شبكة النبأ: تضخيم المنجز الفردي بدأ
يتصدر أهداف الشخصية العراقية في الشهور الاولى بعد نسيان 2003، والسبب
يُعزى الى حالات التغييب القسري والتهميش المتعمّد للفرد على مدى عقود
-وربما قرون- متتابعة، وتحجيم دوره في تشكيل الخريطة السياسية للبلد،
لذلك ما أنْ رُفعِت القضبان وأزيحت حالات التكبيل المتواصل للشعب، حتى
أفصحت الشخصية العراقية عن رغباتها في التصدّر والظهور والتضخّم الذاتي،
مقرونا بإلغاء الدور الجماعي او محاربته في تشكيل الاحداث والنتائج في
هذا المجال او ذاك.
وهكذا قفز الهامش الى المركز في الحياة العراقية عموما، وهو أمر
محمود لو أنه حدث بصورة متدرجة وطبيعية، فالكل يطمح الى الرقي والتطور،
ولكن عندما تتم عملية الارتقاء من الهامش الى المركز بصورة دراماتيكية
متعجلة، كما حدث معنا في العراق، فإن النتائج السلبية المرافقة ستكون
كبيرة ومنها على سبيل المثال، شيوع ظاهرة المغالاة الفردية على حساب
روح الجماعة، والتي طبعت عموم الانشطة العملية وحتى الفكرية منها، بل
يشير بعض المختصين الى ما هو أخطر من ذلك، عندما يؤكد تضاؤل الولاء
الوطني مقابل بروز الولاءات الفرعية، وهو نتاج طبيعي وواضح، للروح
الفردية التي اخذت تطغي على كل شيء.
ولعل الاخطر في هذا المضمار، تفشي روح المؤامرة بين الفرد والجماعة
في ادارة معظم المجالات التي تتطلب عملا ذا طابع تشاركي، سواء في ادارة
المؤسسات الحكومية ذات الطابع السياسي، او في الاقتصاد او التعليم او
حتى الانشطة الاعلامية والثقافية عموما، فحين يعمل الفرد ضمن مجموعة
تقود المؤسسة الفلانية، فإنه يريد أن يحتل الصدارة في كل شيء، ويطمح بل
يطمع ويعمل على لفت الانتباه الى شخصه ومنجزاته الفردية، أما الآخرون
فليذهبوا الى الجحيم!، هذه الروح الفردية المغالية تساورها هواجس
المؤامرة على الدوام، وتنظر الى الجميع ليس كشركاء بل أعداء يحاولون
سرقة الاضواء منه، أو التقليل من ضخامة شخصيته، وهو مرض نفسي بدأ
يتفاقم في الشخصية العراقية كإفراز متوقع للانفتاح السريع في مجالات
الحياة العراقية كافة، لذلك بدأت هواجس الروح المتخوفة من الآخر تتصاعد
وتنمو لدى الفرد، فأصبح العمل الجماعي يعيق طموحاته النفسية التي تهدف
الى تلميع ذاته، والنظر إليه على انه الاهم دائما، وهو كما ذكرنا نتاج
تهميش مسبق عانت منه الشخصية العراقية طويلا، لذلك نلاحظ ان الفرد
العراقي في المرحلة الراهنة غالبا ما يفضل نفسه على الآخرين، وغالبا ما
يسعى الى تصدّر المشهد أيا كان نوعه او مناسبته، وقد وصل الامر ببعضهم
الى حد الصراع والتنازع على احتلال المقاعد الاولى لهذا المحفل السياسي
او الاجتماعي او الثقافي، أو ذاك!!، وهي ظاهرة نفسية مرضية تؤكد رغبة
الشخصية العراقية بتضخيم الذات على حساب الآخر أو الجماعة، ولا علاقة
لهذا الامر بالمكانة الاجتماعية او السياسية او الدينية وسواها،
فالمقامات محفوظة، وينبغي ان تكون كذلك دائما، لكن أن يتصارع الافراد
(النخب وسواهم) على حالة كهذه، فهذا دليل مؤكد على العطش الخطير لتمجيد
الذات، وثمة حالة من اللهاث العجيب وراء المكاسب، تتلبس الفرد، لاسيما
المادية منها، حتى لو جاء هذا الامر على حساب الآخرين!، وهذه اشكالية
نفسية مؤسفة قد تنعكس بخطورتها على الواقع المجتمعي عموما، فهي لا تتسق
مع التوجه العام نحو التحرر والانفتاح والعمل في ظل شفافية ونزاهة
ينبغي أن تشكل الملامح الأهم والاوضح للمرحلة العراقية الراهنة.
ولكن لا يصح أن يستمر الحال كما هو عليه، فالبلد يحتاج الى العمل
الجماعي المتعاون اكثر من اية مرحلة ماضية، والوصول الى هذا الهدف
يتطلب تخليص الفرد من الشعور المزمن بالمؤامرة ازاء الاخرين، ونشر روح
التعاون والعمل الجماعي المثمر، وقد تبدو الحلول او معالجة هذه الظاهرة
غاية في الصعوبة، وهو أمر صحيح، كونه يتطلب سعيا جماعيا منظّما، يبدأ
من قمة الهرم (السياسي الثقافي الاجتماعي) لمكافحة (روح المؤامرة) ونشر
ثقافة العمل الجماعي التعاوني والثقة المتبادلة بين الجميع، وهذه
القضية من مهام النخب العراقية قبل غيرها. |