الفشل يفشل..

عن الاستحمار الاكاديمي في العراق

حيدر الجراح

الى اصدقائي اسعد وعلاء واحمد واخرين خائبين..

اشكرك.. أفهمتني ماكتبته سابقا ولم افهمه..

يحتفظ صديقي احمد بورقة الاجابة الامتحانية التي تحمل تلك الكلمات لاحد اساتذته، وقد حصل فيها على الدرجة الكاملة..

نحن في اعوام التسعينات العراقية، والجامعات العراقية يصيبها مايصيب المجتمع الخارج من دوامات الحروب وخرابها، وسياسات الحصار الاقتصادي، الجوع والحرمان والفاقة، معنوية ومادية..

اقسام علم الاجتماع في الجامعات العراقية، له اضافات وتنويعات اخرى، سبقت العقد التسعيني العراقي..

فقد تنبه النظام العراقي السابق، الى خطورة هذا القسم الذي يدرس علاقات القوة، ويحلل السلطة، وانظمة الحكم، ويجترح الحلول للمشكلات الاجتماعية التي لها علاقة بالسياسة، وهو علم مشاغب ومشاكس، في دراسته للعقل الجمعي، وفي بحوثه عن جذور الاستبداد والطغيان، وهو علم يمكن ان يصيب الانظمة الحاكمة بالصداع (شقيق وعادي) حين ينزل الى الميدان يسأل الناس في اوراق الاستبيان، بعيدا عن تلك الكليشيهات المعتادة (علّل وعرّف)، وبعيدا عن تلك الملاحظة (الاجابة عن فرعين او الاجابة عن اربعة اسئلة)، وهو علم ارسى له مكانة مرموقة في الاوساط الاكاديمية، مع علي الوردي وشاكر مصطفى سليم ومتعب مناف السامرائي، وغيرهم من تلك العقول..

عمل نظام الحكم العراقي في حقبته البعثية على تهميش هذا العلم، واستطاع ان يزيح تلك الرموز ويأتي بدلا منها، اساتذة رفاق، او اساتذة عشائر، ومناطق مأمونة الولاء لفكر الحزب القائد..

كلمة الشكر التي تقدمت هذه السطور هي لاحد الاساتذة الذي يشرح نظريات علم الاجتماع عن طريق وسيلته التعريفية الشهيرة (البيض والدجاج)، وهي طريقة عجيبة غريبة، فربما البيض يعني المجتمعات الهشة والمهزومة او المكسورة، وربما الدجاج يعني ان المجتمعات مغلوبة على امرها بوجود الديوك، او هو ربما يعني اشياء اخرى لايعلمها الا الله والراسخون في العلم..

صديقي احمد، لم يكن طالبا يبتلع المعلومة بسهولة، ولم يكن فقيرا في ما تحتوي جعبته من مصادر ومراجع اجتماعية مهمة، انه يبحث عن المعرفة، يقرأ كثيرا ويفكر اكثر..

باربع صفحات كتب اجاباته على اسئلة الامتحان، واستعمل طريقة جديدة في هذا المجال.. لم يكن مقتنعا بطريقة (البيض والدجاج)، فكتب اجابته التي يعتقد بصحتها (كما فهمهما من اساطين العلم) بلون مختلف، وكتب الاجابة التي يعتقدها الاستاذ انها صحيحة بلون اخر.. وكتب رايه بلون اخر ايضا.. وهكذا حملت تلك الاوراق الاربع اكثر من لون..

يحسب للاستاذ انه يعرف حجم امكاناته المحدودة، ويحسب له الاعتراف بمستواه العلمي امام احد طلابه..

صديقي احمد لم يكن فرحا بما كتبه هذا الاستاذ له، قال لي انه شعر بالخيبة والحزن، هل يعقل ان استاذا يدرّس مادة لايفهم هو فيها ومنها شيئا ؟

حادثة احمد ليست الوحيدة، بل هي مقدمة لحوادث اخرى، استمرت ورافقت التعليم العالي في العراق واستفحلت بعد العام 2003..

الحزب الواحد فقد اوحديته ووحدانيته امام تعدد الاحزاب، وبالتالي تعددت صور الانتساب، والتزكيات تبعا لتعدد الولاءات..

ودخل المال السياسي في معترك الاعتراف الاكاديمي، وانفتحت معه نوافذ (المسترة – نسبة الى الماجستير) و(الدكترة – نسبة الى الدكتوراة) في بازار مفتوح على رشاوى من كل الانواع (حلاوة دهينية – طبع كتاب – مياه معدنية معقمة بالاوزون والاشعة فوق البنفسجية) ويحصل احدهم على لقب علمي بدرجة نجاح بلغت 94 من المائة مع امتياز ومرتبة شرف وتعضيد بالنشر، لاطروحة لو قلّبتها واستبعدت منها المدخل النظري والمنهج والفرضية والمقدمة والخاتمة، وبعض السفسطات الاخرى لما تبقى منها غير ثلاثين صفحة على اكثر تقدير متفائل.. وحتى هذه الثلاثون لاتجد فيها اضافة في الموضوع المبحوث، لكنها يصدق عليها القول الشهير في الاعلام (انه يتكلم كثيرا، انه لايقول شيئا)..

ويصر استاذ اخر على قبض المعلوم والمجهول على حد سواء، عبر طريقة ارتشاء (من الرشوة) جديدة ومبتكرة.. انه يدرّس مادة واحدة في جميع فصول دراسته تحمل عنوان (التبادل الاجتماعي) من قبيل (لدي تفاحة، التفاحة حمراء، اللون جميل، والمذاق اطيب، انت تريد تلك التفاحة، اذا اعطيتك اياها، ماذا تعطيني ؟) والطالب اللبيب من التفاحة يفهم..

ولان الاستزلام السياسي (من الزلمة) بفتح الزاي واللام على حد تعبير بلاد الشام، وبكسر الزاي وتسكين اللام على حد تعبير العراقيين، والزلمة بالحاتين تعني الرجل، وهو هنا في حالة السياسة، شاميا وعراقيا، تعني الاستتباع لآخرين والتخلي عن ابرز صفات الرجولة، وهي الاستقلالية والكرامة..

لكن الترقية او رئاسة قسم تهون معها جميع صفات (الزلمة) ولا مانع من تحريك الحروف للكلمة، وابتداع كلمة اخرى هي (الزملة) وتتفرع الى (زمال – زومل) ومنها (الاستزمال) وهي تعني (حمار – استحمر).. ومنها الاستحمار..

والاستحمار كما كتب احد الكتّاب العرب (جعل الناس ظهورا يُركَبون، وضروعا يُحلَبون دون أن يشعروا بأنهم الخسفَ يسامون، وفي الذل والمهانة يرتعون).

وهو مصطلح عرفه البعض بأنه: تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره وحرف مساره عن النباهة الإنسانية والنباهة الاجتماعية فردا كان أو جماعة..

ذكر لي احد اصدقائي وهو استاذ في جامعة عراقية في احدى محافظات الوسط، ان احد المناهج التي استمر تدريسها منذ العام 2003 وحتى هذه السنة قبل ان يلغى كان (الفكر الاجتماعي لحزب البعث)، وهو يشعر كل يوم بصدمة جديدة، حين يرى هذا التخوف من الاخرين الذين يريدون ان يقدموا شيئا، وان يفيدوا جامعات بلدهم بما اكتسبوه في جامعات الغرب من طرائق تدريس او مناهج، وهذا الصديق واحد منهم، لكنه يصطم بتلك الجدران الشاهقة من البيروقراطية الادارية، وعدم الثقة، والخوف على المناصب والكراسي..

لقد اتسعت الرقعة على الراقع، والثقوب تكشف العورة، والعورات كثر، والعثرات اكثر، و(الاستزمال) الاكاديمي في العراق واقع حال، محال ان يتغير اذا بقيت وزادت نسب (المسترة – الدكترة) بطرق الحلاوة والمياه المعبأة والتفاحات الحمراء..

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 17/تموز/2012 - 26/شعبان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م