ان واحدة من اهم افكار علماء مدرسة (السقيفة) هو انكار قول الشيعة
بان منصب الامامة جعل الهى ولاتكون الا بالنص وليست بالاختيار او اهل
الحل والعقد وهذا المنهج بالخصوص ما اعتمده الامام الغزالي في ابطال
هذه الفكرة على مجموعة من الحجج تتعلق كلها بنقد الاخبار التي يتمسك
بها الشيعة من القول بامامة علي ابن ابي طالب (نصا) –سواء بالغدير او
الولاية او المنزلة وغيرها من المنقول والمعقول- وهي نفس الحج التي
يستخدمها في ابطال قولهم بان الامام لابد ان يكون (معصوما) من الزلل
والخطأ.
لكن الغزالي يكيل بمكيالين حين ينتقل لتدليل على احقية الخليفة
العباسي (المستظهر بالله) بإمامته للمسلمين دون غيره وانها فرض واجب
لابد منه حيث ينتهي في استنتاجات تحليله لهذه الاحقية والى حتى ما
يتجاوز القول بالنص الى القول بالاختيار(الالهي) المباشر !!
وبما ان الشيعة يقيمون مشروعية إمامة أئمتهم على (النص) المباشر من
النبي (ص) فان الغزالي يقيم مشروعية إمامة المستظهر العباسي على (الاختيار)
المباشر من الله سبحانه وهذه السلطة العليا (الالهية)هي ما كانت تحتاجه
خلافة السقيفة في صراعها السياسي ضد خصمها الخلافة الفاطمية (الاسماعيلية).
ان الامامة فيما يرى (الغزالي) إما أن تنعقد بالنص او بالاختيار
ولان القول بالنص كما يزعم باطل فلا إمامة الا بالاختيار لكن مسألة
الاختيار كما هو معلوم تثير كثيرا من الاشكالات لاحصر لها: اهى اختيار
اهل الحل والعقد؟ ام اختيار عموم المسلمين؟ وهل يصح الاختيار بكل اهل
الحل والعقد ام يكتفى بالبعض منهم؟ وهل يصح الاختيار وتنعقد البيعة بكل
المسلمين دون استثناء ام بحاضرة الخلافة فقط؟ وماقدر (البعض) الذي تكون
مبايعته مبررا لانعقاد الامامة؟..الخ؟ وهنا نتساءل عن معيار تشخيص اهل
الحل والعقد وما هو عددهم وكذلك ماهي مميزات وصفات المرشح للخلافة..الخ؟
وهل تنعقد باختيار فرد كما و حال انعقادها لعمر بنص ابي بكر عليه
وتعينه في كتاب مختوم؟ او تجويز انعقادها بالشورى كما فعل عمر وجعلها
في ستة لاختيار واحدا منهم؟
فاذا كانت كمايزعم لاتنعقد الخلافة بالنص فهذا يعنى بطلان خلافة عمر
من الاساس او سقوطها وكذلك تنصيب ابو بكر له بالنص لايخرج عن كونه بدعة
وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار كما تواتر ذلك عن المصطفى (ص).
واذا كانت باختيار الامة اواهل الحل والعقد فلماذا طعن الفاروق عمر
طعنة نجلاء ببيعة ابى بكر مصرحا بانها (فلتة وقى الله المسلمين شرها
ومن عاد لمثلها فقتلوه) انظر مصادر الصحاح والسنن ومصنفات التاريخ
والسيرة.
مابعد الحق الا الضلال
الذى يبعث على الدهشة ان تلاحظ ائمة الدين وفقهاء الشرع ورواة
الحديث والسنة الشريفة يستغرقون في العبودية للسلطان وتشمير ساعد الجد
بتقديسه وجعله الهة رغم اسرافه بالفسق وتفريطه بالشريعة وافراطه
بالإرهاب.
فمثلا البخاري صاحب الصحاح في مروره ببغداد يقول هنيئا لكم تمسون
وتصبحون بفضل بركات امير المؤمنين الخليفة العباسي المشهور عنه مجاهرته
بالفسق والفجور ومصادرة الاموال واستباحة الاعراض وهتك الحرمات فهذا
اللون من الملق بصدوره عن هؤلاء تستطيع ان تعرف ماهيتهم وعظيم نفاقهم
وغشهم للامة.
وسطية القهر وحد السيف
او تنعقد بالغلبة وحد السيف كم تبررها مدرسة السقيفة او كما يعبر
عنها الغزالي بانعقاد الامامة (بالشوكة) اي بالقوة والقهر، وهذا هو نفس
المسلك الاشعري (الوسطي) التي سرى فيها اختيار الخليفة باليات المبايعة
الصورية لمن يختاره الخليفة القائم بالامر والذي يمتلك (الشوكة) وهكذا
كانت تقاليد تنصيب الائمة في الدولتين الاموية والعباسية وراثة انظر
نفس المصدر السابق ص176-177 وهي تقاليد لاتختلف كثيرا عن وراثة الامامة
في البيت النبوي عند الشيعة.
لذلك حرص الامام الغزالي على ربط (الاختيار) بالمشيئة الالهية
المطلقة ولو كانت من طرف شخص واحد مادام يمتلك (الشوكة) والقهر الذي
يؤدي الى إخضاع الناس وطاعتهم وهذا الربط في اتساقه التام مع نهج
التفكير الاشعري الذي يرتهن كلا من الانسان والطبيعة في اسر(جبرية)
صارمة يهدف الى تأبيد الواقع التاريخي والسياسي عن طريق ارتهانه داخل
سياج (الجبرية).
وفي هذا الصدد يقول:(اكتفينا بشخص واحد يبايع وحكمنا بانعقاد
الامامة عند بيعته لاتفرده في عينه ولكن لكون النفوس المحمولة على
متابعته ومبايعته من أذعن هو لطاعته وكان في متابعته قيام قوة شوكته..
على ماتقتضيه الحال في كل عصر ليس امرا اختياريا يتوصل اليه بالحيلة
البشرية بل هو رزق إلهي يؤتيه الله من يشاء فكأنا في الظاهر رددنا
تعيين الامام الى اختيار شخص واحد وفي الحقيقة رددناها الى اختيار الله
تعالى ونصبه الا انه قد يظهر اختيار الله عقيب متابعة شخص واحد او
اشخاص وانما المصحح لعقد الامامة انصراف قلوب الخلق لطاعته والانقياد
له في امره ونهيه وهذه نعكمة وهدية من الله) المرجع السابق ص178.
وهكذا ينتهي حجة الاسلام الامام الغزالي الى جعل خلافة المستظهر
بالله العباسي اختيارا إلهيا ما دامت خلافته انعقد عليها الاجماع ولو
برجل واحد وأمال الله القلوب لكنه يفعل ذلك القى بالتاريخ كله في مجال
(الاختيار الالهيي) لذي لايظهر للناس الا بمتابعتهم لشخص واحد او اشخاص،
وبذلك اسقط الغزالي قوانين الاجتماع البشري (ولولا دفع الله الناس
بعضهم ببعض) وذلك بعد ان كان قد تم اسقاط فاعلية الفعل الانساني واهدر
قوانين الطبيعة..كل هذا من اجل إسقاط حجية (النص) على الامام وعصمته
ووراثته للعلم النبوي دون حاجة الى تعلم على الرغم من اقراره بها
وجعلها الى ولي نعمته المستظهر العباسي ومبالغته بها وجعله فوق إمام
الشيعة في كل تلك الجوانب.
فتلاحظ مدى اسفاف وتناقض افكار مدرسة السقيفة ومقدرتهم على التلون
والانسلاخ عن صميم العقيدة في طمس النصوص تحوير الحقائق والدفاع عن
الباطل وتأويله ولبسه بلبوس الدين وتصنعهم البالغ في ركاب العبودية
وبيع الدين بالثمن الاوكس وتحريف النصوص لقاء فتات موائد السلطان وهذا
على مستوى حجتهم (حجة الاسلام) الغزالي فما بالك بجموع سواد معمميهم
الجهلة.
استجداء المرتزقة وابتذال المهرجين
يقول الغزالي من غير حياء ولاتورع: (ولما نسبونا –يعني الشيعة- الى
أننا ننصب الامام بشهوتنا واختيارنا ونقموا ذلك منا كشفنا لهم بالاخرة
أنا لسنا نقدم إلا من قدمه الله فإن الامامة عندنا تنعقد
بالشوكة-الغلبة- والشوكة تقوم بالمبايعة والمبايعة لاتحصل الا بصرف
الله تعالى القلوب قهرا الى الطاعة والموالاة بالامامة العباسية عموما
وعن المشايعة للدولة المستظهرية – ايدها الله بالدوام).
تلاحظ لغة خطابه لاتبتعد كثيرا عن ملق وتبذل وسائل الاعلام العربي
للانظمة والحكام من الثناء الرخيص السخيف الذي اصبح سمة كتاب
الافتتاحيات في الصحف والمجلات وغيرها من رفع شأن الطغاة وجعلهم فوق
مستوى البشر كما هو شأن مرجعياتهم الدينية اللاهثة وراء الحكام
والامراء والافتاء حسب رغباتهم حرصا على مناصبهم ومنافعهم اسوة بكبارهم
الذين علموهم السحر.
التناقض ودوامة الصراع
هل يمكن لنا بعد هذا البحث التحليلي المستفيض ان نقول ان وسطية
الغزالي الاشعرية قد انتهت الى نوع من محاولة الجمع بين (النقيضين)؟
وهل نستطيع بهذا الاستنتاج ان نفسر حقيقة الازمة المعبر عنها (الحبسة)
العقلية والروحية التي مر بها الغزالي طبعا نستطيع ان نجيب بالايجاب في
ذلك حسب ما اكده محمد عابد الجابري في كتابه تكوين العقل العربي ص280
الذي يرجع أزمة الغزالي: (إلى كونه وجد نفسه مضطرا لابطال اراء يميل
إليها او يعتقد صحة في بعض جوانبه إن تحايله للخروج من بغداد للتحرر من
الارتباط بالدولة وأوامر الخليفة وضرورة الخدمة بالتظاهر بالسفر الى
مكة للحج بينما كان يعتزم المقام في الشام إن تحايله ذلك لايفسره إلا
شيء واحد وهو ان أزمته كانت في الحقيقة ازمة الاختيار بين البقاء
مرتبطا (بالدولة) وبين (التحرر) منها) اي الخيار بين العبودية وبيع
الدين وما يشعر به من وخز الضمير لتحريفه الكلم عن مواضعه للخروج من
بودقته او سجنه المظلم الرهيب الذي اودع نفسه بارادته بين اطباقه.
وهو العالم الموسوعي الحاذق من العلوم والمتمكن من ناصية البلاغة
والبيان يطوعهما حسب مايريد.
حيث كان الصراع السجالي الذي تبناه حجة الاسلام مع الخلافة الفاطمية
صراع (سياسيا) اكثر منه فكريا (معرفيا) وهو ما نلاحظه بوضوح في كتابه (فضائح
الباطنية) حيث تم تتويج الخليفة العباسي المستظهر بالله اماما اختاره
الله يقف إزاء الامام الفاطمي الذي يستند الى (النص) في مشروعية إمامته..
هوس التكفير والذبح
وان للامام بو حامد الغزالي اراء تكفيرية مرعبة اخرى امتدت خريطتها
لتشمل كافة الناس والامم والاديان وتستبيح دمائهم جميعا في تناقض تام
وصريح مع كل النصوص المقدسة مما يدل على لوثة في عقيدته واتهام بدينه
وعنف جبلة عليه نفسه وسادية دموية متأصلة في ذاته كما جاء في كتابه (فيصل
التفرقة بين الاسلام والزندقة).
وكان لأفكار الغزالي السلفية الظلامية في محاربة الفكر وقمع المعرفة
ومناهضة العلوم والفلسفة كما جاء في كتابه (تهافت الفلاسفة) الذي طعن
بالعلوم ووصمها بالمروق والظلال وكان سببا في ان يرد عليه امام التنوير
والعقلانية (ابن رشد) في (تهافت التهافت ) ويدحض تخرصاته ومزاعمه التي
تؤكد على الانغلاق ومجانبة الفكر لان الجمود والتحجر لايصمد امام منطق
العقل والدليل وكان من ظلامية ذلك الفكر ان ارتضع لبانها تلميذ الغزالي
ابن تيمية(المتوفى عام 1328م) الذي إليه يعود جميع ما نحن عليه من جهل
وإرهاب وفكر ظلامي تكفيري لا يعترف بالآخر بل يطالب بالجهاد الدموي
لمسحه من على الأرض.
وخرج من ابن تيمية وفكره محمد بن عبد الوهاب(1703- 1792) صاحب الفكر
الوهابي الجاهلي المنغلق المتحجر المتطرف فقد وجد عبد الوهاب في فكر
ابن تيمية ملاذا لتطبيق أفكاره الإرهابية وسندا لدعوته وأفكاره وتبنى
آراءه المتشددة حيال الصوفية واتباع الطوائف الإسلامية الأخرى ورفع
السيف في وجه المخالفين وعد الخارجين عن نهج التوحيد الذي يدعو إليه
كفار يحل قتالهم وقتلهم، كما وجد أسامة بن لادن في أصولية وسلفية ابن
تيمية منهجا إسلاميا صرفا ودعوة شرعية مستندة إلى الكتاب والسنة فأحيا
مشروعه الجهادي وتمسك باجتهاداته في وجوب مقارعة الكفار سواء لطوائف
المسلمين او من الصليبيين و اليهود وقتالهم وإعلان حالة الجهاد العامة
المفروضة على اتباعهم في كل بقاع الأرض.
حتى غدا ابن تيمية الاسم رقم واحد في أجندة الفكر السلفي التكفيري
البدوي في الاغارة وشن الحرب في تزوير وخلط بين المفاهيم الذي عد إرهاب
الكفار وعملائهم وأعوانهم عملا مستحبا يتقرب به إلى الله ويستعجل به
طريق الجنة في حين خلص به ووجهه الى نحور المسلمين.
ولايسعني في هذا السياق الا ان نشير الى (القرضاوي) المتقمص للدين
والمتلفع بلبوس الاحبار في تحريف الكلم عن مواضعه وهو يزبد ويرعد ويصول
ويجول ويتعمد ببث السموم وزرع الشقاق واثارة الفتنة المذهبية في العراق
والتأليب على الشيعة من دون تقوى ولا ذمام قد اعمته العصبية وبريق
الذهب ولصف الدولار.
كما وجد بعض المفكرين المتلونين فقديما اشتراكي وبعدها علماني ولان
ركب موجة السلفية فاصبح سلفيا اكثر من السلفين بل ومنافحا عن افكارها
الظلامية البالية أمثال (د.محمد عمارة) ملاذا في أفكار الغزالي وابن
تيمية. هذه هي ذهنية الدكتور محمد عمارة ذهنية سلفية لا تعرف الآخر وإن
عرفته أو أدركته لا تعترف به وإنما تحاول أن تقلل من شأنه تارة وأن
تتطاول على معتقداته تارة أخرى، وكان كتابه (التكفير بين الشيعة
والوهابية والصوفية) المتشنج حيال الشيعة في سوقه تخرصات بالية ومن
تحريض طرف على طرف من دون موضوعية او تمحيص وكل مستنده على روايات
واقوال طرف دون الاستماع الى الاخر في تغليب للعصبية الجاهلية على منطق
العقل والدليل ومجانبة منهج الهدى القرآني وقد استمد جل افكاره واراءه
من كتاب (فيصل التفرقة بين الاسلام والزندقة) لشيخه الغزالي.
تخلف السلفية ومحاربة احياء ونشر العلم
حيث سعوا لإلغاء العقل والتحجير عليه ما استطاعوا الى ذلك سبيلا
وهذا الذي حدا بالامام محمد عبده في دعوته الاصلاحية الى التجديد
والاستنارة واعمال العقل وما جناه ادعياء العلم على الامة من طامات
وتقهقر مؤكدا: (ابدا داعوا الى ان العقل يجب ان يحكم كما يحكم الدين
فالدين عرف بالعقل ولابد من اجتهاد يعتمد على الدين وعلى العقل معا حتى
يستطيع المسلمون إن يواجهوا الاوضاع الجديدة في المدنية الحديثة
مقتبسين منها ما يفيد وينفع واذا كان المسلمون لا يستطيعون ان يعيشوا
في عزله فلابد ن يتسلحوا بما يتسلح به غيرهم واكبر سلاح في الدنيا هو
العلم)الاخبار27.
مقال الشيخ حسن الباقوري هذا الرجل لماذا يظل هدفا للمهاجمين؟وكان
المنطلق الاساسي لمحمد عبده هو تصميمه على(إن الاسلام لم يتعارض ولا
يمكن إن يتعارضمع العلم فالعلم مثل العقيدة يكشف للناس اسرارالطبيعة)
khadduri-ibid-p.63.
واكد الامام عبده بضرورة البحث العلمي وتقدم نظم التعليم والاستفادة
من الوسائل العصرية والتكنلوجيا المتطورة.. فهو يخطو خطوه جديده شائكه
لكنها حاسمه فهو يدعوا الى تحديث الفكر الاسلامي فقد كان يرى ان
الاسلام لا يمكن ان يرسخ اقدامه عبر الازمان اذا ما استمر معتمدا على
التقليد وكم هاجم محمد عبده دعاة السلفية والتقليد واكد (انه بدون
استخدام العقل سوف يتعذر على المسلمين احراز أي تقدم او تطور)
khadduri-ibid-p.61.
واخيرا كانت وسطية الغزالي كما رأينا قد أفضت الى تبرير السياسي
بالفكري والنصي العقائدي بالرأي وجعلت المعرفي تابعا للسياسي والنصي
منقادا للتأويل ودائر في فلكه ووصل به الامر حدا غريبا من الخروج عن
النصوص جملة وتفصيلا وايصاد ابواب المعرفة والتحجر على التقليد ومعارضة
الاجتهاد والتجديد وفتاوى اباحت الدماء بشكل مستهجن ومن غير رادع من
دين او وازع من ضمير واثارة فتنة صلعاء لتفريق الامة وحدث ذلك كله في
سياق انهيار اجتماعي وسياسي ومعرفي ادى الى تقهقر ونكوص العقل الاسلامي
وتفتيت الكيان الإسلامي من خلال تحصنه وراء متاريس (السلفية الحنبلية)
والتسلط السلجوقي البدوي المغولي التي ادت الى انهيار ما تبقى من لبنات
الفكر وظهور طامات فتاوى بدع جاهلية واساطير تلمودية مصحوبا بخروج
عفريت التطرف والتكفير الذي لازالت الامة تصطلم باتون لهيبها..!!!
hilal.fakhreddin@gmail.com |