسربت إلى منظمة العفو الدولية تقترح إضافة سلطات كبيرة جديدة إلى ما يتمتع به وزير الداخلية الان بالفعل وتمنح صلاحية إصدار أحكام السجن على كل من ينتقد الملك أو يعرب عن معارضته للحكومة كما يسمح القانون باعتقال المشتبه فيهم دون اتهام أو محاكمة لأجل غير مسمى.

‏‏ وأشار التقرير الى أن مسودة القانون الجديد تزود وزير الداخلية بصلاحيات بالتصنت على الهواتف وتفتيش المنازل دون إذن قضائي. وأوضح التقرير أن السلطات السعودية اعتقلت آلاف الاشخاص للاشتباه في صلتهم بجرائم تتصل بالأمن وظل كثيرون قيد الاعتقال لفترات طويلة دون توجيه أي اتهام لهم رغم أن الحد الأقصى للاعتقال دون محاكمة هو ستة أشهر ومن بينهم معارضون للحكومة.‏‏

وبخصوص حرية التعبير قال التقرير أن السعودية شددت القيود على حرية التعبير حيث أصدرت المحكمة الجزائية المختصة التي أنشئت للنظر في القضايا المتعلقة بالإرهاب أحكاماً بالسجن تتراوح بين خمسة أعوام وثلاثين عاماً على 16 رجلاً من بينهم تسعة إصلاحيين بارزين لأنهم حاولوا تأسيس جمعية لحقوق الانسان وتمت إدانتهم بتهم تشمل تشكيل تنظيم سري ومحاولة الاستيلاء على السلطة والتحريض ضد الملك وتمويل الإرهاب وغسيل الأموال.‏‏ ولفت التقرير الى أن السلطات السعودية قمعت محاولات تنظيم احتجاجات وألقي القبض على أولئك الذين حاولوا الاحتجاج وتعرضوا لغير ذلك من أشكال القمع.‏‏

وحول حقوق المرأة قال التقرير أن المرأة السعودية ما زالت تعاني من التمييز الشديد في القانون والممارسة العملية حيث يجب عليها الحصول على إذن من الرجل الوصي عليها قبل السفر أو الالتحاق بعمل مدفوع الأجر أو بالتعليم العالي أو الزواج، كما أن العنف الأسري ضد المرأة ما زال شائعاً.‏‏ وأضاف التقرير أن النساء في السعودية شاركن في دعوات الإصلاح التي نظمت تأييداً لحقوق المرأة كما شنت حملة على الانترنت لحث النساء السعوديات على الحصول على رخص قيادة دولية ولكنه سرعان ما تم إلقاء القبض على بعضهن وأجبرن على التوقيع على تعهدات بالكف عن ذلك وقد أصبحت الحملة جزءا من حملة جديدة أوسع منها للمطالبة بحقوق المرأة بعنوان حقي... كرامتي.‏‏

ورغم كل التضييق على الحريات العامة، إلا أن وهمٌ الخصوصية السعودية قد سقط بحراك الطالبات والطلاب. إذ روّج الخطاب الإعلامي الرسمي لعدم وجود تأثيرات للربيع العربي على المجتمع السعودي. وتوهم البعض أنّ الرخاء الاقتصادي سيقف سداً منيعاً بوجه أي تأثير للربيع العربي على السعوديين، لكن المفاجئ بالنسبة إليهم أنّ هذا الرخاء السطحي وغير المؤسس على أسس متينة كان هو الثغرة الرئيسية التي نفذت منها تأثيرات الربيع العربي. فالفساد في الجامعات والمؤسسات المختلفة والفقر والبطالة المتزايدة التي تدفع شباناً يافعين للانتحار، صارت قضايا لا يمكن تجاهل تأثيراتها في تحريك الناس للمطالبة بحقوقهم. ولا يقدم منع الناس من الحديث عن الفقر مثلاً في وسائل الإعلام، إلا صباً للزيت على نار المشكلة. فتأثيرات الربيع العربي واضحة في طريقة حركة الطالبات والطلاب، وتجمعهم للتعبير عن مطالبهم المشروعة. لكن من المهم التأكيد أنّ طريقة تعاطي الناس مع مشاكلهم تتغيّر، والحراك الطلابي يقدم نموذجاً بجانب نماذج أخرى للإضراب عن العمل في شركات ومؤسسات مختلفة تتزايد مع مرور الوقت، وهو ما يؤكد وجود تأثير حقيقي يتعلق تحديداً بثقافة المطالبة بالحقوق واتخاذ أشكال مختلفة وجديدة في التعبير عنها.

 فالحراك الطلابي يشير إلى سقوط الوهم المتعلق بكون الطالبات والطلاب في الجامعات السعودية مدجنين بشكل كامل وبعيدين تماماً عن الأجواء الطلابية المعتادة في البلدان العربية الأخرى. فقد قدم الحراك الأخير رسالة تتعلق بأهمية إيجاد اتحادات طلابية منتخبة، تستوعب الطلاب، وتمثل كياناً لهم يحرص على حقوقهم ومصالحهم وتحترمه إدارات الجامعات.

يضاف إلى ذلك تراكم الكبت الخاص بالمرأة السعودية، وقد أظهر تصدّي الطالبات تحديداً لقيادة الحراك رغبة منهن في التعبير عن ذواتهن ومطالبهن بشكل واضح عبر إسماع أصواتهن للمسؤولين وأصحاب القرار. ولا يمكن عزل هذه الحركة عن تراكم الغبن الذي تشعر به النساء السعوديات نتيجة تهميشهن في الواقع السعودي، وبالتالي تظهر هذه المطالبة في أحد أوجهها كتعبير عن الاستياء من كامل الواقع الذي يخنقهن وينعكس في حياتهن الجامعية الشبيهة بالحياة في السجون. ويتكامل هذا الحراك مع النموذج الذي قدمته منال الشريف في مطالبتها العملية بقيادة المرأة للسيارة عبر قيادة سيارتها في شوارع مدينة الخبر، وما تلا ذلك من حملة لقيادة السيارة استجاب لها عدد من النساء.

يقدم الحراك الشعبي الذي تشهده المدن السعودية نموذجاً مناقضاً لكل الخطاب الإعلامي الرسمي على مدى السنوات الماضية، ويسقط عدداً من الأوهام التي أصر الخطاب الإعلامي على الترويج لها. ولعل أبرز الأوهام الساقطة هو وهم النهضة التنموية الشاملة في البلاد، والتي يركز عليها الخطاب الإعلامي الرسمي بوصفها منجزاً يكفي المواطنين ويغنيهم عن أي مطالبة بالتحوّل الديموقراطي.

في الجزيرة العربية هناك شعب مصادر الإرادة، ولا توجد لإرادته أية تعبيرات في أي إطار تمثيلي كان، وهناك أشواق للحرية التي تُطارد أشكالها البسيطة جحافل هيآت ما يسمى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما بالك بحرية التعبير وتشكيل الأحزاب وحرية الصحافة وحق الاعتراض على السياسات والصفقات... وهناك كرامة مسلوبة، حيث المناصب والمواقع العليا في هيكل (الدولة) وفي مؤسسة الجيش هي حكر على الأمراء من آل سعود وكأن باقي المواطنين غير جديرين بالمسؤولية، أو كأنهم ليسوا مواطنين في الأصل! وعندما نعلم أن دولة مثل السعودية بثرواتها النفطية والمالية الهائلة تعاني تراجعاً في نموها السكاني بعد أن كانت في مقدمة الدول الأربع عالمياً في الزيادة... بسبب وجود أزمة إسكان وبطالة متفاقمة، وعدم وجود فرص عمل جديدة، وارتفاع تكاليف المعيشة للمواطن السعودي... وارتباط هذا الواقع بتراجع المتغيرات التنموية فيها... يجب أن يسأل ذلك المواطن لماذا وصل دين بلاده إلى نحو 86 مليار دولار العام الماضي، وما معنى أن تبلغ حصة السعودية نحو 28 في المائة من تجارة الحبوب المخدرة في العالم...! ؟

فَوَهْم الرخاء المالي يتبدد مع تزايد أعداد العاطلين وانتحار بعضهم، وتزايد أعباء الحياة التي تقلص وجود الطبقة الوسطى وتضغط عليها، والأهم وجود الفساد كثقافة وممارسة لم تترك للبلد النفطي إلا صوراً نادرة للنجاح التنموي والرضا الشعبي عن الخدمات والبنية التحتية.

والسؤال الذي يطرحه أي مواطن سعودي مطحون ومغلوب على أمره: هل يمكن لدولة تعتقل أكثر من 1 في المائة من مجمل مواطنيها وتغيبهم وراء ضوء الشمس في سجون الرأي ومصادرة الحرية وتنكل بهم لتجعلهم عبرة لمن يعشق الحرية ويسعى لها أن تتغنى بالحرية أو حتى ترسم رسماً كروكياً لها؟ هل يمكن لنظام كهذا أن يهب للناس حريتهم التي كفلها الله لهم؟ وهل يمكن لدولة كهذه أن تسير بشعبها على صراط العدالة والعيش المشترك؟ لا أظن ذلك...

فإذا بدأنا بالحرية، أرجوكم ليخبرني أحد عن مقدار ما تتمتع به تلك المحميّات (بالقواعد الأجنبية) من حرية على صعيد قرارها الوطني المستقل بعيداً عن الإملاءات والأوامر الخارجية، أو على صعيد الحرية في الداخل، حرية الأفراد والمعتقد، والإعلام، والدراما، وحرية التعبير... وإذا انتقلنا إلى الديموقراطية والتعددية وتداول السلطة، أرجوكم ليخبرني أحد عن عدد الأحزاب وعن المعارضة في السعودية، وليشرح لي من انتخبَ هذا الأمير؟ ومن ولّى هذا الأمير؟ ليخبرني أحد ما عن الديموقراطية التي يمارسونها؟ وعن حق التظاهر وحق الشهيق والزفير، وعن الأناشيد الوطنية التي تبدأ بـ ''يحيا الملك ويحيا الأمير''!.

على صعيد التوزيع العادل للثروة، أخبِروني كيف تُوزَّع الثروات النفطية في بلاد الحجاز؟ من ينهبها؟ من يتصرّف بها، وأين تصرف؟ وعلى ماذا تصرف؟ وما نصيب الشعب السعودي منها؟ وكم عدد أولياء العهد وأخوتهم وأبناء عمومتهم وأخوالهم وكم عدد الزوجات وأبنائهن وعدد سموات الأمراء والأميرات والشيوخ والشيخات الذين تخصص لهم المرتبات الشهرية وهم لمّا يزالوا مشروع أجنة في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم؟ على صعيد الفساد، وسيادة القانون، أخبروني عن الرشاوى الطائلة التي تدفع لاستمالة مسؤولي المنظمات الأممية، أو الدول الفاعلة للسكوت عم جرائمهم ضد حقوق الإنسان السعودي، وعن امتيازات تأسيس الشركات القابضة والدافعة والمستثمرة والعابرة، لمن تمنح وبأية طريقة؟ ومن أين جاءت برأسمالها؟

أخبروني إن كان القانون يطبق على الأمراء وَنسلِهم المحبوب كما يطبق على عامة الشعب، أو إن كان يطبق على الشعب دون تمييز بين دين ودين أو طائفة وطائفة؟ أخبروني عن مصير المعارضين والمنتقدين وأصحاب الرأي المختلف؟ أخبروني عن حال سجونهم ومعتقلاتهم وغرف التعذيب عندهم؟ أخبروني إن كان للمرأة (نصف المجتمع) حق التصويت أو حق إبداء الرأي؟ وعلى صعيد التعليم ليجرِ أي كان مقارنة بسيطة بين ما خرّجتْ دولة نامية وما خرجوا هم من كفاءات وحملة شهادات وكفاءات علمية... أخبروني عن صناعاتهم الثقيلة، وزراعاتهم المثمرة، ومصادرهم البديلة وخططهم المستقبلية فيما لو نفذ النفط؟ على صعيد الفن والفنون، أذكروا لي مسرحية أو مسلسلاً أو فيلماً سينمائياً صنعوه وترك أثراً فكرياً أو تنموياً أو إصلاحياً أو نقدياً أو ترفيهياً...

في السعودية، تتهاوى الهيبة المعنوية والأخلاقية لنظام آل سعود الحاكم كما يظهر من التجاذب المفتوح بين النظام والقوى السياسية والاجتماعية. لدى غالبية سكّان المملكة قناعة راسخة بأن العائلة المالكة فاسدة مالياً وأخلاقياً، وغير جديرة بأن تحظى بالتقدير، ولكن ثمة ما هو أبعد من ذلك حصل أيضاً.

واليوم فإن الشعب الذي يطالب بالحرية والعدل والمساواة، خرج من القمقم الذي وضعه فيه آل سعود، ويبدو واضحاً أن انفجار موجة التذمر والسخط التي نضجت ظروفها داخل البلاد جراء القمع الشديد للسلطات ضد المحتجين والمتظاهرين في أكثر من منطقة ومنها التي تشهد أحداثاً مأساوية بسبب القمع السلطوي، فالناس خرجوا يطالبون بحقوقهم جراء تفشي الفساد وغياب العدالة والاعتقالات الجماعية، وازدياد عدد المعتقلين السياسيين.‏

اليوم، تمرّ الهيبة الأمنية للنظام باختبار حاسم، بعد أن عقمت (ثقافة الخوف) عن أن تلد جيلاً من المذعورين، رغم أن الإمبراطورية الإعلامية السعودية تحوّلت الى ما يشبه جهازاً أمنياً وأداة تخويف محض، كما تنبئ عن ذلك مقالات الكتّاب والصحافيين والتقارير التلفزيونية.

ولكن هذه النبرة الاحتجاجية على ممارسات الشرطة الدينية في مملكة الجَلْد والنطع نادراً ما تتسرب إلى وسائل الإعلام السعودية، بل وقد تكون يتيمة في العقد المنصرم، ذلك أن الرقابة على وسائل الإعلام والإعلاميين شديدة ودقيقة، بل وعنيفة أحياناً، وتقدم الولايات المتحدة الأمريكية مساعدة نقدية للحؤول دون تسرب أو تسلل غير المرغوب تسرّبه إلى المشهد الإعلامي السعودي من أفكار ومعلومات وصور، حتى بات الصحفي الناجح في مملكة آل سعود الوهابية هو الصحفي المتملّق للحاكم وحاشيته وأدوات قمعه، والذي يبني في عقله ووجدانه ومخيلته أكثر من مصفاة افتراضية كي يضمن عدم تسرب كلمة واحدة من قلمه إلى بياض الورقة أو من فمه إلى المايكروفون، قد تثير شبهة أولي الأمر تجاهه. وقد بلغت درجة التدجين والإذعان وانعدام المبادرة والعبودية الذهنية حداً في لا وعي الإعلامي السعودي، أن يقدس كل ما يتفوّه به أميره أو ''وليّ نعمته'' ناهيك عن مليكه، حتى ولو كان حماقة عابرة، فيسارع إلى تسويقها وتحليلها ممتدحاً مبجّلاً. لقد أصبح الإعلام في السعودية هو الدولة، يعمل على النقيض من رسالته، فلم يعد كشف الحقيقة وظيفة له، بل عكسها تماماً...

إن آل سعود الذين يعملون في خدمة المصالح الأميركية ويقفون ضد مصالح شعبهم وأمتهم العربية، يخشون من اتساع موجة الاحتجاجات في أنحاء البلاد، وهو ما يحصل فعلاً، مبشراً بقرب نهايتهم، وخاصة أن واشنطن تسعى لتقسيم المملكة وإحكام سيطرتها على النفط وبسط هيمنتها، كما يؤكد خبير روسي فإن أفعال آل سعود المشينة ضد شعبهم سيقود حتماً إلى تقريب نهايتهم.‏

ولكل من يمكن أن يراهن يوماً على المملكة أو أسرة آل سعود الوهابية وما شابه، أن يتذكر هذا القول لجوناثان شانزر قال فيه: (يعلمنا التاريخ درساً أن لا أحد سيكون أخطر من السعودية).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 25/تموز/2012 - 5/رمضان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م