الأنظمة العربية واشكالية تداول السلطة

احمد جويد/مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

أثبتت التجربة السياسية القائمة في الدول المتحضرة المزدهرة اقتصادياً والمستقرة أمنياً وسياسياً والأكثر احتراماً لحقوق الإنسان وحرياته، إنها قد آمنت بمبدأ التداول السلمي للسلطة وعملت على ترسيخ هذا المبدأ في أدبياتها الحزبية وسلوكياتها السياسية ونصوصها الدستورية، فمنحتها تلك الممارسات المزيد من الاستقرار والرقي والتقدم.

 ولم يأتي الإيمان بهذا المبدأ -التداول السلمي للسلطة - من فراغ، بل جاء نتيجة لمقدمات مبنية على:

أولاً: وجود تعددية حزبية.

ثانياً: وجود انتخابات حرة ونزيهة.

ثالثاً: وجود اتفاق حول مؤسسات الدولة وحكم الأغلبية السياسية في ظل احترام الدستور.

 قبل ما يسمى بالربيع العربي كان من المحرمات في الدول العربية أن يفكر الشعب بالتداول السلمي كمبدأ لتولي السلطة ومن يقول بهذا الرأي فإنه يعد من العملاء أو المتآمرين على الوطن والقيادة وربما يحاكم بتهمة الخيانة العظمى، وبعد عام 2011 والتحول الكبير الذي حصل في المجتمعات العربية التي كانت تواقة للتغير في رمز السلطة والحكم، حدث تخبط كبير في فهم مسألة تداول السلطة رغم وجود التعددية الحزبية والانتخابات الحرة وربما (النزيهة)، إلا أنه لا يوجد اتفاق على مؤسسات الدولة وكيفية حكم الأغلبية، فهل الإشكالية في الفترة الانتقالية التي تعقب كل الثورات في العالم، أم أن الأمر له علاقة بالثقافة العربية العصية على تقبل مفهوم التداول السلمي للسلطة وشروطه ونتائجه؟

 هذه الإشكالية والتخبط الذي قد يقود إلى صراعات مسلحة في بعض الأحيان ربما يكون مرده إلى:

1- عدم إيمان القوى السياسية بمبدأ التداول السلمي للسلطة.

2- سيطرة العقلية الانقلابية والاستئثار بالسلطة قبل التغيير يؤثر على انعدام الثقة بتداول السلطة.

3- حداثة التجربة والخوف من تفرد جهة أو حزب أو شخص بمقاليد السلطة والحكم.

4- قلة الوعي لدى الناخب في التوجه نحو البرنامج، فالناخب العربي في أغلب الأحيان تسيطر عليه عواطفه وربما عصبيته بالانتماء إلى طائفة أو منطقة أو فئة دون غيرها.

5- قدرة بعض السياسيين على إثارة الأزمات التي يشد من خلالها توجه الناخب نحو الشخص الذي ربما يكون مشروع ديكتاتور في المستقبل.

 وبذلك تكون دول التغيير العربي قد دخلت مرحلة انتقالية جديدة تتطلب تأسيس نسق واضح المعايير من الديمقراطية وذلك من خلال الاستناد إلى مبدأ التعاقب على السلطة، إذ توجد هنالك حقيقة جوهرية تتمثل في أن التحول الديمقراطي الحاصل في جميع الدول لن يؤدي إلى ممارسة ديمقراطية راسخة ومن ثم الوصول إلى الاستقرار السياسي إلا إذا ارتبط بوضع أسس وقواعد وآليات ثابتة ومقبولة لتعاقب القوى السياسية العاملة في ساحة العمل السياسي على السلطة السياسية في تلك الدول، وعليه فان المطلوب في هذه المرحلة الانتقالية وضع أسس وقواعد وآليات ثابتة ومقبولة لتعاقب القوى السياسية العاملة في ساحة العمل السياسي، ومن اجل أن يأخذ التحول الديمقراطي مداه الحقيقي ينبغي توفير أسسه المبدئية والمؤسساتية والإجرائية على صعيد بنية السلطة السياسية ومزاولتها وانتقالها من قوة سياسية لأخرى.

وهذا يتطلب وجود أجواء إيجابية وبناءً على ذلك، وكما يرى المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، (لا بد للسلطة السياسية توفير الأجواء الايجابية البناءة لتطوير أبناء المجتمع المسلم ومساعدتهم على المزيد من البذل والعطاء عن طريق التحسين المستمر للأداء السياسي نفسه سواء كان متصلاً بالسلطة السياسية كحكومة أو كمجلس استشاري أو كنشاط اقتصادي أو كمجلس شورى فقهاء وما إلى ذلك من مؤسسات إدارية تحدد الأزمان جدوى وجودها من عدمه).

 وإذا عدنا إلى تعريف التداول الذي قال به كل من شارل دباش التداول على السلطة بكونه (مبدأ ديمقراطي لا يمكن ـ وفقه ـ لأي حزب سياسي أن يبقى في السلطة إلى ما لا نهاية له، ويجب أن يعوض بتيار سياسي آخر)، أو ما ذهب له جان لوي كرمون الذي يرى (أنه وضمن احترام النظام السياسي القائم يدخل التداول تغييرا في الأدوار بين قوى سياسية في المعارضة أدخلها الاقتراع العام إلى السلطة و قوى سياسية أخرى تخلت بشكل ظرفي عن السلطة لكي تدخل إلى المعارضة).

 نجد إن التركيز على الجانب الوظيفي للتداول من حيث كونه آلية لإدارة الدخول و الخروج إلى السلطة والى المعارضة بين تيارات سياسية مختلفة، لكن في حقيقة الأمر إن إشكالية التداول على السلطة هي أعمق من ذلك بكثير فهي تكشف عن طبيعة الحالة الاجتماعية برمتها في صراعات أطرافها وتحالفاتهم وفي درجة الوعي السياسي العام، لذلك كان التحقق الفعلي لمبدأ التداول مرهونا بشروط مسبقة وهي الشروط الواردة في أعلاه والمتضمنة التعددية والانتخابات والاتفاق على مؤسسات الدولة.

 إن القيمة المؤسسية لمبدأ تداول السلطة لا تنحصر في فتح سبل العمل السياسي المشروع أمام التنظيمات السياسية فحسب، وإنما في انه يتضمن آلية محددة لتنظيم عملية انتقال السلطة السياسية بين القوى السياسية أيضا، ومن هذا الجانب ليس للتعددية الحزبية والعمل السياسي العلني المرخص للأحزاب أية قيمة من دون قدرة هذه الأحزاب على الوصول إلى السلطة.

ويرى الامام الشيرازي ان من أحسن الحلول لمشاكل الدولة المتناقضة، الأحزاب الحرة، وتبدل الدولة من رأسها كل أربع سنوات مثلاً، إذ الأحزاب الحرة لاختلاف أنظارها ومصالحها توجب الضغوط المتكافئة مما يوجب تعديل الدولة.

 ولا يمكن لحرية العمل السياسي لهذه الأحزاب أن تتكرس في إطار بنية سياسية إلا بإيجاد القواعد الدستورية التي تتولى تنظيم انتقال السلطة السياسية، وهذه القواعد والإجراءات القانونية والسياسية لعملية تعاقب القوى السياسية على السلطة، تعمل على تحويل السلطة السياسية إلى سلطة قانونية وليست فعلية، وعن طريقها تصبح مؤسسات السلطة السياسية مراكز قانونية يمكن إشغالها من قبل القوى السياسية وتولي عملية الحكم.

ويرى الامام الشيرازي ان تبدل الدولة في الفترات المختلفة من الأزمنة، يوجب عدم تراكم الكره، فكل جماعة يجدون بغيتهم في دورة من إحدى تلك الدورات المتبدلة، وبهذين الأمرين (الأحزاب، والتبدل) تسير الدولة سيراً معتدلاً، فلا يصيبها جمود بقاء الدولة، ولا فوضى تبدّل الدولة.

 ولا يتجسد الطابع الديمقراطي لمبدأ تداول السلطة بفتح مجالات المشاركة السياسية لجميع القوى السياسية فحسب وإنما بإقرار إمكانية أي من تلك القوى تستطيع الوصول إلى مواقع السلطة وخاصة قوى المعارضة وذلك عبر الانتخابات والحصول على أصوات الناخبين، وهذا ما يجب أن تعمل عليه القوى السياسية في دول التغيير العربي.

دول التغيير العربي أصبحت اليوم أمام حقائق ثابتة وهي إن الصراع السياسي ما هو إلا صراع حول السلطة وان هناك نوعين من الصراع السياسي يجري التمييز بينهما بدلالة فكرة الشرعية، فالصراع يكون في النظام عندما ينعقد الاتفاق بين القوى الاجتماعية على اعتباره شرعيا، ويكون الصراع على النظام عندما ينقطع الاتفاق بين هذه القوى على شرعيته وان قوى معينة تعمل على الإطاحة به وتسعى لإقامة نظام آخر بديل، وبسبب طبيعة العلاقة القائمة بين السلطة والقانون، فان القوى السياسية المتصارعة تسعى لان تقدم صيغة معينة من الشرعية تتمسك بها مبدئيا وتثبتها عمليا وذلك أما خارج نطاق القوانين المعمول بها أي تقويض النظام السياسي القائم وفرض نظام سياسي جديد تسيره وفقا لمنظورها الخاص عن المصلحة العامة أو أن تصل إلى السلطة عن طريق الإجراءات التي يرسمها القانون.

 ففي الأنظمة السياسية الديمقراطية، تتألف التشكيلة السياسية للبلد من حكومة تزاول السلطة، ومن معارضة تراقبها وتنقدها وتنافسها وتسعى إلى أبعادها عن السلطة في دورة انتخابية قادمة، وضمن هذا الإطار تكون المعارضة جزءا من النظام السياسي، غير إن الأمر في دول التي تمارس الآليات الديمقراطية في المنطقة العربية ومنها العراق لم تكن على هذه الشاكلة، فبعض قوى المعارضة العراقية لم تكن جزءا من النظام السياسي، بل هي مشروع لقوى إقليمية تحاول إسقاط العملية السياسية برمتها بعيداً عن آلية الترشيح والانتخاب، أما بالنسبة لبقية الأطراف المشتركة في النظام السياسي فجميعها يطالب بالاشتراك في الحكومة تاركين مقاعد المعارضة والمراقبة فارغة خوفاً من عدم انتخابهم في المرة القادمة لأنهم خارج الإطار التنفيذي للسلطة، وهذا الأمر يدلل على إن الإنسان العربي والعراقي سواء كان ناخب أو سياسي فإنه لا يعبأ لم هو خارج السلطة.

وربما يثار سؤال حول دول التداول المستقرة، وهو إن هناك حزبان فقط هم اللذان يتبادلان الأدوار ولا مكان للأحزاب الأخر، نقول لا بأس بذلك مادام التداول موجود في داخل الحزب، أي إن زعامة الحزب أو الشخص المرشح من قبل الحزب لتولي رئاسة الحكومة او الدولة لا يكون واحد يعاد انتخابه أو تقديمه في كل مرة دون غيره إذ لا يخشى من استبداد الحزب فقط بل تكون الخشية اكبر بسبب استبداد شخص في رئاسة الحزب والسلطة.

ويرى الامام الشيرازي أن الحكومات ذات الحزب الواحد تفسد وتفسد، حيث تتجمع القدرة في يد فئة خاصة، وكذلك الحكومات الوراثية لأن القدرة تتراكم عندها، بدون منافس ومقابل. بينما الحكومات الاستشارية، ذات الأحزاب المتعددة والتبدل في رؤساء الحكم تبقى سليمة، كما يبقى الناس تحت ظلها في أمن وسلام. وإفساد تجمع القدرة، بالإضافة إلى إفساد عدم الخبرة، يتجمعان في الحكومات الانقلابية، حيث إن الجيش الذي يسيطر على الحكم.

وبالتالي لا بد للدول التي تريد النهوض بواقعها السياسي والأمني والاقتصادي والتي تسعى إلى مواكبة ركب الدول المتحضرة أن تسعى إلى ترسيخ مبدأ التداول السلمي للسلطة سواء في حكوماتها المتعاقبة او احزابها السياسية او مختلف المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، وأن يذكروا القول المشهور لو دامت لغيرك لما وصلت إليك، وقد قال الله تعالى (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (140)آل عمران.

* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

http://shrsc.com

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 9/حزيران/2012 - 18/رجب/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م