الدولة الفاطمية... صفحة مشرقة في التاريخ الإسلامي

محمد الصفار

 

فمدينة من بعد أخرى تستبى... وطريقة من بعد أخرى تقتفى

حتى لقد رجفت ديارُ ربيعةٍ... وتزلزلت أرض العراقِ تخوّفا

والشام قد أودى وأودى أهله... إلا قليلاً والحجاز على شفا

 

شبكة النبأ: هذه الأبيات من قصيدة للشاعر ابن هانئ الأندلسي تمثل صورة معبّرة عن حال المسلمين في القرن الرابع الهجري، وما آل اليه أمرهم وما أصابهم من المآسي والويلات.

فالأوضاع في ذلك الوقت كانت مزرية وقد تمزّق جسد الدولة الاسلامية وتفرّقت قوى المسلمين وتشتت كلمتهم وتلاشت وحدتهم، والعدو متربّص بهم والخطر الداهم المهدد لوجودهم يتزايد ويتعاظم، فقد قويت شوكة الروم وزاد اصرارهم على غزو الإسلام في عقر داره حتى ان (نقفور فوقاس) امبراطورهم كان يتطلع للزحف نحو الحجاز بنفسه والوصول الى مكة المكرمة والمدينة المنوّرة، وكانت مطامعه الهوجاء لا يقف أمامها من يردعها بعد أن أخذت أطراف البلاد الإسلامية تنتقص واحدة بعد الأخرى.

في ذلك الوقت وفي ظل هذا الواقع المأساوي المرير والمرحلة الصعبة التي يعيشها المسلمون كانت الدولة الفاطمية قد وصل أوج قوتها ونفوذها في عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي فسخّرت كل طاقاتها وقواها للدفاع عن الإسلام ووحدة المسلمين ومقارعة الصليبيين براً وبحراً واستعادة البلاد الاسلامية من أيدي الروم واخماد الفتن والاضطرابات والدسائس التي كان يحوكها حكّام الاندلس وغيرهم من الحكام ضدها، فواجهت كل هذه المصاعب في سبيل الحفاظ على بيضة الإسلام ووحدة المسلمين فكانت الامل المنقذ للبلاد الاسلامي من الوقوع بأيدي الروم.

فعمل الخليفة الفاطمي بحكمته اولاً على وحدة المسلمين وجمع حوله ما تشتت من القوى ووحّد ما تفرق من البلاد فجمع الشمال الافريقي في كيان واحد وقيادة واحدة وقضى على محاولات التجزئة.

 فأصبحت دولة قوية متماسكة بعدما كانت دول متعددة متطاحنة ومتشابكة ولم تقتصر الوحدة على الشمال الافريقي وحده، بل تعدّته الى بلاد أخرى كفلسطين وسوريا ولبنان، فالتقى الشمال الافريقي مع هذه الدول اضافة الى مصر نفسها بكل امكانياتها وكفاءاتها ومواردها تحت قيادة واحدة.

وكان جهد الخليفة الفاطمي المعز في اول الامر ينصب على استرداد ما تساقط من بلاد الشام من أيدي الروم الذين وصلوا في عهد حنا زيمسكيس في سنة975م الى حمص وبعلبك، حتى اضطرت دمشق الى الاستسلام ودفع الجزية لهم كما استسلمت أيضاً طبرية وقيسارية.

ثم ساروا واستولوا على بعض مدن الساحل مثل بيروت وصيدا وأخذ نفوذ الروم يتوسع وأمرهم يتعاظم وفي هذه الاثناء كانت استعدادات الدولة الفاطمية تتوالى لمواجهة الروم، فاصطدمت بهم في طرابلس الشام براً وبحراً فأوقعوا بهم هزيمة نكراء، مما اضطرهم الى ان يرتدوا الى انطاكية وعاد امبراطور الروم الى القسطنطينية حيث توفي في اوائل سنة976م.

وكان للاسطول الفاطمي الدور الكبير في كسب المعركة لصالحهم إذ ان الخليفة الفاطمي المعز كان في غاية الحكمة والخبرة بالامور العسكرية عندما أمر باعداد هذا الاسطول الضخم لرد هجمات الروم.

فالجيوش البرية وحدها لم تكن كافية لحماية بلاد المسلمين من توسع الروم ثم استخدام هذا الاسطول فيما بعد في الحروب الصليبية، وبلغ عدد ربابنة هذا الاسطول خمسة آلاف ربّان وعدد سفنه مائتي سفينة، واضطر الروم الى الانحياز بمراكبهم الى الجانب الشمالي الشرقي من البحر المتوسط لا يبرحونه، لأن هذا البحر يسيطر عليه الاسطول الفاطمي من مضيق جبل طارق حتى بيروت.

وكان هذا الاسطول مصدر رعب للروم حتى جعل حكامهم يرسلون الرسائل المتوالية لطلب الصلح من المعز الفاطمي، فأجاب الخليفة طلب سفراء الروم واشترط عدة شروط للصلح منها ان يطلق الروم سراح من عندهم من الاسرى المسلمين، وان يدعى للخليفة بجامع القسطنطينية في خطبة الجمعة، وان تضع الحرب أوزارها بين الدولتين مدة سبع سنوات.

وبلغت قوة الدولة الفاطمية أوجها حتى ان مسلمي جزيرة قريطش (كريت) الذين كانوا تحت سيطرة الحكم العباسي كانوا يطلبون النجدة من المعز الفاطمي لتخليصهم من الروم، كما كانت رسائل أباطرة الروم تتوالى على الخليفة الفاطمي لاستدرار عطفه ومهادنته وطلب الصلح منه، ولكن هذا الصلح لم يطل بعد أن وجد الروم من يدعمهم للحرب ضد الفاطميين، فبدلاً من أن يدعم حكام البلاد الاسلامية هذه الانتصارات كانوا يوجهون طعنة الغدر في ظهر الخليفة الفاطمي والدولة الفاطمية بدعمهم الروم، فاعتمد حاكم الاندلس عبد الرحمن الناصر الاموي على الروم في صراعه مع الفاطميين، وكان يستعين بهم على الدولة الفاطمية- الاسلامية ويحرضهم على مهاجمتها، وكذلك أمير حلب فإنه لما علم باسترداد الفاطميين بلاد الشام استنجد بـ(باسيل الثاني) امبراطور الروم فأمده بحملة، ولكن القوات الفاطمية ردت كيده الى نحر بدحرها قوات الروم وحلفائها على نهر العاصي سنة381هـ، ولكن القائد الفاطمي عاد الى دمشق لنفاد الاقوات فأمده الخليفة بالمؤن وأمره بفتح حلب، فسار اليها في العام التالي وحاصرها حصاراً شديداً حتى اضطر اميرها الى الاستنجاد بالروم فبعث اليه امبراطورهم (باسيل الثاني) بامدادات في البحر، ومن جانبه أرسل (برجوان) القائد الفاطمي والذي كان يلي وقتذاك الوصاية على الخليفة حملة كبيرة الى صور، كما أرسل بعض سفن الاسطول الفاطمي فحوصرت المدينة في البر والبحر ونشبت بين الفريقين معارك شديدة انتهت بسقوط صور في أيدي القوات الفاطمية وهزيمة الروم وحليفهم علاقة.

وعلى الرغم من انتصارات الفاطميين المتتالية على الروم ودحرهم إلا انهم عوّلوا على الصلح وآثروا السلام والهدنة، وبينما المفاوضات تدور في القاهرة لوضع شروط الصلح غزا باسيل الثاني بلاد الشام، وكاد مشروع الصلح أن ينهار لولا الفشل والهزيمة اللذات لحقا بامبراطور الروم في هجومه الجديد، فارتد مسرعاً الى أرمينية واضطر لعقد الصلح واستتباب السلام.

وظل الحال على ذلك حتى توفي الحاكم بأمر الله الفاطمي سنة411هـ فخلفه ابنه الظاهر فكانت هناك محاولات توثيق الصلح وتوطيد العلاقة من جانب الدولة الفاطمي فقد أرسلت (ست الملك) عمة الظاهر، والتي قامت بالوصاية عليه نيقفور بطريك بيت المقدس سفيراً الى باسيل الثاني ليعمل على عقد أواصر السلام بين الدولتين بيد ان هذه السفارة لم تكن ذات جدوى بسبب سياسة باسيل العدائية تجاه المسلمين، وبقيت غارات الروم تتوالى على الشام حتى سنة 418هـ، عندئذ أنفذ الخليفة الظاهر سفارة الى الامبراطور قسطنطين الثامن لعقد الصلح فتم الاتفاق على شروط من ضمنها ألاّ يقدّم الامبراطور أية مساعدة لحسّان بن مفرج بن الجراح الطائي صاحب الرملة والذي خرج على الخليفة الظاهر واعلن حالة العصيان والتمرد واستنجد بالروم لحرب الفاطميين بعد ان هزمه جند الخليفة الظاهر الفاطمي عند طبرية، ولكن الروم نقضوا هذا العقد من الصلح فانضموا الى حسان وهاجموا الفاطميين ولم يقتصر الامر في طعن الدولة الفاطمية بالظهر على الحكام، بل تعداه الى الفقهاء المرتزقة ووعاظ السلاطين الذين أغرتهم الاموال ولعبت بهم الاهواء والعصبية المذهبية فراحوا يبثون فتاواهم المسمومة ضد الدولة الفاطمية وان محاربتهم أوجب من محاربة الروم بقوله: (لو كان معي عشرة أسهم لرميت الروم بسهم ورميت الفاطميين بتسعة).

ولكن أميه حسان بن مفرج الطائي رمى بسهامه العشرة على الفاطميين ولم يرم سهماً واحداً على الروم بل أضاف سهامه الى سهامهم فسلّطوها على (أفامية) فاستباحوها وقتلوا أهلها وغنموا منها مغانم كثيرة واستولوا على قلعتها وأسروا كثيراً من أهلها ولم تستمر هذه الحرب طويلاً فعقدت الهدنة مرة اخرى بين الخليفة المستنصر بالله الفاطمي والامبراطور ميخائيل الرابع سنة429هـ/ 1027م، على شروط من ضمنها ان يسمح الخليفة بإتمام اصلاح كنيسة القيامة على أن يطلق الامبراطور سراح خمسة آلاف أسير مسلم، فأوفى الطرفان بهذا الاتفاق وفي عهد هذا الخليفة وبالتحديد عام446هـ/ 1053م وقع الغلاء والقحط في مصر ثم وقع الوباء فيها وفي تلك الفترة عانت مصر من المآسي والآلام ما لا طاقة لبلد على تحمله وتعرف هذه النكبة في تاريخ مصر الاسلامية بالشدة العظمى وقد بدأت بالغلاء وقلة القوت، ولما تولى قسطنطين السابع الحكم في تلك الفترة امبراطوراً للروم حافظ على استمرار الصلح وحاول توثيقه واقامة علاقة ودية مع الفاطميين فبعث الى المستنصر بالله سنة437هـ بهدايا عظيمة.

ومن جانبه فقد اكد الخليفة المستنصر صفاء العلاقات بين الدولتين وعمل على انعاش الحالة الاقتصادية في دولته فأرسل الى الامبراطور على أثر المجاعة التي حلّت بمصر يطلب منه ان يمده بالمؤن فأبدى الامبراطور استعداده لهذا الطلب وكانت الدولة البيزنطينية تواجه يومئذ خطر السلاجقة الذين أشرفوا على حدودها الشرقية، وأعد الغلال لترسل الى مصر ورقدها المقريزي في خططه بـ(400) أردب من القمح ولكن القدر حال دون وصول هذه الامدادات الى مصر، فقد مات قسطنطين قبل تنفيذ هذا الاتفاق وخلفته على العرش الامبراطورة تيودورا، التي اشترطت لارسال المؤن شروطاً منها ان يمدها الخليفة المستنصر بالجند لمحاربة السلاجقة فأبى الخليفة ذلك وانقطعت المفاوضات بين الفريقين، وسير المستنصر جيوشه الى الحدود الشمالية تحت قيادة مكين الدولة الحسن بن ملهم، ونشبت بين الدولتين معارك تناوب فيها الجيشان النصر والهزيمة، ولكن الاسطول البيزنطي غزا مياه الشام فكف المستنصر عن مواصلة الحرب وعاد العداء بين الدولتين سيرته الاولى، وازداد التوتر في العلاقات وظل الحال على ذلك الى ان وجه الصليبيون حملاتهم الى بلاد الشام وأسسوا بها امارتي انطاكية وبيت المقدس وصاروا يشتبكون من وقت وآخر في معارك مع القوى الاسلامية في تلك البلاد، وخاصة في عهد نور الدين محمود امير حلب، الذي قوي أمره بضم دمشق اليه سنة550هـ/ 1154م.

لقد كان أفجع ما عاناه الفاطميون هو هذه الخيانات من قبل حكام يحسبون على الاسلام فقد كان على الفاطميين أن يحاربوا على ثلاث جهات: الجهة الشرقية وهي بلاد الشام لدفع الروم عنها، والجهة الداخلية لاتقاء الدسائس والمؤامرات من الخائنين، والجهة الغربية وهي اوروبا التي كانت قد استغلت ضعف الدولة الاسلامية وتمزقها الى دويلات فأخذت تهاجم البلاد بلداً بعد بلد، فراحت هذه البلاد تستنجد بالفاطميين كما فعلت جزيرة (كريت) وكانت اوروبا تحاول ضرب الدولة الفاطمية قبل أن يشتد ساعدها وتتوحد دويلاتها فهاجمتها في مواقعها الاوروبية لتقضي عليها فيها، ولكن الفاطميين صمدوا للاوروبيين في بلادهم كما صمدوا لهم في بلاد الشام وغيرها.

فجرت بين الفريقين معارك ضارية كثيرة لعل أشرسها معركة صقيلة التي نقلها ابن الأثير في تاريخه مفصلة والتي انتهت بانتصار باهر للفاطميين بعد أن استماتوا في الدفاع عن الاسلام فهزموا الروم شر هزيمة وقتلوا قائدهم منويل وفتحوا رمطة عنوة وأحرقوا مراكب الروم وقد خلّد هذه الواقعة العظيمة الشاعر ابن هاني الاندلسي في قصيدة طويلة يمدح بها المعز لدين الله ويشيد فيها ببطولة جنده يقول فيها:

 يوم عريض في الفخار طويل... لا تنقضي غررٌ له وحجولُ

 مسحت ثغور الشام أدمعها به... ولقد تبل الترب وهي همولُ

الى ان يقول في مدح المعز:

 وجلا ظلام الدين والدنيا به... ملك لما قال الكرام فعولُ

 مكتشفٌ عن عزمةٍ علويةٍ... للكفر منها رنةٌ وعويلُ

لقد سخرت هذه الدولة كل امكانياتها وطاقاتها للذود عن حمى الاسلام والدفاع عن المسلمين يقول محمد كامل حسين: (يتضح لنا الجانب الآخر من الصورة الفاطمية فإذا كان الفاطميون قد أقاموا الوحدة بعد التجزئة وأنشأوا الجيش الضخم والاسطول الفخم فحموا بذلك العالم الاسلامي من اكبر كارثة كانت ستحل بهم).

ومثلما بدأت وكانت واستمرت دولة الفاطميين تسخّر طاقاتها في سبيل الاسلام فقد كانت خاتمتها أشرف خاتمة بعد أن صنعت ما لم تصنعه غيرها من الدول، ففي أيامها الاخيرة شاخت وضعفت واستنزفت معظم قواها في مقارعة الروم براً وبحراً وفي اخماد الفتن وانقاذ البلاد الاسلامية من الغزو الاوروبي، وفي عام564هـ شن الصليبيون حملة كبرى على مصر في عهد العاضد آخر الخلفاء الفاطميين ولما أيقن العاضد ان ليس بإستطاعته مقاومة الصليبيين وان جيوشه في وضع لا تستطيع معه الصمود بوجههم، آثر ان يسلم خلافته وملكه الى خصومه الذين طعنوه في الظهر وطعنوا أسلافه في الصميم، ولا يسلمها الى الروم فلم يتوان عن تسليمها الى نور الدين محمود أمير حلب مادام يستطيع اذا ضمّ مصر الى حلب ان يدفع الاسلام هجوم الروم فكانت تضحية جليلة يقدمها للإسلام ليختم بذلك صفحة مشرقة من التاريخ الإسلامي.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 29/آيار/2012 - 7/رجب/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م