العمالة ومخاطر انحراف الاطفال

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: في ظل الاهمال المتصاعد للطبقة الفقيرة، تتصاعد أعداد الاطفال الذين يفقدون فرص الدراسة، ويُجبرون على الانخراط في مهن وأعمال صعبة لا تناسي قواهم العضلية وأجسادهم المصابة بالهزال وشتى الامراض، بسبب الجوع والارهاق والعمل لساعات طويلة تحت لهيب الشمس ولهاث الانفاس المتقطع نتيجة لدفع عربات الحمل الكبيرة، أو سواها من الاعمال الشاقة.

عمالة الاطفال واقع حال فرض نفسه بقوة على الطفل العراقي، بسبب الاهمال الحكومي الغريب لمعالجة أوضاع المدن والاحياء الفقيرة والاسر التي تفقد معيلها الاساسي بسبب العنف والارهاب او سواه، فتدفع الام بأطفالها الصغار الى الشوارع والساحات العامة والاسواق لكي يعودوا لها بما يسد الرمق، ومع اجواء العمل والزحام وتداخل العلاقات والاستغلال الذي يحدث لهؤلاء الاطفال، تبدأ الدعارة تكشر عن انيابها، فتطيح بمعظم الباعة الاطفال الذين يضطرون لبيع اجسادهم مقابل مبلغ معين يعود به للبيت لكي يُسكت فم الام او الاب العاجز او اللامسؤول، كتب أحد الكتاب (سليم الوزان) عن حال الاطفال في البصرة، المحافظة الاغنى في العراق والتي تقع في اقصى جنوب البلاد، يقول عن احد الباعة الصغار: (كان ناجي في الثانية عشرة من عمره عندما اتجه للعمل حمالا في أسواق البصرة. معوزاً دون أب أو راع يحميه، سرقته حياة الشارع إلى التدخين وإدمان الأقراص المخدّرة. بعدها بثلاث سنوات انجرف إلى بيع جسده.يدخّن ناجي بشراهة وتبدو نظراته زائغة وهو يسحب عربته الحديد الثقيلة لنقل بضاعة المتسوقين إلى أقرب كراج للسيارات بالعشّار، مركز محافظة البصرة.لم يكترث كثيراً بالسؤال عن سبب انخراطه في بيع جسده، فهو لا يعي شيئاً عن الاستغلال الجنسي أو مصطلحات من هذا النوع. كان يكتفي بابتسامة عريضة قائلا: حبيبي.. أنا أولا أحصل على المال لأعيش، ومن ثم أحصل على المتعة والوناسة).

هكذا يتعامل ناجي مع واقعه الذي فُرض عليه فرضا، فهو لا يشعر بالحزن او القلق أو حتى البؤس الذي يخيّم على حياته، لسبب بسيط وواضح - لا أحد يعبأ بوضعه، ولا احد يهتم اطلاقا لبؤسه، أو للجوع الذي يغرس أنيابه في جسده الهزيل على الدوام - ولعل علامة الاستغراب الكبيرة أو التساؤل المفجع يشير بقوة الى اهمال الجهات المعنية لهذه الشريحة وللفقراء عموما، في ظل ميزانيات مليارية لم يسبق للعراق أن حصل عليها أو أقرها عبر تأريخه الحديث او القديم، فمن جهة نرى المليارات تتكدس في خزينة الدولة عبر الموازنات المتلاحقة سنويا، يقابلها فشل ذريع في استخدام هذه الاموال، في ظل موجات السرقة والتجاوز المتفاقم يوميا على المال العام، مع ضعف في القانون الرادع، وفشل الجهات الرقابية والتفتيشية والنزاهة في الحد من حالة افتراس الحيتان للمال العام.

في هذا الوقت يتشدق السياسيون (كتل واحزاب وشخصيات سياسية وسواها) بالحرص على الشعب وحماية الناس من الجوع، فيما أصبحت الدعوات التي يطلقها بعض الكتاب والمفكرين والمصلحين من رجال الدين والحوزات الدينية، لا تشكل مصدر قلق للمسؤولين، ولا تعنيهم بشيء، ويبدو هذا واضحا من خلال اهمال المسؤولين لهذه الدعوات التي تحثهم على ضرورة معالجة اوضاع الفقراء، ومنها عمالة الاطفال وفقدانهم لفرص الدراسة وتعرضهم لاخطار الدعارة مرغمين، بسبب تحملهم مسؤولية إعالة عوائلهم الفقيرة، وبالتالي يسقطون بوسائل الترهيب والترغيب والعوز، في حبائل اللواط وظواهر الانحراف الاخرى، كالتحول الى سرّاق ومجرمين ومحتالين و(حواسم) وغيرها من صور الانحراف الكثيرة.

ويؤكد الكاتب الذي سبق ذكره، على لسان مراهق آخر اسمه أحمد حيث يبدو عليه الاضطراب فيقول: (منزلنا مكون من غرفة واحدة في بيت مشترك مع ثلاث عائلات أخرى) ويضيف (أن أمه تأمره بالعمل كل يوم، وإذا لم أجلب نقودا أنام في الطريق). ويذكر الوزان قائلا: (إن المتجول في سوق العشار المركزي يعثر بسهولة على رفاق ناجي وأحمد. فهناك عشرات من الأطفال الحمالين وباعة أكياس النايلون والمتسولين يتقاتلون على بقايا الطعام والهبات. وإزاء ضعف الأجسام الظاهر وأعمارهم الصغيرة ينقلب هؤلاء في كثير من الأحيان إلى أشخاص خطرين أو عدائيين. أحمد مثلا الذي يبدو انطوائيا وخجولا يخفي تحت ثيابه سكيناً ذا قبضة جلدية. ويبرر ذلك بالقول يزاحمني بعض الأولاد على مكاني في السوق، وأضطر لمواجهة شباب يكبرونني بالسن، كما أن التحرك في الليل خطر).

هذه الاجواء المحتقنة والمريبة في آن، لا ريب أنها تصنع قاعدة خطيرة للانحراف، لأن اطفال (العمالة/ الدعارة) يتزايدون، لاسيما أننا لم نلمس خططا اجرائية واضحة ومنتظمة، تقوم بها جهات او دوائر رسمية تعمل على معالجة خطر عمالة الاطفال بدقة وسرعة مطلوبتين، بل هناك اهمال منقطع النظير لهذه الظاهرة الخطيرة، في ظل تكالب السياسيين على المنافع والمناصب وانشغالهم التام بصراعاتهم المتواصلة مع اغفال متواصل للشعب والفقراء على نحو خاص، نقرأ في مقال الوزان أيضا: (تغيب برامج الرعاية الاجتماعية لسد حاجة أسر أولئك الاطفال ما يجبرهم على الدخول في علاقات عمل مبكرة وخطرة. فراتب الرعاية الاجتماعية للأسرة المكونة من خمسة أشخاص لا يزيد على 120 ألف دينار - حوالي 100 دولار شهرياً- وهو مبلغ وصفه وزير العمل والشؤون الاجتماعية نصار الربيعي في معرض انتقاده لموازنة عام 2012 بأنه «يمثل انتهاكا صارخا لقدسية كرامة الانسان العراقي».وكانت الوزارة ضمن ما يسمى «استراتيجية التخفيف من الفقر» حددت الحد الادنى لدخل للعائلة العراقية المكونة من خمسة أشخاص في ظل التضخم الموجود بـ 400 الف دينار عراقي، وهو رقم بعيد جدا عن ما تتقاضاه الاسر الفقيرة).

وهكذا تبدو الصورة بالغة الخطورة من دون تهويل أو مبالغة، وفي حال فشل الحكومة والجهات المعنية في معالجة (عمالة/ دعارة) الاطفال، فإن النتائج المجتمعية تبدو كارثية حاضرا ومستقبلا.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 16/آيار/2012 - 24/جمادى الآخر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م