كاز وغاز في غزة

توفيق أبو شومر

مَن يعش في غزة سرعان ما يكتشف بأن لغزة صناعة تحويلية، لا توجد في كل بقاع الأرض، ففي غزة مصانع لإنتاج الأزمات مختلفة الأشكال والألوان، وتعتمد صناعة الأزمات على مواد أولية معظمها مستورد من خارج غزة، ويُسوَّق السمسارُ الإسرائيلي هذه المواد الأولية لأنه يملك إحصاء دقيقا لجينات النفس الفلسطينية، وطرق التأثير فيها سلبا بالطبع، وذلك لخبرته الاحتلالية الطويلة!

 وللأزمات في غزة أشكالٌ وأنواعٌ مختلفة، فهناك أزمات مستدامة، تتمثل في كلسترول المعابر، الذي لم تفلح فيه كل الأدوية وعمليات القسطرة والقلب المفتوح ومن هذه الأزمات شلل (القهروباء) النصفي، الذي ران على وجه غزة، ويتحسن مؤقتا بالتدليك والعلاج الطبيعي الموضعي فترة قصيرة، ثم يعود الشللُ إلى خد غزة من جديد فور انتهاء التدليك!

ومن الأزمات المستدامة، أزمة المرتبات، والأدوية وأدوات البناء والوقود والمياه، وهذه الأزمات جميعها أصبحت جزءا من جينات غزة الرئيسة، تُؤرق كل غزي من الصباح إلى المساء، وتجعله يمارس أعماله وهو غارقٌ في همومها، يستيقظ في الصباح محتارا في ترتيب جدول الأزمات اليومي، مستسلما لهاتفه المحمول، الذي ينقل إليه أحدث أزمة أنتجتها مصانعُ الأزمات!!

 ولعلَّ أخطر ما في هذه الأزمات أن آثارها السلبية الجانبية تنعكس على كيان الأسر والعلاقات مع الجيران والأهل.

وأصبحت الأزمات جزءا من نسيج العلاقات الاجتماعية في غزة، فهي رابطة مصلحية جديدة، ولها منظومات مختصة، فهناك مخبرو الأزمات، ممن يتطوعون في نشرها، ثم هناك منسقوها ومُديروها، ممن يتولون حلها بطرقهم الخاصة، وبمجموعة من الألاعيب،فإذا شحَّ الوقودُ، فسرعان ما تبدأ ذاكرة الجوالات في التنقيب عن سدنة الوقود والبترول في هواتفهم المحمولة، ليتمكنوا من الاتصال بهم لملء سياراتهم بالوقود، وإذا فُُقد غازُ الطهي، تبدأ مطاردة موزعي الغاز، حتى أن أحدهم قال لي:

 "إن نصف الأسماء المحفوظة في جوالي مخصصة لمعارف الأزمات وأنا أختصر أسماءهم بأسماء الأزمة، فأنا أسمي قريبي في محطة الوقود( كاز 1)وفي مركز توزيع أنابيب الغاز (غاز 2) !!"

وهناك أزمات مفتعلة تنتجها خلايا الإفساد في داخل غزة، ينفذها بعضُ المستفيدين لغرض جني الأرباح والمكاسب المادية، ومنها نقص السيولة في العملة الإسرائيلية المتداولة في المصارف والبنوك، ودفع المواطنين إلى زاوية الضائقة وإجبارهم على بيع العملات بأسعار رخيصة وشراء العملة المحلية بسعر أغلى في الوقت والزمن نفسه، وللأسف فإن البنوك العامة المرخصة تمارس هذه الفعلة في كل شهر!

ومن تفريعات الأزمة السابقة، نقص الفكة في العملة المتداولة الشيكل، بحيث يصبح البيع والشراء عملية صعبة وشاقَّة، عندما لا تتوفر (الفكَّة) في الأسواق، ويصبح شرط الشراء هو وجود الفكة أولا، لدرجة أن سائقي الأجرة يشترطون على الراكب أن يكون المدفوع فكَّة!!

وهناك أزمات مُدَّخرة، جرى تجريبها في عملية الرصاص المصبوب، ويمكنها أن تصيب الحياة كلها بالشلل، وهي أزمة حجب الاتصالات الهاتفية، وهذه إحدى أخطر عقوبات الألفية الثالثة، وأشدها إيلاما، وذلك لأن نتائجها السلبية تتجاوز الأفراد لتطال النظام المجتمعي بأسره!!

إن مسلسل الأزمات في غزة أصبح جزءا لا يتجزأ من حياة الغزيين، غير أن استفادة الغزيين من هذه الأزمات محدودةٌ للغاية، فلم نتمكن من بلورة سياسة خاصة بالأزمات، فنحن في كل مرة نعود إلى نقطة الصفر، وكأن الأزمة التي تكررتْ عشرات المرات تحدث للمرة الأولى!

كما أن الدراساتِ والأبحاث في الجامعات والمعاهد، ما تزال شحيحة في هذا المجال، ولا سيما أثر الأزمات على النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وتأثيراتها الجانبية وآثارها السلبية، ولماذا لا ينجح الغزيون في بلورة صيغ وقوانين وإجراءات تمكنهم من مواجهة الأزمات؟!

 وأخيرا لماذا لا يمكننا بلورة نظام أزمات فلسطيني حياتي ندخل به موسوعة غينس للأرقام العالمية القياسية، بدلا من المحاولات المشهورة لدخول الموسوعة باستخدام حاويات الحلويات، وطناجر الحمص، ومئات أمتار صواني الكنافة النابلسية، التي اعتاد كثير من أهلنا أن يمارسوا طقوسها، والتي قد تسيء إلى جوهر نضالنا، كشعبٍ محاصرٍ يعاني من الجوع والفقر، وليس من الشبع والغنى والبطر؟!!

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 17/حزيران/2012 - 26/رجب/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م