التوازن النفسي وسلامة البناء المجتمعي

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

شبكة النبأ: الصحة النفسية لا تقل أهمية عن الصحة الجسدية، لكن قلة الوعي في المجتمعات المتأخرة، تجعلهم يتعاملون مع الجانب النفسي بحالة مستديمة من عدم الاكتراث واللامبالاة، بل يدفعهم الجهل فيما يتعلق بخفايا النفس الى إهمالها تماما، ومنهم من ينظر الى علاج النفس وكأنه من العيوب التي تسيء للانسان ولمكانته بين الآخرين، لكن في الحقيقة من أهم الامور التي ينبغي على الانسان مراعاتها والسعي لتحقيقها، هو (التوازن النفسي) الذي وصفه سماحة المرجع الديني، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (حلية الصالحين)، قائلا في هذا الخصوص: إن (التوازن في النفس مهمّ جدّاً، كما هو مهمّ في كلّ شيء؛ وكما أنّ أدنى اختلال في توازن الأشياء قد يؤدّي إلى تحطّمها أو خرابها، فكذلك الحال مع النفس).

دقة النفس الانسانية

إن حالة التوازن هي الايقاع الطبيعي الذي يحكم العلاقات القائمة بين الطبيعة والانسان من جهة، وبين الانسان ونفسه من جهة ثانية، من هنا تتأكد أهمية التوازن للاشياء وللانسان معا، وأن أي اختلال في هذا الجانب سينعكس على سلوك الفرد ثم المجتمع برمته، لهذا يدخل جانب التوازن النفسي بوضوح في البناء المجتمعي السليم، من هنا ظهرت الاصوات والاقلام المعنية التي تطالب بضرورة التنبّه للجانب النفسي ومراعاته كما هي الحال مع مراعات الجانب المادي تماما، وذلك بسبب دقة النفس، كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي بقوله: (إنّ النفس الإنسانية دقيقة جدّاً وسريعة التأثر إلى درجة كبيرة، فهي كالنابض الذي يهبط لأدنى ضغط ويرتفع بارتفاعه بسرعة. مثاله: لو تبسّمتَ في وجه شخصٍ ما، فسوف تنبسط أساريره ويتعامل معك باتّزان، ثمّ لو عبّست في وجهه بعد ذلك، تراه يفقد وعيه ويختلّ توازنه ولا تعود معاملته لك كما كانت آنفاً، ولا يعذرك أو يحتمل وجود سبب ما لعبوسك).

ولا ينحصر التوازن في جانب محدد، بشري أو سواه، بل هناك حالة من التناغم والانسجام ينبغي أن تسود بين الانسان ونفسه من جهة، وبين الانسان وما يقع خارجه من كائنات أو أشياء أخرى، لأن الاختلال في عملية التوازن تقود الى نتائج مؤسفة بل ومدمرة أحيانا، ليس على مستوى الافراد فحسب وانما على مستوى المجتمعات ايضا، من هنا تأتي أهمية صيانة النفس ومراقبتها ودفعها دائما نحو التوازن وعدم الاختلال، علما أن عوامل الاتزان كثيرة وقد تكون متعددة، لذا على الانسان أن يراقب نفسه من خلال كل ما يشترك في دفعها نحو الأفضل، ويضرب لنا سماحة المرجع الشيرازي مثالا حول هذا الجانب يقول فيه: إن (الطائرة التي تحلّق في الفضاء ربما ساهم في توازنها اجتماع آلاف العوامل على نحو الأمر الارتباطي - على حدّ تعبير الفقهاء- . فما أكثر الأجزاء والعوامل والشروط التي لابدّ من توافرها، وما أكثر الموانع والمُخلاّت التي لابدّ من رفعها، حتى تستطيع أن تحلّق هكذا في الفضاء ولا تهوي، ولو اختلّ جزء واحد من تلك الأجزاء أو حصل مانع ما فربما تفقد الطائرة توازنها وتسقط).

التوازن التكويني والنفسي

وهناك نوعان من التوازن بشكل عام، التوازن التكويني وهو ما يتعلق بالجسد المادي الملموس، فاذا حدث خلل في هذا الجانب سيتعرض بدن الانسان الى ضرر بحجم الخلل التكويني الذي يتعرض له، ولكن هناك ضرر كبير تتعرض له النفس في حالة حدوث عدم التوازن المعنوي، وهو أمر يضر النفس ويصيبها بحالة من عدم الاتزان، وبالتالي ينعكس هذا الضرر على عموم حياة الانسان، ويؤدي به في مسالك ربما لم يحسب لها حساب، إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي بهذا الخصوص بكتابه المذكور نفسه:  فكما تشير كثير من الامور (إلى أهميّة التوازن في الأمور التكوينية، وهذا ما يلمسه عامّة الناس عادة ويدركونه بسهولة. فكذلك التوازن مطلوب في النفس وباقي الأمور المعنوية، بل هو أهمّ، لأنّ فقدان التوازن في المادّيات قد يؤدّي إلى تلف الأبدان، أمّا في المعنويات فيؤدّي إلى تلف النفوس).

وكلنا نفهم أن تلف النفوس يؤدي الى خراب شامل في الجانبين المادي والمعنوي، وهو ما ينعكس حتما على التكوين الفردي ثم على البناء المجتمعي، حيث يتعرض المجتمع عموما الى اهتزازات نفسية تُسهم في تراجعه وتخلفه وتكريس حالات الجهل والمرض بين عموم افراد المجتمع، لهذا ينصح سماحة المرجع الشيرازي بضرورة التنبّه الى الجانب المعنوي بدقة، فكما يُسرع الانسان لمعالجة الخلل المادي الذي يصيب جسده، عليه أن يتعامل مع الخلل النفسي بدرجة الاهتمام نفسها أو أكبر، لأن النفس تتقدم على المادة، من حيث أسبقية الاهتمام والعلاج، وهو ما يدفعنا جميعا الى خلق حالة مستديمة من التوازن النفسي الفردي ثم الجماعي، حيث يتعلق الامر بصيانة البناء المجتمعي من الضرر الذي قد يتعرض له في حالة اهمالنا لتوازن النفس. لاسيما ما يتعلق بحالة التعالي والغرور التي قد يصاب بها الانسان إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد: (إن الإمام السجاد عليه السلام، هنا يخبرنا أنّ الرفعة التي تحصل للإنسان بين الناس قد تصيبه بالغرور ولابدّ له من أن يوازنها بأن لا يستعظم نفسه بل يستصغرها ويطلب من الله أن يعينه على ذلك).

الدنيا دار لاختبار الانسان

وهكذا لابد أن يكون هناك سعي متواصل نحو بناء النفس والمجتمع، فكما يسعى الانسان لتحصيل رزقه من خلال الجهد المادي، عليه أن يبذل الجهد نفسه في تحصيل الرزق المعنوي، لأن الدنيا تبقى دار اختبار للانسان، كما نقرأ قول سماحة المرجع الشيرازي بهذا الخصوص: (لقد خلقنا الله في هذه الحياة الدنيا ليختبرنا ويبلونا سواء في سعينا لتحصيل الرزق المادّي أو الرزق المعنوي، فعلينا أن نبذل ما منحنا الله تعالى من طاقات للاستفادة منها في كلّ المجالات المباحة).

ومع الانسان بحاجة دائمة لله تعالى كي يساعده على النجاح في مسعاه الدائم نحو الصلاح ونبذ العزة والغرور وما شابه، لكن تبقى مسألة المبادرة الفردية على قدر كبير من التأثير والاسهام في دفع الانسان نحو التوازن السليم، بمعنى بالاضافة الى حاجة الانسان لدعاء ربه، لكن ينبغي ان يكون لدى الانسان نفسه الاستعداد اللازم دائما، كما نقرأ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي بكتابه القيّم نفسه: (صحيح أنّ الإمام السجاد سلام الله عليه يعلّمنا أن نطلب الموازنة من الله تعالى فنسأله أن يحطّنا في أنفسنا مثلاً، أو أن يحدث لنا ذلّة باطنة كلّما رُفعنا في أعين الناس وأعززنا، ولكن مفتاح هذا الأمر بأيدينا أيضاً، وما لم نصمّم على أن نكون كذلك فإنّ الله تعالى لا يعيننا).

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 7/حزيران/2012 - 16/رجب/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م