الخوف واسناني.. مما يخاف الانسان؟

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: تتعدد انواع المخاوف بتعدد الثقافات والمجتمعات، وهي وليدة تراكم معرفي وخبرات حياتية، وخليط من خرافات واساطير ومعتقدات.

هناك على سبيل المثال من يخاف من القذارة، فتراه يغسل يديه باستمرار، ويتحاشى ان يلمس الاشياء بيدين مجردتين الا اضطرارا، حتى يتحول هذا الخوف الى وسواس قهري لكل ما له علاقة بالقذارة. كما في حالة كثير ممن عايشتهم في سنوات طويلة، واذكر منهم احد الاساتذة الذي كان يدرسنا اللغة العربية في المرحلة الثانوية.

وعلى النقيض من ذلك هناك من يشعر بالخوف الشديد من النظافة نفسها وما يتعلق بها، وهناك من يخاف من التجمعات الكبيرة، وغيره على النقيض من ذلك، فهو يخاف من الوحدة والعزلة.

يجتمع في الخوف النقيضان، كما في الامثلة التي ذكرنا وغيرها من امثلة اخرى نقع عليها في حياتنا اليومية.

ورغم الاختلافات في مشاعر الخوف نتيجة الخبرات الحياتية المتنوعة، ونتيجة اختلاف المعارف، والمرجعيات الثقافية، الا ان هناك مشتركات اخرى تجمع الناس من ثقافات متعددة تجاه مخاوف معينة. مثل الخوف من الموت، الخوف من فقدان الامان، الخوف من المرض، الخوف من بعض الظواهر الطبيعية، والتي لها جذور عميقة في لاوعي الانسان. وتبقى الاختلافات تجاه هذه المخاوف هي في كيفية مواجهتا وتبديدها.

والخوف شعور قوي ومزعج تجاه خطر، إما حقيقي أو خيالي. ويمكن تقسيم الخوف إلى نوعين:

 خوف موضوعي: وهو الذي ينشأ عن مواقف تهدد الإنسان بأخطار حقيقية مثل الخوف من الحيوانات المفترسة.

 خوف غير موضوعي (رهاب): وهو الذي ينشأ عن مواقف لا تهدد الإنسان بأخطار حقيقية كالخوف من الظلام أو الخوف من الأماكن المغلقة... وقد عرّف علماء النفس الخوف بأنه قلق نفسي، أو عصاب نفسي لا يخضع للعقل ويساور المرء بصورة جامحة من حيث كونه رهبة في النفس شاذة عن المألوف تصعب السيطرة عليها والتحكم بها.

 وقد اختلف علماء النفس القدامى مع علم النفس الحديث حول ماهية الخوف؛ فالقدامى اعتبروه غريزة إنسانية، بينما يتحدث علم النفس الحديث عنه كميل فطري، له وظيفة حيوية ألا وهي حماية ذات الكائن من عوامل التهديد والمخاطر.

 وتنطوي مثل هذه المخاوف على حالة مرضية تنشأ عادة من جرّاء تجارب فاشلة أو تتولد نتيجة لصدمات نفسية عنيفة... مثل كل الناس لدي مخاوفي التي تسيطر بعضها علي احيانا وتمنعني من كثير من الامور. وهي مخاوف قد تكون مبررة، او تكون مجرد اوهام تكبر في عقلي، وتتحول الى رعب حقيقي يلازمني.

واحدة من مخاوفي، التي لازمتني طيلة ست سنوات هي الجلوس امام طبيب الاسنان لخلع احد اضراسي، كنت اشعر بالرعب كلما فكرت بهذا الموضوع، وكان الالم حين يعتريني منه الجأ الى بعض الادوية المسكنة، التي تخفيه اياما ثم يعاود الظهور بعد فترة اخرى.

اذا هبت امرا فقع فيه، هكذا يقول امير البلغاء والمتكلمين الامام علي عليه السلام في واحدة من مختصراته العميقة... هذه المرة قررت مواجهة خوفي، والرعب الناشب في نفسي، خاصة وان الكثير من افلام الرعب، او افلام الاكشن، تميل الى توظيف خلع الاسنان للضحايا في حبكنها الدرامية.

اتخذت القرار اخيرا، ولامجال لتحويل القاف الى فاء والعودة ادراجي، فليس باستطاعتي بعد اليوم تحمل الالم المستمر والذي يرفض هذه المرة المغادرة... دخلت الى عيادة احد الاطباء، بتوصية من احد اصدقائي، المكان مرتب ونظيف، تلك اولى البوادر لعدم التراجع. وهو مكان عكس ما توقعته، دماء وقطع شاش متناثرة، وصيحات الم من الداخلين الى العيادة.

في غرفة الانتظار لفت انتباهي قطعة كارتون معلقة فوق باب الطبيب، مكتوبة بخط جميل، مع بعض الالوان والرسوم التي تحيط بالكلمات، وهي عبارة عن ثلاثة ابيات من الشعر العمودي كتبها احد الخائفين مثلي، وعبر فيها عن تلك المخاوف:

اذهب الى مهدي وقل اسناني جعلت علي الليل ليلا ثاني

ستراه يلبس كفه مبتسما يزيل عنك الاذى بثواني

متبحرا بالنفس ويعرف خوفها جئت قبلك عنده وشفاني

تلك بادرة اخرى طيبة، ولا مجال للتراجع. حين تدخل الى غرفة الطبيب تحس بحميمية، مستمدة من شخصيته، فهو يبتسم بوجهك ويخاطبك قائلا: صديقي. كل شيء هو خلاف تلك الصورة الذهنية من المخاوف البليدة التي رافقتني ست سنوات ونغّصت علي ايامي.

يوجد الكثير من الادوات التي لا اعرف تسمياتها، كنت افكر في الناس الذين دخلوا وخرجوا قبلي، افكر في الملايين الاخرين على مدار قرون من الزمن، كيف كانوا يعالجون اسنانهم، وكيف يتعاملون مع عمليات الخلع لها.

ربما كان الحلاق اول من مارس عمليات معالجة الاسنان وخلعها، وقد تميزت الادوات الاولى ببدائيتها واشكالها المخيفة، ولازال هناك الكثير ممن يزاولون تلك العميات في عدد من المجتمعات على ارصفة الشوارع والازقة. وهم ما يعرفون بالاطباء الشعبيين الذين يلجؤون عادة الى الاعشاب الطبيعية في علاجاتهم. وقد كان في شقلاوة احدى المدن العراقية الشمالية عدد من الاطباء الشعبيين لمعالجة الاسنان منهم: سوريش زهيرا. كوركيس حنا، بنيامين فرنسي. يوسف صليوا. سامي يوسف.

كم من المخاوف التي يشعر الانسان بها، وتسيطر عليه وتشوه الكثير من لحظات حياته لمجرد وهم يسقط عند اول مواجهة له وتبديده؟ انها كثير من المخاوف.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 15/آيار/2012 - 23/جمادى الآخر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م