الدولة العراقية من المدننة الى الأمننة

رياض هاني بهار

لقد بات واضحاً أن أكبر خطر يتهدد وجود أي دولة مدنية هو استغلال السلطة الأمنية لقوتها ونفوذها بالتدخل والهيمنة على الحياة المدنية، فالسلطات الأمنية ظلت تعتبر أن تمتع السلطات التشريعية والقضائية بصلاحيات واسعة يحد فعلياً من أدوارها ويقلص نفوذها، وهذا هو سبب التعارض المستمر بين الإصلاح السياسي والجهات الأمنية، وتم تحديد دورها بخضوعها للسلطة المدنية لتكون في إطار المبادئ الأساسية المنصوص عليها في الدستور العراقي ( المادة 9 اولا منه نصها.

أـ تتكون القوات المسلحة العراقية والاجهزة الامنية من مكونات الشعب العراقي، بما يراعي توازنها وتماثلها دون تمييزٍ او اقصاء، وتخضع لقيادة السلطة المدنية، وتدافع عن العراق، ولا تكون اداةً لقمع الشعب العراقي، ولا تتدخل في الشؤون السياسية، ولا دور لها في تداول السلطة.

د ـ يقوم جهاز المخابرات الوطني العراقي بجمع المعلومات، وتقويم التهديدات الموجهة للأمن الوطني، وتقديم المشورة للحكومة العراقية، ويكون تحت السيطرة المدنية، ويخضع لرقابة السلطة التشريعية، ويعمل وفقاً للقانون، وبموجب مبادئ حقوق الانسان المعترف بها.

ومن قراءه النصوص الدستورية اعلاه واضح خضوع الأجهزة الأمنية والاستخبارية للسلطة المدنية وهذا اساس بناء الديمقراطية ولكن الذي يحصل خلاف ذلك حيث ارتبطت ممارسات الاجهزة الامنية (الامن المتعسكر) وهو مصطلح جديد وجدته متناسبا مع حالتنا بتوسيع دائرة التقييد على الحريات وكأن البلاد في حالة طوارئ دائمة وغير معلنة.

 ان من حق أي دولة ان تستعمل وسائل مشروعة في ضمان امنها وامن مجتمعها لكن بانعدام المحاسبة والمراقبة والشفافية تصبح هذه الوسائل ضبابية وقاتمة ومعتمة تختبئ تحت عباءتها اشد انواع القمع همجية دون ان يجد المجتمع وسيلة فعالة لفضحها وكشفها والتصدي لها.

 لقد استغلت القيادات الأمنية الحرب على الارهاب كغطاء جاهز لتمرير مشروع الدولة الامنية وقلصت مجال الحريات ولبست قفازا تدعي انه تارة من الحديد وتارة من الحرير لتطبيع مشروع عسكرة الدولة واجهزتها او (الامن المتعسكر). وان كان المجتمع العراقي بكافة اطيافه الفكرية والاجتماعية لديه كره للاستبداد. ليس هناك بلد عاش كل من فيه خراب النفس كما عاشته بيوت العراق، وليس هناك بلد أبيحت فيه كميات من الدماء وعدد من الرقاب كما حدث في العراق، وليس هناك بلد عرف قهر الخوف وذل الصمت مثل العراق.

وهناك ثلاثة أركان تقوم عليها الدولة الأمنية التسلطية، وتمكنها من إنتاج مجتمعها الجماهيري، هي: الإرهاب والإيديولوجية والإعلام. وعدة مبادئ تضمن هذه الأركان وتعززها، هي: مبدأ الاحتكار الفعال للسلطة والثروة والقوة، واحتكار الحقيقة، واحتكار الوطنية، ومبدأ الغلبة والقهر، ومبدأ شخصنة السلطة، وعبادة القوة، أي تباهي الشخص والمنصب الذي يشغله، وانتقال قوة المنصب المادية والمعنوية إلى الشخص الذي يغدو مثال القوة والعظمة.

 وفي هذه الحال تحل الأوامر محل القوانين، والامتيازات محل الحقوق، والولاء والمحسوبية محل الكفاءة والجدارة والاستحقاق.

ان مفهوم النظام الأمني، شمولية الولاية على جميع مناحي الحياة والإمساك بإرادة مختلف الشرائح الاجتماعية، بداعي الرعاية والخلاص من أمراض الفرقة والتناحر، أي التعددية والاختلاف، لذلك قلما يطمح إلى كسب العقول والقلوب، وهي مهمة تفترض وتستدعي قوة المثال وصحة الإقناع، ويحصر مراده في اقتلاع جذوة المساءلة وسحق مظهرية الرأي المغاير، توسلا لالتزام لفظي يقتضي إعلانه من الفرد والجماعة وفق أجندة طقوسية تواكب مسيرة النظام الاستبدادي وتحتفل بمنجزاته كما تحدث بصلافة احد النواب بضرورة استنساخ لرئيس الوزراء.

الدولة الأمنية لها شقاواتها ومنظماتها وأحزابها وصحافتها وإشاعاتها ووسائل تشويهها لصورة المواطن ومن يعترضها. وقد تعايشت الدولة الأمنية مع كل تقاليد المافيا ودفع الخاوة والتطفل على النشاط الاقتصادي. إضافة إلى إدخالها تقليد الخطف السياسي لمعارضيها، أو إحياء أمجاد الاغتيال السياسي حيث اعتمدت احيانا على فئه مجرمي النظام (فدائيو صدام وعناصر صناع الصواريخ) لتنفيذ اجندات القتل والرعب في بعض المؤسسات وتصفية الخصوم لانهم متمرسون على الجريمة والإزاحة وتجدهم يلبسون الأقنعة ويتلونون مع الظرف كالحرباء، وأخيرا انتاج المنظمات المسلحة الصغيرة التي تقوم بكل الأعمال الخسيسة التي يمكن أن يحاسب عليها رموز الدولة الأمنية خارج حدودها. منظمات للابتزاز والتحذير والترهيب والترغيب والتشويش وخلط الأوراق والصفقات غير المباشرة والمباشرة وتحويل الفساد من ظاهرة إلى منظومة.

الدولة المدنية نعمة على الوطن والمواطنين بعكس الدولة البوليسية التي هي نقمة على الوطن والمواطنين وكذلك على النظام السياسي لأنه ستفقد هذا النظام القاعدة الجماهيرية اللازمة لدعمه وتأييده والتي لا غنى عنها ولأن الشعب ليس قطيعا من الأغنام فلابد أن تكون مساندته وتأييده قائمة على القناعة بأهمية هذا النظام وحاجته إليه فالنظام السياسي بدون التأييد الجماهيري لايكتب له النجاح.

حيث من الضروري أن يرضخ المواطن لمبدأ السلطان والرعية لا أن يخوض في منطق الدولة الراعية للمواطنة، أن يتعزز لديه فكرة الواجب والطاعة لا فكرة الحق والمبادرة والمشاركة. بحيث تصبح ثقافة الخوف جزءا من فكرة جهنمية محصلتها إبعاد الناس عن قضايا المجتمع والحياة باعتبار هذا الابتعاد الترهيبي والقسري يشكل عنصر أمان للحاكم واطمئنان عند المحكوم.

لقد أفقدتنا الدولة الأمنية مفهوم سيادة الأشخاص فغاب عنها مفهوم سيادة الدولة. ولا شك بأن العودة إلى حالة سيادة نسبية متفاعلة وإيجابية مع عالم متداخل تحتاج لسيادة كل شخص وحق كل تجمع بالتعبير عن نفسه في رفض مبدئي للخيانة والتكفير والحظر كوسائل يومية لممارسة عملية تصفية الخصوم. فعودة الأفراد إلى المشاركة في الشأن العام، أي صيرورتهم هوية عاقلة وكيان فاعل وروح إيجابية تحتاج لكسر دول الخوف وقبول فكرة مركزية أصبحت مع التجربة العراقية لا تحتاج لبرهان ان المركب الوطني يحتاج لكل النسيج لمواطني البلد والجسم الغريب عامل هدم إلا إذا تحجم دوره وانحسر في كماليات لوجود سياسي واقتصادي محلي متماسك في ذاته ومن أجل ذاته. والتي سرعان ما انكشف زيفها وبدا طابعها المخاتل الذي يتيح ما يكفي من الوقت لإصلاح الثغرات الأمنية وإعادة تأهيل منظومة الاستبداد وتركيز دولة أمنية قوية تؤمّن الاستقرار الاجتماعي والسياسي بسلطان القوة.

1. استئصال القوى السياسية ذات الامتداد الشعبي بافتعال التهم ضدها.

2. تدعيم هيمنة الحزب الواحد على مؤسسات الدولة.

3. ـتشجيع أحزاب المعارضة غير المعترضة على سياسة الحكم ودعمها تمويلا ودعاية وإشراكا في الحياة البرلمانية.

الآثار السلبية للدولة الأمنية

1. شيوع المظالم على نطاق واسع واستشراء الفساد المالي والإداري وانتشار الرشوة والمحسوبية والتعيين العائلي بالمؤسسات الحكومية.

2. تنامي الجريمة والبطالة والهجرة في صفوف الشباب على وجه الخصوص.

3. انتشار السخط والشائعات والخوف والإحباط.

4. عزوف كثير من العراقيين عن الاستثمار الوطني وهجرة بعض رؤوس الأموال إلى الخارج.

5. مغادرة عديد من الكفاءات المتألقة والتحاقها بدول اخرى.

* العراق-بغداد

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 30/حزيران/2012 - 9/شعبان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م