طواحين ارناؤوط... بين الوهم والحقيقة

 

شبكة النبأ: لا يحارب الكاتب الاردني الفلسطيني الاصل عباس ارناؤوط في روايته "الطواحين وأنا" اعداء وهميين تمثلوا له في صور طواحين هواء كما فعل دون كيخوتة في رائعة الاسباني ثرفانتس.. بل اعداء فعليين بعضهم بشر من لحم ودم وبعضهم مجموعة من المصالح والافكار التي تتحكم بهذا العالم. رواية عباس ارناؤوط هي في النتيجة رواية شعب من خلال قصة فرد واحد من هذا الشعب. وهي من زوايا مختلفة لا تصور وضع هذا الشعب وحده بل وضع المنطقة التي ينتمي اليها او وضع مجموعة الشعوب "الشقيقة" التي تعيش في هذه المنطقة.

وقبل البدء بالرواية يمهد عباس ارناؤوط لذلك بتقديم نظرته الى الادب والفن عامة وتحديده لهما وهو تحديد مطلق تقريبا يكاد لا يعترف بوجوه التحديد المختلفة التي يتداولها نقاد الادب والادباء.

الا انه في النهاية يصب بشكل عام في ما سمي فكرة تداخل اشكال التعبير الفني على اختلافها لتتحول الى امر واحد وظيفته نقل ما في النفس بصور مختلفة لكنها صور تتداخل وتتكامل. ويطرح الكاتب اسئلة قديمة عن الادب والفن عامة وعن وسائل التعبير الفني ودوافعه. يبدأ بالقول "اريد ان اكتب.. لماذا؟ لا اعرف. شيء في داخلي يريد ان يخرج فيريح ويستريح. "اريد ان اكتب ولا اعرف لماذا.. وأعرف ان الذي يكتب عليه ان يعرف قواعد اللغة وقواعد الصناعة.. ان يعرف ان للرواية بداية ووسطا ونهاية.. جملا وتسلسلا وفصولا. للكتابة نظام وأنا اكتب بلا نظام ولا اكره مثلما اكره الخليل بن احمد الذي وضع قواعد العروض وقنن موازين الشعر.

"وهل للشعر موازين وإشارات ضوئية نتوقف على احمرها ونمشي على احضرها؟ الشعر جواد جامح بلا سرج ولا ركاب. لم يروض ولن يروض ولا يحق لاحد ان يروضه فيكسر الحرية التي في داخلنا ويخلع جناح القلب ان يطير.. الا يحق لكل عصفور ان يغرد على غصن اي شجرة في هذه الدنيا فنطرب له وهو لا يعرف الخليل بن احمد؟"

وقد يكون عباس ارناؤوط هنا مصيبا الى حد ما وإن أخطأ. معنى ذلك انه أخطأ في القول ان الخليل بن احمد وضع قواعد العروض. انه هنا يذكرنا بطرفة لظريف لبناني راحل هو نجيب حنكش في وصفه للفينيقيين بقوله بالعامية "الفينيكيين اللي اخترعوا البحر". الفينيقيون لم يخترعوا البحر. رأوه موجودا فأبحروا فيه. وكذلك الخليل بن احمد لم يخترع بحور الشعر بل وجدها قائمة قبله فغاص فيها معددا صفاتها واستخرج منها أنماطا معتمدة. الارجح اذا لم نقل الاكيد ان عنترة وامرأ القيس لم يسمعا بقوانين العروض ولم تخطر في بال احد منهما "فعولن مفاعيلن" وغيرها بل حركتهما موسيقى معينة وسارا علي انماط كانت مألوفة في ايامهما واستعانا بها.

ولنا امثلة في الزجالين والشعراء الشعبيين خاصة المرتجلين منهم فالواحد منهم يتبع أذنه ويسير غالبا على انماط معروفة وقد يجدد بأن يأتي بنمط لم يكن مألوفا سابقا. وبهذا المقياس يصبح لعباس ارناؤوط الحرية في ان يكتب كما يشاء والحكم له او عليه يكون بمقدار اجادته التعبير والتأثير في القارئ.

يتابع المؤلف الكلام فيقول بحق "اريد ان اكتب. قال لي صاحبي.. في داخل كل منا منجم من ذكريات وتجارب وأحاسيس وأفكار وأسرار.. فاحفر منجمك. وها انا احمل فأسي قبل ان تغرب الشمس وتميل الى مغيب.. وبعد لحظات سأضرب الارض ولم لا." ويكتب المؤلف بمزيج من القصة والشعر والنقاش العادي مع القارئ ومع هذه الحياة نفسها. وانتقل من جو شعري الى اخر هو مزيج من الاثنين. يتحدث عن البداية ويسجل اختلاط البدايات والنهايات. قال "قال الطبيب لابي.. زوجتك مريضة لا يلائمها هواء القدس القديمة.. خذها الى جبل الزيتون في الطور.

"نقف على سور البيت. ننتظر خروج الاولاد من المدرسة. بينهم ولد اشقر يدفع اترابه الى اليمين والشمال. يركض. يركض دائما. المرض يتسلل اعمى معصوب العينين. لا يفرق بين صغير او كبير. ويمرض اخي عباس اياما ويموت. هكذا ! قصة قصيرة!! مر كنسمة صيف. ذبلت الزهرة والحزن لا يذبل."

ويتفلسف الكاتب عن الحياة والموت. يقول "الموت هو سر الحياة واستمرارها. يقول الاباء لا بنائهم.. تزوج يا ولدي لعلك ترزق بولد يحمل اسمك. بحث عن الخلود واحتيال على القادم لا محالة. احتيال يسميه العلماء غريزة البقاء -اكبر خدعة نخدع بها انفسنا- او تخدعنا بها الحياة. وهل ألف ابن وألف حفيد بمزحزحنا عن الموت؟" ويروي قصة حياة بطل الرواية. يتحدث عن سفر له فيقول في وصف لم يعد يقتصر هذه الايام على الفلسطينيين فقط "هبطت الطائرة في مطار.. مطار عربي. احسست بالخوف بلا سبب اعرفه. لكنني اعرف انني مواطن عربي والمواطن العربي عندما يدخل مطارا عربيا هو متهم حتى تثبت براءته. عليه ان يتوقع الاهانة والقرف والبهدلة. ربما لحلم رآه في المنام.

"وقفت في الصف الطويل انتظر دوري. وقفت امام رجل الامن بلا ابتسام فالابتسام في المطارات العربية يذهب بهيبة الدولة.. جنسيتك؟ اردني. اردني... اردني؟ - وهذا جواز سفري - لكنك مولود في القدس يعني فلسطيني؟ تفضل. استرح خمس دقائق." يتحدث عن الالام والتشرد والعذاب سعيا الى لقمة القوت. بحسب رويترز.

يقول عن الوعود التي اغدقت على الفلسطينيين عند تشردهم بعودة سريعة الى ديارهم "ايام ونعود. اكثر من ستين عاما ولم نعد. كنت تحسب المسافة بين عمان والقدس زمن ساعة.. فإذا هي سنوات وسنوات وعمر يطول وغربة لا تنتهي. "ايام ونعود. البيت غرفة واحدة واسعة امامها ساحة فيها نطبخ ونأكل ونغتسل. ونحن اكثر المهاجرين حظا فللغرفة سقف وخيام اللاجئين بلا سقوف. يسكن الغرفة احد عشر كوكبا.. أبي وأمي وأطفال تسعة." ينهي الرواية بقصيدة طويلة. يقول لأمه "نعم يا امي.. احب الحياة الى حد العشق.. والعشق الى حد الحرية.. والحرية الى حد الموت.. والموت الى حد الحياة. "رفعت رأسي.. الحصان ينتظر فارسا. انحنيت على يد أمي. قبلتها. الطواحين اذرعها سوداء ملتهبة كالشياطين. لكز الفارس حصانه. تلك هي القصة. الطواحين وأنا."

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 7/تموز/2012 - 16/شعبان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م