شبكة النبأ: في المفهوم السياسي، هناك
بون شاسع يفصل بين رجل الدولة ورجل السلطة، من حيث الرؤية والسلوك
الفعلي، فالأول غالبا ما يكون هدفه البناء وتطوير الدولة المدنية
ومؤسساتها، وتبنّي سياسة العدل والمساواة وبث الوعي وصيانه الحريات
والحقوق، وخلق دولة مزدهرة لا يشوبها الفقر أو الحرمان أو القمع
بأنواعه، أما الثاني فهو على النقيض من ذلك تماما، كونه رجل باحث عن
السلطة أولا وأخيرا، وطالما كان سعيه وجهوده كلها محصورة في تحقيق هذا
الهدف، فإن وسائله التي يستخدمها لتحقيق مآربه، تتقاطع كليّا مع وسائل
رجل الدولة، فالثاني رجل قمع وتكميم ومصادرة وتضليل ومراوغة وهذه
وغيرها علامات واضحة لرجل السلطة ولملامح السلطة نفسها.
هكذا يبدو البون شاسعا فعلا بين الإثنين، ومثالنا هنا كي نستقي من
التأريخ تجارب تفيد الحاضر وتغنيه، مأخوذ من سيرة الامام علي بن ابي
طالب عليه السلام كقائد شرعي للدولة الاسلامية، وسيرة معاوية كرجل تسلل
الى السلطة بصورة غير شرعية واستخدم كل أساليب المراوغة والخداع
والتضليل والترغيب والترهيب للوصول إليها.
وما يلفت النظر تلك المقارنات الظالمة والغبية ايضا، التي أطلقها
بعض المستشرقين الغربيين في كتاباتهم عن تاريخ الدولة الاسلامية، حينما
أكد بعضهم أن معاوية أقوى وأكثر نجاحا في سياسة قيادة الدولة من علي
عليه السلام!!، وكان الاجدر أن تصحح تلك الآراء الاستشراقية وغيرها،
اهدافها وتوضح معانيها، فتقول إن معاوية نجح في الاستحواذ على السلطة
وقام بتوظيفها لخدمته الشخصية والعائلية وخدمة بطانته والمقربين منه،
مقابل ظلم وقهر وجور تعرض له المسلمون ابان تسلطه على زمام الامور،
ناهيك عن سياسة تدمير الدولة المدنية بعد غياب معايير العدالة والانصاف
وإنعاش الاقتصاد وما شابه.
لقد قدم الامام علي عليه السلام انموذجا فريدا في تأريخ المسلمين
والعرب لادارة الدولة المدنية المتحررة، فكان على سبيل المثال يوزع
الاموال الواردة لبيت المال على جميع مواطني الدولة الاسلامية بالتساوي،
وهي خطوة تسببت بخلق الكثير من العداوات لقائد الدولة الاسلامية الاعلى،
حيث كان الكثير من المتضررين بسياسة المساواة، يرون أن التوزيع
المتساوي للمال على المواطنين ينطوي على غبن لهم!!، وهذه تحديدا سياسة
معاوية في توزيع الهبات والمنح المالية الكبيرة على ذويه ومعاونية
وبطانته والمقربين منه، بل وكل من يمنحه طاعة عمياء حتى لو تم ذلك على
حساب الحق، فيما يبقى عامة الناس في مستوى أدنى، وهو الامر الذي رفضه
الامام علي عليه السلام بصورة قاطعة.
من جهة اخرى ثمة خطوات اخرى قام بها الامام علي عليه السلام، تدل
بشكل قاطع على كونه رجل دولة وليس رجل سلطة، منها تركيزه على تطوير
اقتصاد الدولة ومضاعفة الموارد من الزراعة او سواها، كذلك منح الصوت
المعارض كامل الحقوق في الإدلاء برأيه وعدم التعرض له، وهذه الامور
تمثل دلائل قاطعة على السلوك القيادي ذي الطابع المتمدن لرجل الدولة،
خلافا لما قام به معاوية من تدمير لاقتصاد الدولة وتذويب لمؤسساتها في
شخصه، ناهيك عن حملات القتل والتعذيب والتشريد التي كان يشنها على
معارضيه، كما تثبت ذلك أدلّة التأريخ وسياسة معاوية نفسها، وكما نقرأ
ذلك أيضا، في قول سماحة الفقيه الشهيد، آية الله السيد محمد رضا
الشيرازي (رحمه الله وأعلى درجاته) حيث يقول في كتابه الموسوم بـ (أمير
المؤمنين .. الشخصية الخالدة):
(كان معاوية سببا لسفك دماء المسلمين، وجرى على يديه وبأمره وعن
طريق أمرائه وولاته دماء الآلاف من المؤمنين الابرياء، ففضلا عمّن قُتل
في حرب صفين والتي راح ضحيتها الآلاف من اهل الشام واهل العراق والتي
كان سببها عدم طاعة معاوية لخليفة المسلمين امير المؤمنين علي عليه
السلام وانتهاك حرمة المسلمين، فقد امر مجموعة من الولاة بتتبع شيعة
علي عليه السلام وقتلهم لا لشيء إلا لحبهم لعلي وآل علي، وقد أمرهم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقبله القرآن الكريم بمودّة ذي
القربى).
إذن من الواضح أن الآراء التي تذهب الى أن معاوية رجل دولة محنّك لم
تكن موفقة، وهي تنطوي على أغراض مبيّتة يفهمها جميع المسلمين وشرفاء
العالم المنصفين، نعم هو بالغ الدهاء لكن في الجانب السلبي، أي في ما
يخدم تثبيت اركان سلطته ونفوذه، حتى لو كان الثمن دماء المسلمين
وارواحهم وممتلكاتهم وحرياتهم وحقوقهم، في حين قدم الامام علي عليه
السلام لكل العالم، مسلمين أو غيرهم، انموذجا فريدا في القيادة
المتحضّرة للدولة وللامة، ومن الواضح أن هذا النموذج القيادي الناجح
كان وسيبقى المثال الأفضل للقادة المسلمين وغيرهم عبر التاريخ، لأنه
كان رجل دولة مدنية متحررة، فيما كان خصمه رجل سلطة مكبّل بحبه لذاته
وأنانيته من جهة وحبه المستميت للسلطة من جهة ثانية. |