هل الشعب العراقي متخلف ويستحق الديكتاتورية؟

نبيل ياسين

أنا مريض نفسيا. نعم هذا صحيح. لدي مشكلة مع ذاتي. نعم هذا صحيح. لدي عقد تجاه السياسيين الناجحين. نعم هذا صحيح. لا أرضى عن أي تقدم يدعيه السياسيون العراقيون مثل خدمة الشعب واحترام المواطن وتطبيق القانون والتضحية بالمصالح الشخصية لخدمة المصالح العامة. هذا صحيح أيضا.

أنا أخالف الجماعة وأتفرد بالرأي. هذا صحيح فلم اعلم ان الجماعة التي كانت معارضة وأصبحت تحكم الآن كانت على حق بالأمس، وهي على حق اليوم. فانا ما أزال تحت طائلة اتهامها باني مريض نفسيا وانه لا يرضيني شيء من الانجازات التي حققتها المعارضة وهي تسقط صدام، أو، وهي تبني العراق الجديد.

أنا ما أزال مريضا نفسيا، والسبب هو ان العراق لم يتقدم وهو يسقط صدام ويجري انتخابات وتتولى الحكم أحزاب كانت تعارض صداما وتطالب بإسقاطه لإقامة نظام ديمقراطي بديل.

وأنا مريض نفسيا مثل ملايين العراقيين الذين انتخبوا، بعد سقوط صدام، خيارا وحيدا هو إقامة نظام ديمقراطي بديل عنه. لكني لا أشارك السياسيين ومن يتبعهم ويؤيدهم من الناس الرأي الشائع بان الشعب العراقي جاهل ومتخلف وانتخب هؤلاء السياسيين وسيعيد انتخابهم مرة أخرى، وان هذا الشعب يستحق ما يحل به من مصائب وأزمات لأنه هو المسؤول عن الأزمة السياسية. والغريب ان كثيرا من أعضاء الإدارة الأمريكية يعتقدون بذلك ويرغبون برؤية نظام تسلطي بعد ان بشرونا بالديمقراطية.

أنا مريض نفسيا لأني أواجه في كل حوار وجلسه ولقاء هذا الرأي الذي يحمّل الشعب العراقي مسؤولية ما يحل به. وأنا مريض نفسيا لأني احمّل النخب السياسية والثقافية ما يحل بالعراقيين. ولا احسد أحدا من السياسيين رغم أني أدينهم وإنما ارثي لحال الشعب الذي يلقون عليه المسؤولية عما يحدث. لكن هذه هي الثقافة السائدة وهذه هي الأيديولوجيا التي تحرك الناس والسياسيين وتصنع لهم أحلامهم وأوهامهم، فهناك ظواهر ثقافية تتحكم بالسياسة وطرق التفكير وموديلات الحكم واليكم الأسباب:

لدي نظرية اسمها نظرية التماثل، وقد سبق ان أشرت إليها سابقا وأشير إليها الآن. ولذلك إذا ذهب المالكي وتم سحب الثقة منه فان الأزمات لن تنتهي. ولن ينعم الشعب بحكم رشيد أو سديد أو ديمقراطي أو تكنوقراطي. فطالما ان السياسة فوق القانون ويستطيع أي مسؤول آو ابن أخت مسؤول أو ابن عم مسؤول ان يعتدي عليك ويشبعك ضربا ويجرحك وتسيل منك الدماء ثم يركب سيارته مع حُماته أو حمايته ويذهب وتظل أنت ملقى في الشارع فان البلاد ليست بخير ولن تحل سحب الثقة هذه المشكلة. هذا تماثل أول. أي ان نفوذ السياسيين والمسؤولين وقوتهم فوق قوة القانون ودولة القانون وسيادة القانون. وطالما ان الذي يستحق الحياة والسفر والمنصب ويتجاوز على تاريخك وخبرتك ونزاهتك وكفاءتك هو ابن المسؤول أو ابن أخته أو ابن عمه أو أخوه أو من عائلته وعشيرته وتظل أنت تبحث عن (واسطة) لكي تتوظف وتأكل خبزا فان سحب الثقة لن يحل المشكلة، وهذا تماثل ثان وهو ان المواطنة معدومة، وان القرابة والعضوية الحزبية هي فوق حقك كمواطن له حقوق وكرامة واعتبار أنساني.

وإذا تم سحب الثقة وجاء رئيس وزراء آخر فان مشكلة الدولة لن تحل لأنه سيعزز سلطته السياسية ويجعلها فوق الدولة التي لا تعود مؤسسة، وإنما أجهزة امن وشرطة تستخدمها الحكومة للقضاء على الدولة. لان الدولة مؤسسة كاملة من المجتمع والقيم والقوانين والمؤسسات التكميلية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تخدم الجميع بعدالة ومساواة. وهذا تماثل ثالث وهو ان السلطة تبتلع الدولة وتأكلها كما تأكل الحوتة قمرنا الغالي أثناء الخسوف، ولا ينفع ان نقرع القدور وننشد (يا حوتة يامنحوته.. هدي كمرنا الغالي. وان كان متهدينه.. أصيح عمي وخالي) فلا يستطيع، لا عمي ولا خالي، ان يستخرج الدولة من معدة الحكومة الشرهة.

وإذا كانت ثقافتنا عبارة عن شعارات ودعايات سياسية ومديح وتملق وبحث عن مكرمات وقطع أراضي وارتزاق وقصيدة وقصة وبضعة مهرجانات من عهد صدام وقد أكل الدهر عليها وشرب ومسرح بائس وصحافة موظفة في جيوب السياسيين الذين يرشون الصحفيين من اجل لقاءات وتصريحات، حتى ان النواب يقضون ثلاثة أرباع الفصل التشريعي مقابل الكاميرات أو بانتظار المراسلين لكي يطلوا على الشعب بخطبهم التي تتنقل من أزمة إلى أخرى ومن ورطة إلى ورطة، فان ذلك يعني تماثلا رابعا وهو ان الايدولوجيا قد همشت الثقافة وجعلت العراقيين يعيشون في وعود وأوهام وغسل أدمغة يجعلهم يتصورون، من خلال تصريحات السادة المسؤولين، الغبار ثلجا والحر اللاهب بردا والجفاف طبيعة خلابة والحفر شوارع مبلطة وأرصفة مغسولة والبطالة منصبا رفيعا وانقطاع الكهرباء رحمة ليس أحسن منها رحمة اختلاف امة محمد، والفساد منة من الله تعالى على الشعب حتى لا تتبدد أمواله سدى وإنما تتجمع في جيوب القادة من مختلف الأصناف لكي تؤسس صندوق الأجيال الذي يضمن مستقبل الأبناء والأجيال القادمة.

ليست مشكلة شخص وإنما مشكلة فكر سياسي

المشكلة السياسية واستمرار الأزمة لا يكمن في شخص المالكي أو في شخص أي رئيس وزراء آخر وإنما في العناصر السائدة التي تحكم السياسة في العراق وفي بلدان عربية أخرى. هذه العناصر تكمن في تفوق عناصر الاستبداد على عناصر الديمقراطية وفي تفوق عناصر التفرد على عناصر التعددية وفي تفوق عناصر إلغاء الآخر على عناصر قبوله والعيش معه. وهذا يجعل من الوطن حزبا أو قائدا ومن الدولة مكتبا تحت إمرة هذا الشخص أو ذاك وليس إطار للمجتمع السياسي والمجتمع المدني لضمان مصالح الجميع وتحديد مجال كل من المجتمعين وطريقة عملهما. ففي الديمقراطية يعمل المجتمع السياسي( القليل والمحدود العدد) من اجل المجتمع كله ولا يجوز للمجتمع السياسي ان يستولى على حيز ومجال عمل المجتمع المدني في الرقابة والضغط من اجل التقيد بالقوانين والقيم والمعايير ومصالح المواطنين.

وإذا كان المجتمع المدني قد فشل في العراق فشلا ذريعا فان هذا الفشل نتيجة طبيعية، وربما حتمية، للتماثلات التي ذكرتها. فالمجتمع المدني مجتمع مسيس ومؤد لج في أحسن حالاته، أما في أسوأ حالاته فان كثيرا من منظماته ترتزق وتغش وتضلل وتمدح السياسيين وتقدم لهم دروعا لا يذهبون بها لحرب ولاتصد لهم سهاما أو رماحا. وقد دهشت في العراق لجرأة كثير ممن يعملون في منظمات المجتمع المدني، وهي عادة منظمات فردية ودكاكين بضاعة مغشوشة، على قلب مفاهيم المجتمع المدني وتحويلها إلى أبواق ودعاية خاصة من اؤلئك المهرجين والبهلوانيين الذين قدموا فقراتهم التهريجية على مسرح النظام السابق.

إذا بقيت عناصر الأزمة التي أشرت إليها فاني لا أوافق الصديق حسين درويش العادلي، الذي أرسلت له ايميلا على عنوانه الالكتروني المكتوب تحت صورته، فلم يصله على ما أظن، الذي عنون مقاله ( اشتدي أزمة تنفرجي). فالأزمة تنفرج حين نقود حملة لتقويض عناصر هذه الأزمة المستفحلة ولن تنجح هذه الحملة بدون ان يتغير وعي الناس وتتغير أساليب عملهم وتفكيرهم. فالاستياء وحده لا يكفي إذا لم يتحول إلى فعل جماعي سلمي متضامن. ورغم ان كثيرا من المؤمنين يثقفوننا بالآية الحادية عشرة من سورة الرعد التي تقول(لايغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) إلا ان أحدا لايريد ان يتغير أو يغير.

تصميم موديل الديمقراطية

كان التصميم الأمريكي والبريطاني لديمقراطية العراق موديلا صحيحا: توزيع سلطات وصلاحيات، تعددية حزبية، فصل بين السلطات. دستور، صحافة حرة، انتخابات، هيئات مستقلة. لكن التطبيق جاء مخيبا للآمال. وربما أصبح تطبيق هذا التصميم معضلة تشبه العيب الخلقي الذي يولد به بعض الأطفال. فبدلا من وجود دولة تطبق هذا التصميم وهذا الموديل من خلال أحزاب مدنية وطبقة وسطى وثقافة قانونية ودستورية وفكر عقلاني ومستنير، تولت وحدات عشائرية ودينية تطبيق هذا الموديل الذي لاتريده أصلا ولا تؤمن به وبجوهره التعددي والمدني والسياسي الحقوقي.

وبدل ان تصبح الانتخابات مقياسا لوعي الطبقات والفئات والقوى الاجتماعية بمصالحها أصبحت الانتخابات مقياسا لقوة ونفوذ العشائر والمذاهب. ومن حقي ان اتساءل : هل حقا عاد العراق إلى الوراء بهذه الطريقة. ففي ثلاثينات القرن الماضي كانت هناك طبقة وسطى وأحزاب مدنية وبرامج سياسية واجتماعية وأهداف وطنية لأحزاب وشخصيات ورجال سياسة ومثقفين وتجار مدن مثل جعفر أبو التمن ومحمد الصدر ومحمد رضا الشبيبي وعبد المحسن السعدون وعبد الفتاح إبراهيم ومعروف الرصافي وبهجت زينل وعبد الغفور البدري وإبراهيم صالح شكر وفهمي المدرس وغيرهم، بينما نفتقر الآن إلى الطابع المدني للعمل السياسي والى الأهداف والبرامج والقيم والمعايير.

كنت في سنوات المعارضة وخلال التسعينات وقبل سقوط صدام اكتب باستمرار في جريدة (الحياة) اللندنية وأحيانا في جريدة الشرق الأوسط. كنت ألوم أحزاب المعارضة على فقدان برامجها لما بعد صدام. كانت المؤتمرات الممولة أمريكيا وسعوديا بالدرجة الأولى تعقد تحت شعارات ودعايات سرعان ما تتبدد في أيام المؤتمر نفسها حيث الاختلافات حزبية وشخصية وإيديولوجية وليست اختلافات وطنية على برامج ومبادئ وقيم وبرامج. وكان شعار (وحدة المعارضة) يثير السخرية أكثر مما يثير الأمل لان الجميع يخاصمون الجميع والجميع يعترضون على الجميع. أما أنا فما أزال مريضا نفسيا ومعقدا لأنني أرى الواقع وأسعى للمساهمة في تغييره. والآن عرفنا ان لا احد من السياسيين يريد تغيير الواقع. أي لايريد احد منهم ان يبني العراق ويحقق آمال ورغبات وإرادة العراقيين. والآن تأكدنا من ان احزابنا غير وطنية وسياسيينا غير وطنيين. فان وطنهم هو حزبهم ومصالحهم، ووطنيتهم ليست الحفاظ على مصالح الوطن وسكان الوطن وإنما استخدام الوطن لتحقيق مصالحهم ومصالح أحزابهم. لايعني هذا انهم لايحبون وطنهم وعراقهم، ولكنه يعني انهم يحبونه بطريقة مخطوءة. فهم يحبون وطنهم في أحزابهم فقط، ويتصورون ان طريقتهم هذه هي حب الوطن ولكنها ليست كذلك. ولذلك أصبح من السهولة ان يكون الوطن شيعيا أو يكون الوطن سنيا. وأصبح من السهولة ان يكون الوطن بعثيا أو شيوعيا أو إسلاميا. وأصبح من السهولة ان يكون الوطن عربيا أو كرديا أو تركمانيا.

هكذا لانحب الوطن ولانحب العراق وإنما نحب ما نسميه اليوم (المكونات) ونختصر الوطن بها. أما الآخرون فليذهبوا إلى الجحيم طالما ان حزبي هو وطني وان طائفتي هي وطني وان محافظتي هي وطني وان قوميتي هي وطني. وأكثر من ذلك إذا لم يحصل السياسي على المنصب الذي يسعى إليه فلن يكون لديه وطن يحبه وإنما يتحول الوطن إلى عدو.

معركة الديمقراطية ضد الشموليات

في فيلم (واترلو)، المعركة التي انهزم بها نابليون، يرد نابليون على بعض قواده وهم يرون انهيار قطعاتهم العسكرية تحت وطأة نيران جيش دوق ولينغتون الانجليزي في الساعة السادسة مساء ( اسمعوا، لن انسحب. لقد واجهت ذلك من قبل. ففي معركة ليني كنت على وشك الهزيمة في الساعة الخامسة، ولكني انتصرت في الساعة السابعة). بيد ان نابليون كان وحيدا في الساعة الثامنة بعد ان ابيد جيشه ابادة تامة. كان خطأ نابليون هو خطآ صدام أيضا وخطأ كل الطغاة والمغامرين المقامرين بشعوبهم. إعادة التاريخ واعتباره قابلا للعمل في كل مرة. كان نابليون يواجه المستحيل الذي أراد ان يقهره فقهره المستحيل، فقال( لقد خسرنا كل شيء إلا الشرف) فقد أراد ان يزج بحصانه في لهيب المعركة التي أدرك انه يخسرها، ولكن قواده اثنوه عن ذلك.

وفي العراق يحاول كثير من سياسيينا خوض المعركة ضد المستحيل، ولكنهم لن يتمكنوا من هزيمته لان شروط المستحيل هي شروط غير واقعية فكيف يمكن الإمساك بشروط غير موجودة؟ تلك هي مشكلة التصميم الامريكي للديمقراطية في العراق. فقد خضنا معارك الديمقراطية ضد الشموليات الكبرى الدينية والقومية والاشتراكية وإيديولوجياته التي لاتعترف بالحريات والحقوق والدساتير وحرية الأحزاب والتعددية وحرية الصحافة ومدنية التعليم، لكن الفساد كان المدفعية التي أوقعت في صفوفنا أشلاء الديمقراطية فامتلك كل حزب صحافته من صحف وفضائيات فانعدمت استقلالية الصحافة ثم أردفت الحكومة إعلام الدولة على ظهر دابتها مع الهيئات المستقلة الأخرى فانعدمت استقلالية الديمقراطية ومهنيتها.

 وفضلا عن هذه الشمولية هناك الأنياب التي كشرت عها الأموال الهائلة من الخارج والتي تدفقت على الأحزاب والقوى السياسية بديلا عن تدفق مياه دجلة والفرات. ولكي نعمق ورطتنا صممنا قانون انتخابات لا يصلح حتى ان يكون قائمة في يد مقاول عمال في مسطر من المساطر التي تتعرض للإرهاب، فهو يختارا لعمال وفق مهارتهم وخبرتهم، بينما لايستطيع مقاول النواب ان يختار نواب قائمته حسب الاختصاص والخبرة والمهارة. أما الدستور فقد تحول في الفترة الأخيرة إلى لعبة كلمات متقاطعة نتذكر المعاني والمرادفات لكي نعثر على الكلمة المطلوبة. ولكي نصلح ما أفسده تاريخنا السياسي الشمولي غير الديمقراطي، فان ذلك يقتضي ان أحدثكم عنه في مناسبة قادمة.

يقول مثل لبناني(المصلح يأكل ثلثين القتلة) أي ان ثلثي الضرب يقع فيه من الفريقين وهو (يحجز) بينهما، فمن يريد ان يصلح بين فريقين يتقاتلان من اجل السلطة، أو يقف بينهما ؟ فانا لا اريد ان امثل دور الاب ياناروس في رواية الاخوة الاعداء لكازانتزاكي التي تتحدث عن الحرب الاهلية في اليونان في نهاية الاربعينات بين الشيوعيين والملكيين، بين ذوي القبعات الحمراء وبين ذوي القبعات السود وهو يقف وسط الفريقين المتحاربين وهو يصيح : يا اخوتي، حتى اتته طلقات الفريقين المتحاربين وتسقطه ميتا.

www.almowatennews.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء26/حزيران/2012 - 5/شعبان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م