ليس الفساد بالمستعصي على التعريف انه التجاوز على المال العام
وارغام المواطنين على دفع المال لإنجاز معاملات وطلبات مشروعة هذا هو
الفساد الداخلي...
ونحن كثيراً ما نتحدث عن الفساد الداخلي ولكن ينبغي ايضا ان نتحدث
عن فساد من نوع آخر وهو استلام ملايين الدولارات من جهات اقليمية
معروفة مقابل خدمة مخططاتها... ولقد ذهب الجشع ببعض هؤلاء انهم لا
يعطون اتباعهم الا النزر اليسير ويحتفظون بجل المبالغ المرصودة لانفسهم
الامر الذي يثير غضب الاتباع بين الحين والحين...
والامر هنا لا يقف عند حد التساوي مع الرشوة التي يمارسها بعض
الموظفين بل هو عمالة، وخيانة للوطن، والا ما معنى العمالة والخيانة
غير ان تخدم جهات اقليمية ودولية وتنفذ مطالبها وتعمل بمشورتها مقابل
ثمن مدفوع؟.
وهل للتجسس نفسه من تعريف آخر؟ والمصيبة ان هؤلاء انفسهم يرفعون
اصواتهم، دون حياء، وكأن الناس لا يعرفون، يرفعون اصواتهم بالشكوى من
الفساد المستشري، ويؤكدون بانه لا وسيلة للقضاء عليه الا بانفرادهم
بالسلطة ليلهفوا المزيد ويحققوا مخططات من يدفع لهم... وها هم يزجون
ببعض ذوي الحاجة وسط تظاهرات الجماهير التي تطالب بالحق ليحرفوا هذه
الجموع عن مطالبها المشروعة، ويتهمون من خلال القنوات القابضة
بالملايين الشرطة الفقراء المساكين بالعدوان عليهم، كما يتهمون الحكومة
التي يشاركون فيها بمصادرة الحريات والارهاب الذي ما بعده ارهاب، فهلا
قالوا شيئا عن حكومتين على الاقل تدفع لهم، فهل ان هاتين الحكومتين هما
المثال والنموذج الاروع للديمقراطية؟ وهل قالوا لنا من اين لهم كل هذه
الارصدة والعمائر في الدول الاجنبية؟
اللهم لا نسألك رد القضاء بل نسالك اللطف به...
اما في الداخل فليس الفساد المالي والاداري يتجلى فقط ان يأخذ موظف
صغير بضعة دنانير لإخراج معاملة مواطن من دائرة الروتين وانجازها
بالسرعة المطلوبة، فهذا امر وان كان خطأ لكنه يعتبر شيئا بسيطا ازاء
نهش الملايين والمليارات... ليس بإنجاز معاملة بل بإخفائها تحت كلمة
اختفت، ويتجلى الفساد ايضا باحالة المشروعات لمن ليسوا بقادرين على
انجازها مقابل عمولات ترتفع بكلفة المشروع احيانا الى حد الضعف
والضعفين، والادهى والامر بان المشروع لا ينفذ بالوقت المحدد او لا
ينفذ بالمواصفات المقررة، او لا ينفذ بالمرة باية مواصفات وبأي زمن،
ولم نسمع ان مقاولاً ما قد حوسب لهذا السبب، ولا بمسؤول قد حوسب، بل ان
نكول المقاول يتخذ مبرراً لعدم استفادة المواطنين من مردوده...
وهكذا صرنا نسمع ان الماء لم يصل الى هذا القضاء او تلك الناحية لان
المقاول قد نكل بتعهده... اما من هو ويسدل الستار على القضية وكأن هذا
التبرير يجعل الماء قد وصل.. اما من هو المقاول؟ وما هي الاجراءات التي
اتخذت ضده؟ ومن احال عليه المشروع؟ ولماذا لم تتخذ اجراءات عند كل
مرحلة بل يستمر دفع الاقساط المالية دون ملاحظة ما يجري على الارض من
انجاز حتى اذا استنفذ جميع التخصيصات ظهر انه حتى المراحل الاولى من
المشروع لم تنجز انما هناك قطع حديد خردة او بضعة الواح من الخشب وحارس
مشغول بلف سجائره؟
ونأتي الى قضية المليارات التي اختفت...
كيف اختفت والمفروض انها في حرز حريز في احد المصارف وليس في ادراج
المكاتب وانها في عهدة المسؤول الاعلى ومن يليه من الموظفين وان هناك
قواعد للصرف لا يمكن تجاوزها فاين ذهبت؟ وكيف؟ ان مثل هذه الظاهرة لم
تحدث الا في العراق...
والمفروض ان وزارة المالية وديوان الرقابة المالية ان لا يقتصر
عملهما التدقيقي على مراجعة المبالغ المصروفة وما يقابلها من وصولات
صرف في نهاية كل عام... بل يجب ان تكون اجهزتها التدقيقية في حالة
استنفار ومراقبة دائمية طيلة العام وفي توقيتات غير مقررة سلفا او يعد
لها الحساب، ولتهيأ لها المعاذير...
والآن نأتي الى النقطة المهمة وهي ان الذين اوغلوا في الفساد
والافساد هم الذين يرفعون اصواتهم صائحين (الله اكبر من طغيان الفساد)،
يحدث هذا في البرلمان، ويحدث في المقابلات التلفزيونية، ويحدث في
التصريحات لكل وسيلة من وسائل الاعلام... والادهى والامر انه يحدث
عندما يرسل هؤلاء بعضاً من اتباعهم وبعضاً من الفقراء الى تظاهرات
الجمعة التي صارت موضة ليرفعوا اصواتهم لاعنين الفساد والفاسدين
ومطالبين باقصائهم، ويدفع لهؤلاء ثمن بسيط مقابل ما تجود به حناجرهم
وممن؟ يدفع الثمن من الفاسدين والمفسدين... والغاية؟ هي ان يمسكوا
بتلابيب الحكم للحصول على المزيد من المال الحرام وتشويه المطالب
المشروعة للجماهير... والحل؟
الحل يكمن في قانون من اين لك هذا؟
ويبدأ التساؤل من الذين كانوا حتى وقت قريب حفاة عراة لا يملكون ما
يسد الرمق، حتى اذا تسنموا المناصب في الزمن اللعين اصبحوا من ذوي
الملايين بل المليارات وصار لهم شأن، وصار لهم مركز اجتماعي يصنعه
المركز المالي، وصاروا يتعالون على الناس الشرفاء...
على انه جدير بالحكومة عندما تحاسب ان لا تستند الى اقوال الذين
يسأل عن اموالهم فحسب بل لابد وان تكون لديها من الوسائل ما يكشف
الحقيقة دون ادعاء... ليقال عن كل متهم ليس له ذنب بانه بريء ومواطن
شريف وليقال عن كل من سرق اموال الشعب بانه واطئ الخلق ويجب ان ياخذ
جزاءه في العقاب ويجب ان تسترد منه الاموال...
وفي ظننا ان اول ما ينبغي ان يسأل عنه بعد المليارات التي قيل عنها
انها اختفت هي نفط الشعب المسروق، من سرقه؟ ومن صمت على اساطيل
السيارات التي نقلته وهو المسؤول امام الله والشعب؟ ولمن تم بيعه؟ وفي
اي جيب استقرت عائداته؟.. لذلك كله نحن لا نعتقد ان محاربة الفساد تتم
بمحض النوايا الطيبة او باجراءات ضد صغار الموظفين بل بمحاسبة اسماء
صارت معروفة لكثرة ما نهبت وسلبت والله في عون المخلصين في دولتنا لان
الفساد قد اصبح مؤسسة وليس مجرد افراد، مؤسسه لها اذرع ووسائل اعلام
ومرتكزات داخل البلاد وخارجها ولذلك فان المهمة ستكون صعبة ومع ذلك فان
النوايا الطيبة المشفوعة بالحزم، والاعتماد على ارادة الشعب قادرة اذا
ما تلاقت على القضاء على الفساد والفاسدين والمفسدين... |