قراءة في مفهوم الشورى ومعانيها

الشيخ فاضل الصفّار

إن الفقيه الجامع للشرائط أو الحاكم الذي نصبه الفقيه يجب عليه في مقام الحكم وإصدار القرارات أن يأخذ بالشورى، وهذا على نحو الوجوب، خلافاً لجمع ممن ذهب إلى الاستحباب، فمن شروط الحاكم ومشروعية حكمه أن يأخذ بالشورى ولا يستبد برأيه؛ لأن الشورى واجب والاستبداد حرام، فلو تفرد الحاكم بالرأي وتجاوز الشورى استحق العزل لسقوطه عن المؤهلات، إما لجهة الملازمة بين الحكم التكليفي والوضعي، أو من جهة موضوعية الشورى في شرعية الحكم، أو لغير ذلك من الجهات التي توجب خروجه عن الشرعية.

وهنا أمور ينبغي بيانها:

الأمر الأول: في مفهوم الشورى لغة وعرفاَ

 قال الراغب الأصفهاني: التشاور والمشاورة والمشورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض الآخر من قولهم: شرت العسل إذا أتخذته من موضعه واستخرجته منه[1].

وفي مجمع البحرين: شاورته في الامر واستشرته بمعنى راجعته لأرى رأيه فيه[2].

وفي مجمع البيان: يقال: صار هذا الشيء شورى بين القوم اذا تشاوروا فيه، وهو فعلى من المشاورة، وهو المفاوضة، وفي الكلام ليظهر الحق، اي لاينفردون بامر حتى يشاوروا غيرهم فيه[3].

وفي تاج العروس: يقال: فلان شيّرك اي مشاورك... وشيّرك وزيرك. يقال فلان وزير فلان وشيره أي مشاوره، وجمعه شوراء كما في شعراء،[4] وأشرني عسل وأشرني على عسل أعني على جمعه وأخذه من مواضعه.[5] وهذه تؤكد أن المشاورة هي أحد أساليب الفحص والبحث قبل اتخاذ الرأي النهائي والعزم الأخير في المسألة، وعلى ذلك يمكن القول بان الشورى تتضمن مرحلتين من العمل:

الأولى: استكشاف واختبار.

والثانية: اختيار الرأي الصائب من تصفح الآراء والأخذ به. هذا بحسب اللغة.

وأما في العرف فالظاهر أن الشورى في كل شيء بحسبه، ففي الأمور الخاصة يكفي فيها الاستطلاع بلا إلزام، وأما في إلامور العامة خصوصاً مسائل الحكم والدولة فالظاهر أنها ملزمة للتبادر، ومنه يقال: المستشار العليم الذي يؤخذ رأيه في أمر هام علمي أو فني أو سياسي أو قضائي أو اقتصادي ونحوه. نعم قد يقال: إنه قد جرت سيرة العقلاء على الأخذ برأي المستشار وإلا كانت المشورة لغواً، فتدل حينئذ على الإلزام في الأمور العامة في الأولوية، ويعضد ذلك أمور:

أحدها: أن البشرية تعتمد على نظام المستشارين في إدارة أي عمل، وقلما نلاحظ وجود مدير أو مسؤول أو رئيس بمعزل عن المستشارين، وفي نفس الوقت لا يكون لهم تاثير على المستشير، بل وظيفتهم مجرد إبداء الرأي والنصيحة.

ثانيها: أن الآيات الواردة بشأن الشورى ورد بعضها في مقام بيان صفات خاصة يتحلى بها المؤمنون، ومن هذه الصفات عدم استبدادهم بالرأي، وعدم تجاوزهم لآراء الآخرين، فهي تشير إلى ما يجب أن يتحلى به المسلم في تصرفاته الخاصة من تحريه للصواب والحكمة، وهي ضالته أينما وجدها أخذها،[6] فليس الأمر محصوراً بالشؤون العامة التي تهم جميع المسلمين، وهذا ما قامت عليه سيرة العقلاء في شؤونهم الخاصة في معاملاتهم وفي نكاحهم وفي سفرهم وحضرهم وما أشبه ذلك.

ثالثها: ما ورد في سورة النمل من قصة بلقيس ملكة سبأ حينما جاءتها رسالة النبي سليمان (عليه السلام) استشارت قومها مع أن الحكم كان بيدها فأشاروا عليها وقالوا كما في القرآن الكريم: { نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين}[7] فإنه كاشف عن أمر عقلائي منذ القديم في أسلوب الإدارة وتدبير الامور العامة، وخصوصا شؤون الحكم والدولة من الرجوع في القرارات إلى المشورة، والشارع الحكيم قد امضى ذلك وحث عليه كما يكشف عنه إيراد ذكره في القرآن الكريم، ويقوم له شاهدان:

الأول: ماورد في مجمع البيان من تفسير آية الشورى من ان المعني بها الأنصار، حيث كانوا اذا ارادوا امرا قبل الاسلام وقبل قدوم النبي (صلى الله عليه وآله) اجتمعوا وتشاوروا، ثم عملوا عليه، فاثنى الله عليهم بذلك[8].

الثاني: ماورد في حلف الفضول الذي قام بين سادات العرب وطوائفهم على نصرة المظلوم والتآسي في المعاش،[9] ودخل فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبارك به،[10] وفي طبقات ابن سعد عن محمد بن عمر: لانعلم احدا سبق بني هاشم بهذا الحلف،[11] ومن الواضح ان الحلف من التحالف وهو التعاقد والتعاهد والتساعد والاتفاق[12]، وهو مالايتم الا عبر مشورة واستخلاص للرأي.

رابعها: الآثار الهامة التي تترتب على المشاورة من إيجاد ربط القيادة بالقاعدة، وتحفيز المواطنين على المشاركة في الشؤون العامة، فيطلع الحاكم على أمور الرعية، ويستخبر أحوالهم؛ ليرفع عنهم الحيف، ويقوم بحاجاتهم، ويلتزم بتطبيق العدل، فتسبب التفاف الأمة خلف الحاكم فتشاركه همومه، وتكفيه في بعض مهامه، مضافاً إلى تطييب الخواطر والنفوس ومنع الإخلال بالنظام والفوضى، أو الوقوع في الأضرار التي يسببها التفرد وانعزال الحاكم عن الشعب وغيرها من الآثار الكبيرة التي لها ملاكات الحرمة والوجوب التي ينبغي على كل حاكم مراعاتها.

الأمر الثاني: في معنى الامر الذي يجب فيه الشورى

إن الإضافة الواردة في قوله سبحانه: {وأمرهم شورى بينهم}[13] تدل على أن الشأن المستشار فيه هو ما يهم مجموع المسلمين، وعن بعض الاعلام تفسير الامر بذلك،[14] وبناء عليه فإننا إذا نظرنا إلى مفردات الآية الكريمة نجد أن غاية ما تدل عليه هو أن الأمر والشأن مضاف إلى المسلمين، ولكي يترتب عليه المحمول يجب توفر أمرين:

أحدهما: أن يكون الأمر مما يهم جماعة المسلمين.

وثانيهما: أن تكون صلاحية النظر في هذا الأمر إليهم، أي مضاف إليهم، ومختص بهم، وهذا شرط مهم حتى يمكن تطبيق الشورى والحكم بشورائية القرارات، وهذا ما تحرزه لنا قاعدة السلطنة.

ومما لا ينبغي الشك فيه أن اختيار الحاكم حيث كان بالاختيار والشورى وجب أن يلتزم بشروطها، ومنها أن يراعي حدود ما أعطته الأمة من صلاحية للتصرف في شؤونها، وأن يحرز رضاها فيما يختار ويقرر، وهذا شرط ضمني في عقد الوكالة أو التفويض أو النيابة ونحوها على حسب عقد الانتخاب، فلا يجوز للحاكم التفرد بالرأي أو اتخاذ ما لا توافق عليه الأمة أو ترتضيه؛ لأنه بذلك إما يسقط عن الأهلية لعدم رضاية الأمة وبطلان الوكالة أو النيابة ونحوها، أو تبطل طاعته في ذلك حسب اختلاف الآراء في المسألة.

الأمر الثالث: في وجه وجوب استشارة النبي (صلى الله عليه وآله)

أن في توجيه وجوب استشارة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأصحابه مع وفور رأيه وعصمته ورجحان عقله احتمالات:

الأول: أنه مقتضى الحكم الواقعي بالعنوان الأولي؛ لظهور آية الشورى المعضودة بالحكم العقلي، وهو ما قد يظهر من الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك، حيث علل ذلك بامتثال الامر الالهي في قوله: { وشاورهم في الامر}[15].

الثاني: أنه مقتضى الحكم الواقعي بالعنوان الثانوي؛ وذلك للأهم والمهم، ولعل تعليل الشيخ (قدس سره) في المبسوط باستنان الحكام بعده يشير اليه[16].

الثالث: أنه كان حكماً ظاهريا،ً وهو ما يظهر من المقدس الاردبيلي (قدس سره)[17]، ورجحه السيد الاستاذ (قدس سره) حيث قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يستشير أصحابه مع وفور رأيه وعصمته ورجحان عقله، ويأخذ حسب الظاهر بآرائهم، وإن كان يطابق رأيه في الواقع آراءهم فإن ذلك تسليماً واستمالة، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يفعل ذلك لهذين الأمرين، وإلا لم يكن محتاجا لآرائهم كما هو واضح.[18]

والفرق بين الاحتمالات في الحكم، فانه على الاول والثاني الوجوب، والاختلاف بينهما في الرتبة، فان وجوب الشورى على الاول نفسي ناشئ من المصلحة الواقعية في الشورى نفسها، بينما على الثاني غيري ناشىء من مصلحة اخرى ثانية غير الشورى كمصلحة الاستنان به من قبل الحكام بحيث لولاها لما وجبت، فانها بالنسبة اليه مستحبة؛ لحصانة العصمة المغنية عن الاعتصام بالشورى، الا انها وجبت في الرتبة الثانوية، فهي مستحب واقعي اولي وواجب واقعي ثانوي، واما على الثالث فهو الاستحباب، وكان ياخذ به النبي (صلى الله عليه وآله) في الحالات المختلفة؛ لتطيب القلوب والخواطر وجمعها في راي واحد، فالاخذ بالشورى لم يكن من جهة الالزام الشرعي، بل الالتزام العقلي الذي تقتضيه مصلحة السياسة وتدبير الامر، ويمكن تلخيص الفرق في أمرين:

احدهما: الحكم، فان حكم الشورى على الاحتمال الأول هو الوجوب النفسي، نص على ذلك الشرع، وعلى الاحتمال الثاني هو الوجوب الغيري، دل عليه الشرع والعقل، واما على الاحتمال الثالث فحكمها الاستحباب.

ثانيهما: النتيجة، فانه لايجوز مخالفة الشورى أصلا أو نتيجة على الاحتمالين الاولين لاستلزامها مخالفة الشارع، ويجوز على الثالث لاستلزامها مخالفة هوى الناس ورغبتهم، ولعل الذي يتطابق مع القواعد الشرعية والعقلية هو الاحتمال الثاني لما عرفت، ويشهد له جملة من الموارد التي وجبت حتى على المعصوم لامن جهة الحاجة بل لمصلحة اخرى تستلزم الوجوب، كمصلحة تعميم القانون، أو صونه من الخرق والتجاوز، أو تأسيس المنهج، أو سد الذرائع ونحوها.

منها: حضور المعصوم عند القاضي غير المعصوم لحل منازعة مع أن العصمة مانعة من الخطأ والبطلان[19].

ومنها: حكمه (صلى الله عليه وآله) في القضاء بالاخذ بالبيّنات والأيمان[20] مع أن علمه حجة، وعصمته مانعة من الخطأ.

ومنها: معاملاته (صلى الله عليه وآله) بيعا وشراءَ ونكاحا وهبة ونحوها من العقود والإيقاعات مع أن ولايته العامة وعصمته مانعتان من التصرف بغير وجه حق.

كل ذلك من أجل مصلحة تأسيس المنهج، وتعزيز مكانة القانون في القلوب، وتعميمه على الجميع من دون استثناء لأحد حتى المعصوم؛ ولعل السبب في ذلك هو سد الذرائع أمام الحكام ونحوهم من ذوي القوة؛ لكيلا لايتجاوزوا على القانون ويخرقوه بحجة الاقتداء بالنبي (صلى الله عليه وآله).

ولعل من هنا أجاب مولانا أميرالمؤمنين (عليه السلام) حينما سئل عن سبب تغسيله النبي (صلى الله عليه وآله) مع أنه طاهر مطهر لاحاجة له الى التغسيل كما في بعض الاخبار: بأن ذلك لجريان السنة.

وعليه فانه يمكن القول بوجوب الشورى عليه (صلى الله عليه وآله) لامن جهة الواجب النفسي بل الغيري الناشئ من المصلحة الثانوية في جعل الشورى منهجا للحكم، وسمة في الحاكم، وسبيلا الى الصواب في الرأي، والتعاون في العمل. نعم يختص ذلك في الموارد التي تفي بتعيين الطريق ورسم المنهج بحسب مايقرره المعصوم من المصلحة؛ ومن هنا كان يستشير في موارد ويعمل بقراره في أخرى، وأما غيره فلا مناص له الا بالاخذ بالشورى في مختلف الشؤون والاحوال.

وبذلك يظهر وجه المناقشة في الاحتمالين الآخرين:

أما الأول: فلأن العصمة تمنع من حاجة المعصوم الى غير المعصوم في الرأي والوصول الى الصواب، فالقول بوجوب الشورى عليه وجوبا نفسيا كوجوب الصلاة والصيام والحج يستلزم اللغوية، وترجيح المرجوح، أما الأول فواضح.

 وأما الثاني: فلان لازم الوجوب النفسي هو الاخذ برأي الشورى مطلقا، وهو باطل؛ لأن الأمر لايخلو من احتمالين:

أحدهما: أن تخالف الشورى رأي المعصوم، وحينئذ ينبغي ترجيح رأيه عقلا؛ لحصانة العصمة من الخطأ، فالاخذ برأي غيره ترجيح للمرجوح. وشرعا لما دل على وجوب الاخذ برأي المعصوم وحرمة مخالفته كقوله تعالى: {وماآتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا}[21].

ثانيهما: أن تطابق الشورى رأي المعصوم، وحينئذ كان أخذه بها لامن جهة كونها شورى، بل صوابيتها لتطابقها مع رأيه.

وأما الثالث: فلمنافاته لظواهر النصوص والسيرة الدالة على الوجوب، بل والقواعد العقلية؛ لما عرفت من أن القول بعدم وجوب الشورى يستلزم جواز مخالفتها، وحينئذ يقال: إن جازت مخالفتها من حيث الأصل فيجوز للمعصوم أن يستغني عن آراء الامة، ويعمل برأيه في كل مايهمها ويتعلق بشؤونها، كان تعلق الامر بها في النصوص لغوياَ بل نقضاَ للغرض وتكريسا لاستغناء الحكّام عن رأي الأمة؛ لكون المعصوم قدوة للناس، وان جازت من حيث النتيجة فيجوز للمعصوم أن يستغني عن رأي الشورى بعد التشاور كانت المشورة لغواَ ونقضاَ للغرض أيضا.

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

......................................................

[1] مفردات الفاظ القران الكريم: ص470 شور.

[2] مجمع البحرين: ج3 ص356 شور.

[3] مجمع البيان: ج9 ص33 ذيل الآية: 39 من سورة الشورى.

[4] تاج العروس: ج3 ص320 شور.

[5] المصدر نفسه؛ وانظر لسان العرب: ج4 ص434 شور.

[6] البحار: ج1 ص148 ؛ وفي المحاسن: ص230 ح171 قال امير المؤمنين (عليه السلام): خذوا الحكمة ولو من اهل المشركين».

[7] سورة النمل: الآية 33.

[8] مجمع البيان: ج9 ص33 ذيل الآية 39 من سورة الشورى.

[9] انظر السيرة النبوية لابن هشام: ج1 ص133 – 134.

[10] المصدر نفسه: ص134 ؛ وانظر لسان العرب: ج9 ص53-54 حلف.

[11] الطبقات الكبرى: ج1 ص129.

[12] انظر مجمع البحرين: ج5 ص39 حلف ؛ لسان العرب: ج9 ص53 حلف.

[13] سورة الشورى: الآية 39.

[14] اجود التقريرات: ج1 ص131، وقد قال: ورد في تعريف الامر: الواقعة التي لها اهمية في الجملة.

[15] مسالك الافهام: ج13 ص372.

[16] المبسوط: ج8 ص98.

[17] زبدة البيان: ص426.

[18] كتاب الحكم في الاسلام: ج99 ص61.

[19] انظر الانتصار كتاب القضاء والشهادات» ضمن الينابيع الفقهية»: ص32 – 35 ؛ مناقب آ ل ابي طالب: ج2 ص105 ؛ البحار: ج101 ص209 ح4.

[20] انظر الوسائل: ج27 ص229 ح33657 وح33658 الباب 1 من ابواب كيفية الحكم؛ مستدرك الوسائل: ج17 ص360 ح21583 الباب1 من ابواب كيفية الحكم.

[21] سورة الحشر: الآية 7.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 25/حزيران/2012 - 4/شعبان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م