ان العراق الجديد الذي يحتاج الى
ثقافة جديدة، لا بد ان تعتمد التغيير الذاتي اولا، هذا ما اتفقنا عليه
في الحلقات الماضية من هذه القراءة
المقصود بالرؤية هنا هو التصور الاستراتيجي بعيد المدى، والمصطلح
يختلف عن كلمة (الرؤيا) التي تعني الحلم الذي يراه الانسان في مناماته،
ولعل من الاخطاء الشائعة التي يكررها كثيرون هي انهم يخلطون بين
الكلمتين، فبدلا من ان يكتبوا الكلمة بالتاء القصيرة، يختمون الياء
بالف ممدودة.
حديثنا هنا، اذن عن الرؤية.
صحيح ان اعظم الاعمال يبدا برؤيا، اي بحلم يراود صاحبه، الا ان هذا
الحلم لا يتحقق فيتحول الى حقيقة الا من خلال رؤية واضحة، فعندما وقف
داعية الحقوق المدنية مارتن لوثركنك قبل اكثر من اربعين عاما ليخبر
السود في الولايات المتحدة الاميركية بما يدور في خلده بقوله (انا عندي
حلما) لم يكن بوسع زملائه تحقيقه بعد اربعة عقود من الزمن بدخول رجل
اسود الى البيت الابيض الا بالرؤية التي رسمت معالم طريق الوصول الى
تحقيق ذلك الحلم.
وهكذا هم العظماء الذين يحلمون، فيبادرون الى بناء رؤية تحول الحلم
الى واقع، اما غيرهم فيموت الحلم في مهده لانهم يحلمون فقط، والحلم
وحده لا يكفي.
وليس المقصود بالرؤية، الاستراتيجية، ابدا، فالمفهومان مختلفان
تماما، فقد تحتوي الرؤية على عدة استراتيجيات والعكس ليس صحيحا، كما ان
الاستراتيجية تتشكل من عدة تكتيكات والعكس ليس صحيحا.
والناس على صنفين، فمنهم الذي لا يمتلك رؤية عما يقوله او يفعله،
فهو يتدثر بالشعار المعروف (اصرف ما في الجيب، ياتيك ما في الغيب) فهو
يجهل ما يجب ان يفعله غدا، كما انه لا يتعب نفسه بالتفكير ابعد من
ارنبة انفه، ومثله في ذلك كمثل مصابيح السيارة الامامية التي نكسها
صاحبها الى اسفل، فهي لا تكشف له طريقا ولا توضح له منعطفا، فالرؤية
عنده معدومة في الليل، او على الاقل غير واضحة.
اما الصنف الثاني من الناس، فعلى العكس من هذا النوع تماما، فهو
صاحب رؤية، يعرف ما يعنيه على وجه الدقة عندما يتحدث، ويعي ما يريد
تحقيقه اذا خطط لعمل ما او حدد اسس مشروع ما.
والرؤية مطلوبة على الصعيد الفردي، وتتضاعف اهميتها على صعيد
الجماعة، فاذا كان بالامكان ان يقضي المرء حياته بملايين التكتيكات
المبعثرة، ليموت غير ماسوف عليه بعد ان يقضي حياته على الهامش تافها لا
قيمة له، على قاعدة (الذي يعيش بالحيلة، يموت بالفقر) فان الدول
والحضارات لا تبنى بهذه الطريقة ابدا، واذا صادف ذلك فانها سرعان ما
تموت، فهي تبنى برؤى واضحة ومحددة.
بهذا الصدد تقفز الى الذهب عدد من الاسئلة المهمة، منها على سبيل
المثال لا الحصر:
لماذا نحن بحاجة الى رؤية؟ وكيف نبني الرؤية؟ وما هي عناصرها
وآلياتها؟.
اولا: نحن بحاجة الى رؤية، لان البناء في الحياة حلقات متتالية
ومتكاملة، فاذا اراد كل واحد منا ان يبدا من نقطة الصفر، فهذا يعني
اننا سنقضي العمر كله بلا انجاز يذكر، وبذلك فسوف لن نترك بصمة في
الحياة ابدا، صغيرة كانت او كبيرة.
ان اتمام البناء يكون عندما يبدا الواحد منا من حيث انتهى الاخرون،
وبهذا المفهوم سنوفر الجهد والطاقات والزمن المبذول.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان الانجازات الهامة لا يمكن ان تتحقق
في ليلة وضحاها، وانما من خلال تراكم البناء ليثمر انجازا كبيرا، ما
يتطلب رؤية واضحة لما نريد فعله وتحقيقه وانجازه، فاذا انعدمت الرؤية
لم نصل الى نتيجة بعيدة المدى ابدا.
ثانيا: ان بناء الرؤية بحاجة الى الشروط والمقومات التالية:
الف؛ تفكير استراتيجي، لا ينشغل بالمتابعات اليومية فحسب، كما انه
لا يضيع بالتوافه من الامور والقضايا التي تمر بالانسان يوميا، او في
زحمة المشاكل التي لها اول وليس لها آخر.
باء: وضوح في الهدف، والذي يلزم ان يكون، عادة، كبيرا، يستوعب
الرؤية وتستوعبه.
جيم؛ خبرة متراكمة، قادرة على استحضار التجارب، ايا كانت، عند
الحاجة.
دال؛ عقلية متفتحة وغير منغلقة، مستعدة لان تقرا للكل وتسمع من
الكل بلا فيتو او قوالب ثابتة.
هاء؛ معرفة المصالح والمفاسد الاستراتيجية، وليس الشخصية او
الحزبية او المناطقية الضيقة.
واو؛ تفكير واقعي ومنطقي في آن، واقعي لا يتغافل عن الثوابت
الاساسية، ومنطقي لا يتقولب بسرعة لياخذ بالتطور وامكانيته بشكل سليم.
زاء؛ معرفة الواقع والابتعاد عن المثالية، فالمثالية التي تقترب من
الخيال تقتل الفكر الاستراتيجي.
حاء؛ ادارة ناجحة قادرة على ترجمة النظريات الى رؤية واقعية قابلة
للتنفيذ.
ثالثا: اما عناصر وآليات بناء الرؤية، فيمكن تلخيصها بما يلي؛
1 ان تكون فعلا وليس انفعالا، وفعلا وليس رد فعل.
2 استحضار العقل وتغليب المنطق بعيدا عن العواطف والمشاعر
والاحاسيس والاهواء.
3 الاستمرارية والثبات والمثابرة، وعدم التقلب مع الظروف والتغيير
عند كل تحد، فقد تتغير الاستراتيجية او مجموعة التكتيكات من اجل تحقيق
الرؤية، اما الرؤية بذاتها فينبغي ان لا تتغير يوميا، والا لما سميت
كذلك، ما يتطلب الايمان والقناعة.
ان التجرد عن تأثيرات الواقع المعاش شرط اساس لبناء رؤية صحيحة
وسليمة، فلطالما تساءل كثيرون عن سر حيوية دستور الولايات المتحدة
الاميركية، فعلى الرغم من انه كتب قبل اكثر من قرنين من الزمن الا انه
يتمتع بحيوية وكأنه كتب يوم امس، فما هو السر في ذلك؟.
ان من كتب نصوص الدستور تجردوا عن الواقع الذي كانوا يمرون به من
جانب، وتجردوا عن مصالحهم الذاتية ليبنوا دولة، من جانب آخر، ولذلك، لم
يفصلوا الدستور على مقاساتهم الشخصية او الحزبية او المناطقية، وانما
فصلوه على مقاسات دولة عظيمة ارادوا لها ان تستمر قرونا متمادية، وهذا
ما كان وما نراه اليوم.
4 الحقيقة، فأسير الوهم والمبالغة لا يمكنه ان يبني رؤية ابدا، لان
الرؤية طموح ينطلق من واقع وايمان بالمستقبل وامكانية على التغيير، اما
الوهم فخداع من نوع معين، كما ان المبالغة تضليل من حيث لا يشعر المرء،
فكيف تستقيم رؤية مع خداع وتضليل؟ ثم، اذا كان من يسعى لبناء الرؤية
محكوما بالخداع والتضليل، فكيف بمن سيعمل على تنفيذ هذه الرؤية؟.
5 المنهجية، فالفوضى في التفكير والتخطيط ورسم الاستراتيجيات، لا
ينتج رؤية سليمة ابدا.
ان مشكلتنا في العراق تحديدا هي اننا لسنا منهجيين، ولعل من الادلة
الواضحة على ذلك هو احاديث جلساتنا واجتماعاتنا، والتي نبدأ فيها،
عادة، بنقطة لننتهي الى نتيجة لا ربط لها في النقطة الاولى التي صدرنا
بها حديثنا وبدانا به جلستنا، ولذلك فعندنا لا تتطابق عادة النتائج مع
المقدمات، لاننا لا نفكر بمنهجية ولا نتحدث بمنهجية وفي احيان كثيرة لا
نكتب بمنهجية.
ان من السهولة بمكان اكتشاف هذه الحقيقة من خلال استطلاع سريع
يجريه الواحد منا عن تعليقات القراء عن اية مقالة تنشر في المواقع
الالكترونية، فسنجد ان من النادر تطابق التعليق مع المقال، او فكرة
التعليق مع فكرة المقال، ما يعني ان تعليقاتنا غير منهجية لا يوجد فيها
اي رابط بين ما نكتب وما نقرا.
هذا مثال وقس على ذلك.
6 مصادر التغذية هي الاخرى تلعب دورا مفصليا مهما في بناء الرؤية،
فاذا كانت سليمة وصحيحة ودقيقة فستاتي الرؤية كذلك، سليمة وصحيحة، اما
اذا كانت مصادر التغذية غير سليمة فانها ستنتج رؤية غير سليمة.
ان مصادر التغذية بالنسبة للرؤية كمصادر التغذية لجسم الانسان،
فاذا كان المرء يعتمد على مصادر تغذية سليمة فان جسمه سيكون سليما
ومعافى من الامراض، والعكس هو الصحيح، فاذا كانت مصادر التغذية غير
سليمة فانه يكون معرضا للامراض التي تنتج جسما كسولا او غير قادر على
مواجهة التحديات الصحية والاوبئة لان جسمه لا يمتلك المناعة اللازمة
لتحدي الامراض، وهو ما يسمونه بمرض نقص المناعة.
ان مما يؤسف له حقا هو اننا لا نهتم كثيرا بمصادر التغذية عندما
نريد ان نبني رؤية، فترانا نعتمد على النقل اكثر من اعتمادنا على
القراءة والتحقيق والبحث والتدقيق، ونعتمد على ثقافة (يقولون) اكثر من
اعتمادنا على ثقافة (قل هاتوا برهانكم) ولذلك لم نحصل على رؤية صحيحة
ابدا، لان رؤية تعتمد على تغذية خاطئة سواء من المعلومات او الافكار او
دراسة الواقع والحقائق المعتمدة، لهي رؤية فاسدة لا تصلح لشئ ولا تتمتع
بالديمومة ابدا.
يلزمنا ان نؤسس بنوك للمعلومات، متخصصة بالمعلومة والوثيقة، مهمتها
تغذية المفكرين والباحثين ومراكز صناعة الرؤية بما يحتاجونه من تغذية
فعالة تساعدهم وتساهم في بناء الرؤية.
7 ان الرؤية السليمة هي التي تؤشر على الواقع لتنطلق منه الى
المستقبل، فهي ليست مثالية كما انها ليست واقعية بحتة، وانما هي مزيج
من الواقعية والمثالية، وهي عملية دقيقة توازن بين العقل والعاطفة،
وبين الواقع والطموح، وبين الممكن وغير الممكن، وبين الحاضر والمستقبل.
انها تؤشر على الواقع من دون ان تذوب فيه، وتفكر بالمستقبل من دون
ان تعيش المثاليات والاحلام، انها تؤشر على الواقع ومشاكله لترسم حدود
ومعالم المستقبل الذي يتجاوز المشاكل المعاشة بحلول منطقية وعقلانية.
انها عملية موازنة بين الواقع والطموح، بتفكير استراتيجي بعيد
المدى.
ان التفكير الذي ينشغل كثيرا بتوصيف المشكلة فحسب، او الذي يعتمد
على قاعدة التعميم سيئة الصيت، او التسليم بما نسمع ونقرا من دون تثبت،
لهو تفكير لا يساعد في بناء الرؤية ابدا.
قد تصطدم الرؤية التي تعتمد على هذه القواعد بالواقع وبما يؤمن به
الناس او بما اعتاد المجتمع على الايمان به، على قاعدة (أسهل كثيرا أن
يصدق الإنسان كذبة سمعها ألف مرة، من أن يصدق حقيقة لم يسمعها من قبل)
الا ان على من يبني الرؤية ان يدافع عنها لازال يرى فيها الكثير من
الصواب، فلا يستسلم للضغوط، ولا يتراجع امام الدعايات المغرضة، والا
فسيبتعد عنا التغيير المرجو كثيرا، اذا كنا نتراجع عن كل رؤية يهجم
عليها من لا ينشد التغيير.
هنا يرد الى الذهن السؤال التالي، وهو؛
من الذي يرسم الرؤية؟.
اولا، وقبل كل شئ، يجب ان نكون على يقين بان المسؤول في الموقع
التنفيذي لا يمكنه ان يبني رؤية ابدا، لانه مشغول بواقع يصعب عليه ان
يفلت منه ليرى مستقبلا خال مما هو فيه من المشاكل والازمات، ولذلك فان
من هو في مثل هذا الموقع التنفيذي، عليه ان يستفيد من:
الف: المستشارون الذين يفكرون بتجرد بعيدا بعض الشئ عن مشاكل
الواقع، فهم قادرون على ان ينبهوا المسؤول الى مناطق الفراغ التي يمكنه
ان ينفذ منها لرؤية المستقبل.
باء: المؤتمرات التي ينبغي على المسؤول ان يرعاها ويشجع عليها ويحث
على عقدها، يشترك فيها المفكرون ومن يمتلك العقلية الاستراتيجية
والقادر على ان يفكر بتجرد وبايجابية، غير ما خوذ بمشاكل الواقع التي
تفرض ربما الياس على من يعيشها من امكانية التغيير نحو الافضل.
جيم: مراكز الابحاث والدراسات، فهي الاخرى مصدر مهم جدا من مصادر
بناء الرؤية، بل ان مهمتها تنصب على السعي لبناء الرؤية، ولعل من اعظم
مصادر القوة في الولايات المتحدة الاميركية هو انتشار مراكز الابحاث
والدراسات التي تنتج الافكار والرؤى وفي مختلف المجالات، والتي تسعى
دائما الى ان تكون حاضرة على طاولة المسؤول كلما احتاج احدهم الى فكرة
لبناء رؤيته.
وبسبب وجود هذه المراكز تحولت الولايات المتحدة الى دولة مؤسسات لا
يحكمها فرد ولا يتلاعب بمصير سياساتها افرادا، فلا تتخبط بسياساتها،
ولا تعتمد على التكتيكات المتغيرة فحسب، وانما تبني سياساتها، وعلى
مختلف الاصعدة، على رؤى واضحة تعتمد مجموعة استراتيجيات بعيدة المدى
ومتوسطة وقصيرة الاجل.
ولقد خلقت هذه المراكز موقعها المهم في الولايات المتحدة بعاملين:
الاول؛ هو عمق ورزانة نتاجاتها، التي تحمل في طياتها، عادة، حلولا
لازمة او آفاقا جديدة.
الثاني: هو اهتمام المعنيين باصداراتها، لما يجدوا فيها من رؤية.
اما في بلداننا، العراق مثلا، فان ما نراه من تخبط في الساسات وعدم
استقرار في المنهجيات، انما سببه عدم وجود مثل هذه المراكز والابحاث
الا اللمم، واذا وجدت فهي تابعة للمسؤول وليست صنوه، بمعنى انها تسعى
لان تتطابق طريقة تكفيرها مع طريقة تفكير المسؤول، ولذلك فهي لا تزيد
له شيئا، ولا تؤثر في تطوير سياساته ومنهجياته ورؤاه ابدا.
ولقد فشلت مراكز الابحاث في بلداننا في خلق الفرصة اللازمة لها في
المجتمع لسببين هما نقيض السببين اعلاه، فلا هي اثبتت جديتها فيما
تنتج، ولا المسؤول انتبه لحد الان لاهميتها.
ان المركز الذي يريد ان يخلق لنفسه فرصة الحضور الحقيقي والواقعي
في المجتمع، عليه ان يعتمد الخبرة والاختصاص والكفاءة والتجربة والحضور
الميداني في عمله، وفي غير ذلك فسيفشل فشلا ذريعا في مهمته ويتحول الى
مجرد اسم من الاسماء ورقم من الارقام ربما صفرا على الشمال.
اذا ارادت هذه المراكز في العراق ان ترتفع بمستوياتها في التأثير
في صناعة القرارات وفي رسم الرؤية، فان عليها ان لا تسعى للتناغم مع
منهج الحاكم وانما عليها ان تحتفظ بمسافة تفصلها عن المسؤول لتفكر
بحرية واستقلالية من اجل ان تساهم في انتاج افكار يحتاجها المسؤول وليس
افكارا يحملها المسؤول.
اما من جانب الاخير، اقصد المسؤول، فان عليه ان لا يأنف من الرجوع
الى هذه المراكز كلما احتاج الى رؤية او فكرة، فان المسؤول الذي يترفع
على اللجوء لمثل هذه المراكز فسوف لن يطور من طريقة تفكيره، وان عليه
ان يعترف مع قرارة نفسه على الاقل بقصوره في التوصل الى فكرة ما وحاجته
الى من يساعده في رسم الرؤية كلما شعر بذلك، ما يتطلب منه ان لا يدلي
براي في قضية لا يفهم بها، فليس عيبا ابدا ان يقول لا ادري، وانما
العيب كل العيب اذا قال ادري وهو لا يدري فيتحدث بشئ غير مفهوم في قضية
يجهلها من الاساس، ولقد قال احد الحكماء (دعهم يظنون انك جاهل لا تفهم
بالامر شيئا بصمتك، خير من ان تؤكد ظنونهم بكلامك).
نقل لي وزير رد فعل احد زملائه في مجلس الوزراء عندما طرح حاجة
العراق لمشروع النظام البريدي، فلما افاض في الشرح والتوضيح، انبرى
زميله (الوزير) محتجا على سعة شرحه للموضوع بقوله: لماذا تضيع وقتنا
بشرح هذا الموضوع؟ او ليس انه عبارة عن صندوق بريد ومفتاح؟ فلماذا
تستغرق بالتوضيح كل هذا الوقت الطويل؟.
هذا نموذج وقس عليه، والحكم اليكم.
لا اكشف سرا اذا قلت انني لم اصادف يوما مسؤولا التقيته وقد بادر
الى كتابة محضر للاجتماع، فما بالك بمتابعة ما يطرح فيه، على العكس
تماما من الحالة هنا في الولايات المتحدة، فمن تلتقيه، ايا كان، يبادر
فور بدء اجتماعك معه، الى تدوين ما تقول، ومن ثم يعمد الى غربلة
الافكار فقد يستنتج منها شيئا جديدا يساعده على تطوير اداءه او على
الاقل افكاره، بالاضافة الى ان التدوين يمكنه من متابعة ما يطرح في
الاجتماع، ولذلك فعندهم تتراكم الافكار والخبرات والرؤى، اما عندنا فكل
ذلك اقرب الى التبخر منه الى الاستقرار في الاذهان، ولعل تكرار
الاجتماعات والمؤتمرات عندنا بلا نتيجة ملموسة، او باقل النتائج لانها
تبدا في كل مرة من نقطة البداية، اي نقطة الصفر، خير دليل على عدم وجود
قاعدة التدوين ولذلك تضيع الفكرة ويضيع الجهد ويضيع الوقت، وما من احد
يتابع الامور بعد الاجتماع او المؤتمر.
كم من فكرة طرحها كاتب او باحث او مثقف لم تجد طريقها الى عقول
وافواه واجتماعات المسؤولين الا بعد فوات الاوان؟ الا أنهم لا يقرأون؟
واذا قرأوا فيقرأون قضاءا اي بعد فوات الاوان؟ لماذا؟ اوليس في ذلك
اهدار للوقت والجهد واستخفاف بعقول الباحثين ونتاجاتهم المعرفية القيمة
في احيان كثيرة؟.
كم اتمنى على المسؤول ان يتابع ما يكتبه العراقيون في مواقع
الانترنيت، كل حسب اختصاصه ومهامه، فسيجدون فيما يكتب الكثير من
الافكار والاراء الصائبة، كما انهم سيجدون فيها الكثير من المشاريع
والاستقراءات التي ان أخذ بها فستساهم في بناء رؤية جديدة للدولة
العراقية.
قد اتفهم تبريرات المسؤولين بعدم امكانية استقطاب الكفاءات
والخبرات العراقية سواء في داخل العراق او خارجه، ولكنني لا استطيع، بل
من المستحيل ان استطيع تبرير عدم متابعتهم لما تكتبه هذه الخبرات
والكفاءات؟ واذا كان المسؤول مشغول لهذه الدرجة التي لا تفسح له المجال
للمتابعة بنفسه، فان بامكانه ان يوظف من هو قادر على المتابعة ليقدم له
ملخصا يوميا عما يكتب وينشر، وبذلك سيستفيد هو اولا ومن ثم مختلف
مؤسسات الدولة، فان ما يكتب وينشر يكون في احيان كثيرة حجة على المسؤول
الذي يبرر فشله بما يمكن ان يجده في ما ينشر اذا كان قد انتبه اليه في
الوقت المناسب.
بقيت نقطة في غالية الاهمية تتعلق بعمل ونتاج مراكز الابحاث
والدراسات، وهي ان المركز الذي يريد ان يبني رؤية حقيقية وواقعية عليه
ان يعتمد على دراسات حقيقية وواقعية، ولا يمكنه انتاج مثل هذه الدراسات
الا بعد ان يتحرر من جل الخطوط الحمراء المزيفة التي صنعتها تراكمات
الماضي بمختلف اشكالها، اما من يشرنق نفسه وعقله بمثل هذه الخطوط فانه
سيصطدم بالكثير من المناطق المحرمة التي سوف لن يلج فيها، وبذلك سينتج
دراسات ناقصة وبدورها ستنتج رؤية ناقصة.
ان واحدة من اهم نقاط قوة مراكز الابحاث في الدول الغربية هو انها
تناقش كل شيء وتبحث في كل شيء، حتى المعلومة التي يتصورها البعض انها
من المسلمات تعمد مثل هذه المراكز الى دراستها والتثبت منها قبل ان
تتعامل معها، ولذلك تشارك مثل هذه المراكز في بناء الرؤية اما عندما
فليس الامر كذلك.
دال: الكتاب والمفكرون والباحثون يمكنهم ان يلعبوا دورا مهما في
المساعدة على بناء الرؤية، شريطة ان لا يكونوا من (مثقفي السلاطين) وان
لا يتحول همهم الى مدح الحاكم على ما لم يفعله، وان لا ينشغلوا
بالكتابة كرد فعل على ما يقوله ويكتبه الاخرون، وان تكون كتاباتهم
علمية تعتمد لغة الارقام والاحصائيات والاستقراءات الصحيحة المعتمدة
على لغة علمية رصينة ورزينة هي الاخرى بعيدا عن الانشاء.
ان البعض من كتابنا، وللاسف الشديد، لم تقرا في كتاباتهم الا
السباب والشتائم والرد على هذا او ذاك وكأنهم يتربصون بالآخرين ليل
نهار ليبادروا للرد على الاخرين فحسب.
ان من النادر جدا، وللاسف الشديد، ان نقرا رؤية في نتاجات امثالهم،
فهي في اغلب الاحيان ليست اكثر من تكرار للمفاهيم والمعاني والمصطلحات
وربما للجمل والعبارات، وهم يجرون خلف خطابات الزعيم مدحا واطراءا
وتبريرا، بدلا من ان يجري خلفهم الزعيم بحثا عن فكرة جديدة او رؤية
مغايرة تخدمه في بناء رؤيته بشان قضية من القضايا، فتراهم اذا خلق
الزعيم ازمة سارعوا الى التصفيق له والتنظير للازمة المفتعلة في خطاب
الزعيم، واذا تراجع الاخير عن الازمة التي افتعلها قبل ايام لحاجة في
نفس يعقوب يريد قضاها، تراجعوا هم كذلك لتبرير الموقف الجديد، انهم
امعات يكتبون ما لا يؤمنون به، ويتفوهون بما لا يعتقدون، انهم مع كل
ناعق على حد قول امير المؤمنين عليه السلام الذي يصف فيه امثالهم بقوله
{وهمج رعاع، اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم،
ولم يلجأوا الى ركن وثيق}.
ان على اصحاب الاقلام ان يهتموا اولا وقبل كل شيء بالكتابة في ما
يساهم في صناعة الرؤية، فهذه مهمتهم الاولى، لانهم العصب الحقيقي
لعملية التفكير في المجتمع، اي مجتمع، فلو تساءلنا عن سبب اهتمام
العالم بمقال او بحث يصدر من كاتب غربي، ولا يعير الناس اي اهتمام لما
يكتبه الكثير ان لم اقل اغلب كتابنا؟ السبب لان الغربيين يكتبون للحاجة
وليس للتنظير او التبرير، اما عندنا فهدف الكاتب هو لتسجيل الحضور على
صفحات الانترنتيت فحسب، بغض النظر عما يكتب، خاصة تلك الجوقة من الكتاب
الذين اتخمتهم بترودولارات الحكام الخونة الفاسدين المتربعين على خيرات
بلادنا وعلى وجه الخصوص في دول الخليج، فمثل هذه الحفنة من الكتاب همهم
التبجيل بسياسات الحكام الفاسدين، وتبرير جرائمهم ومعادات الشعوب
والعمل على اجهاض مصالحهم، فهل ان مثلهم يمكن ان يساهم في بناء رؤية؟
نعم، انها رؤية الهزيمة والتخلف والتبعية والعبودية.
[email protected] |