تحصينات المدينة القديمة في كربلاء: حماية أم حصار؟

شبكة النبأ: تملك اليأس مشاعر صالح الطالقاني بعد ان ذهبت جميع توسلاته ادراج الرياح، وهو يجهد في إقناع آمر المفرزة الأمنية بالموافقة على ادخال سيارته عبر بوابة المدينة القديمة شديدة التحصين في كربلاء دون جدوى، مرتجيا ان تشفع صحة ابنته المتدهورة لاستثنائه من الحظر المفروض على دخول المركبات الى وسط المدينة.

موقف الضابط "المتشنج"، أفقد الأب القلق على سلامة ابنته الوحيدة رباطة الجأش، فأطلق سيلا من الشتائم والاتهامات نالت من افراد الشرطة المتواجدين وقياداتهم العليا، دون ان يستثني ذلك السباب ارفع المسؤولين في الحكومة المحلية ايضا.

تلك الشتائم، امتزجت بإحساس شديد بالمرارة مما آلت اليه حالة ابنته التي تعذر عليها السير بعد خضوعها لعملية ولادة متعسرة. وقال ل(شبكة النبأ المعلوماتية) ، "الذي كان شاهدا على الموقف: "اشعر كأنني عند حاجز تفتيش في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولست في مدينة كربلاء". وتساءل، "ماذا افعل هل احمل ابنتي وولدها على ظهري لإيصالها الى منزلها"؟

وغالبا ما تقع بين الفينة والأخرى مثل تلك المواجهات، بين رجال الامن المشرفين على بوابات المدينة القديمة في كربلاء وبعض السكان، أو القادمين لها من المحافظات العراقية الاخرى، بسبب الحظر الذي تفرضه قيادة شرطة المحافظة على دخول المركبات او الدراجات النارية منذ عدة سنوات.

وينال المرضى الحصة الكبرى من المعاناة كما يوضح الطالقاني. ويشير إلى أن "مديرية صحة كربلاء قامت بتوفير مركبات للإسعاف الفوري لنقل المرضى او المصابين من داخل المدينة القديمة، الا انها لا توفر تلك الوسائل لعودتهم"،. أما ادارة العتبات المقدسة المسؤولة عن إدارة أهم المزارات الدينية في المدينة، فعمدت إلى توفير عدد من الباصات، الا انها تسيَر في شارع محدد وأوقات ثابتة داخل المدينة القديمة.

وكانت قيادة شرطة كربلاء قد لجأت الى غلق المدينة القديمة التي تحتضن مرقدي الامام الحسين وأخيه ابا الفضل العباس عليهما السلام في عام 2008، بعد تفجير عدد من السيارات المفخخة في الشوارع الرئيسة المزدحمة، تم على اثرها رص الكتل الكونكريتية على محيط المدينة من جميع الاتجاهات، مستثنية بعض البوابات للسابلة، وأخرى لمرور السيارات للمسؤولين والشخصيات النافذة وبعض الاهالي ممن يملكون تراخيص خاصة.

ومنذ صدور القرار تتفاقم معاناة  اهالي كربلاء والوافدين اليها على حد سواء، إذ قال بعض الأهالي في مقابلات مع "شبكة النبأ المعلوماتية" إنهم يضطرون الى قطع مسافات طويلة تصل الى اكثر من 2 كم، في سبيل الدخول الى مركز المدينة، التي كانت ولا تزال العصب الاقتصادي للمحافظة الى جانب كونها مركز ديني وثقافي.

وتمنح السلطات المدنية في محافظة كربلاء رخصا محدودة لدخول السيارات الى المدينة القديمة، تقتصر على بعض الشخصيات الحكومية والحزبية والدينية، بالإضافة الى أصحاب الفنادق السياحية وبعض التجار وعدد من سكنة المدينة ممن يملكون مركبات خاصة.

ونظرا لغياب المعايير القانونية في منح تلك الرخص، يبدي الكثير من مواطني كربلاء امتعاضهم من غياب العدالة المفترضة في منح تراخيص الدخول للمواطنين، معللين ذلك بوجود حالات فساد ومحاباة غير قانونية في منحها.

ويقول صالح الطالقاني، "ارى سيارات النافذين والاثرياء ومسؤولي العتبات يدخلون سياراتهم بكل يسر، كأنهم مواطنين من الدرجة الاولى وبقية اهالي كربلاء من الدرجة الثالثة او الرابعة".

ويؤكد علي حسين عبيد أحد سكنة المدينة القديمة انه عجز بعد عناء طويل عن الحصول على رخصة دخول سيارته بالرغم من حاجته الماسة اليها، في حين يرى كيف حصل البعض على الترخيص بكل يسر وسهولة.

ويضيف عبيد، "المسؤولون والنافذون واقاربهم يدخلون عبر البوابات بكل ترحيب واكرام بسياراتهم المحمية والمكيفة الى المدينة المقدسة ويتجولون في اي وقت طاب لهم كونهم منحوا بسهولة التراخيص المطلوبة من قبل الشرطة".

ويتابع، "ولكن بقية الناس لا تمتلك القدرة على نقل مريض او مصاب او نقل اثاثها الى داخل المدينة القديمة دون اذونات موقتة قد يستغرق الحصول عليها عدة ايام".

وتصاعدت مؤخرا الكثير من اصوات النقد والاستهجان لتلك التحصينات الاستثنائية في مركز المدينة دون ان تخلو من بعض التشكيك في حقيقة النوايا.

عبد الحليم ياسر الذي يقطن في خارج المدينة القديمة، في حي الغدير ذو الكثافة السكانية الفقيرة، يطلق جملة من التساؤلات التي يراها مبررة، قائلا "لا اعرف هل يرى المسؤولون في كربلاء ان اهالي المدينة القديمة اكثر اهمية عمن سواهم ممن يسكنون الاحياء الاخرى؟ أم ان الفقراء تحميهم الملائكة فلا يتعرضون للهجمات الارهابية؟".

ويقول ياسر الذي يترأس  جمعية الفن التشكيلي في المحافظة أن مسؤولي الحكومة المحلية يمارسون "سياسة تمييزية واضحة"، معتبرا "التحصينات التي تحيط بالمدينة القديمة متأتية من شعور بالتفاوت الطبقي، سيما ان بقية احياء المدينة لا تحظى بالحماية ذاتها". ويتابع، "ان سلمنا جدلا بسلامة النوايا، وان هناك تهديدات جدية لسكان كربلاء، فلماذا تترك الاحياء الاخرى دون حماية؟".

وتبلغ مساحة المدينة القديمة اكثر خمسة آلاف كم متر مربع، وتضم عدة احياء كبيرة في داخلها، فيما يبلغ عدد سكانها حوالي نصف مليون نسمة حسب احصائيات عام 2007. ويعد المتر المربع في مركز مدينة كربلاء المقدسة من اثمن الاسعار في العراق، حيث وصل سعر المتر الواحد الى عشرة ملايين دينار ويزيد.

وشيدت خلال السنوات القليلة الماضية مئات الفنادق السياحية والمتاجر الفخمة. وغالبا ما يتكسب بعض اهالي المدينة عبر تحويل منازل الى "نزل تجارية" لإيواء الوافدين اليها خلال المناسبات الدينية، وتذكر البيانات الرسمية ان المحافظة تستقبل ما لا يقل عن (40) مليون زائر سنويا.

وسبق ان توجه عدد من سكان المدينة القديمة بطلبات الى الحكومة المحلية لفتح بعض المنافذ لدخول العربات الى وسط المدينة، الا ان مطالبهم كانت تواجه برفض صارم، وهو ما دفع البعض الى الشك "بنوايا مبيتة" وراء استمرار محاصرة المدينة بهذا الشكل.

يقول مختار احد احياء المدينة القديمة، رافضا ذكر اسمه، "تقدمت الى الحكومة المحلية بمعية بعض السكان بطلب رفع الحواجز غير الضرورية عن الحي بعد انتفاء الحاجه اليها من جهة، ورفع الحيف والمعاناة الذين لحقا بالسكان من جهة أخرى".

وأضاف، "كانت الصدمة كبيرة وانا استمع الى رد الحكومة حيث ابلغوني ان اتحمل مسؤولية أي خرق امني قد يقع في المستقبل ان تمت الاستجابة لطلبنا في رفع الكتل الكونكريتية".

وتابع ساخرا، "بمعنى ان السكان سيزجون الى السجن في حال وقع تفجير في المنطقة بعد رفع الحواجز الكونكريتية، او يقومون بتشكيل جهاز أمني ينوب عن شرطة المحافظة".

ويلمح المختار الى وجود نوايا وصفها "بالمشبوهة" وراء استمرار الغلق تهدف الى "مكاسب تجارية"، مؤكدا على، "ازدياد حالات بيع العقارات في مناطق واحياء المدينة بعد ان اضطر السكان الى مغادرة سجنهم الكبير". واصفا ذلك، "انها اشبه بعمليات تهجير قسري بشكل غير مباشر".

ويشير أغلب اصحاب المتاجر الكبيرة الى اضطرارهم الى هجرة المدينة القديمة والتوجه الى الاحياء التي تقع خارج اسوارها، بعد ان تسبب غلقها الى تعذر وصول اغلب زبائنهم.

ويقول اثير ماجد احد تجار الجملة في سوق الدهان الشهير، إن "الأزقة لا يرتادها سوى السواح او الزوار بعد ان تقطعت السبل بزبائننا فضلا عن الصعوبة في ادخال الشاحنات لنقل البضائع". ويضيف "تكبدنا خسائر مادية فادحة".

وأشار ماجد الى أن معظم التجار، وهو منهم، افتتحوا متاجر جديدة في الاحياء التي تقع خارج محيط الاسوار. ويضيف أن يفكر في إغلاق المحل المركزي إذا ما استمر "الحصار الذي تفرضه السلطات على المدينة القديمة".

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 1/تموز/2012 - 10/شعبان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م