برشلونة وريال مدريد... عن الثنائية والتعددية في الوعي العراقي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: كل مباراة لاحد الفريقين هي كشف للمضمر في العقلية العراقية، وتوغل في حفرياته على مستويات متعددة، سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية. يقترن تشجيع احد الفريقين، بالنيل من مشجعي الفريق الثاني، والنيل من رموز ذلك الفريق لاعبين ومدرب.

واذا التقى الفريقان، فان الصراع يبلغ ذروته، سواءا على ارض الملعب في اسبانيا، او على مساحات المقاهي التي تعرض المباراة في مدن العراق المختلفة، او عبر رسائل الجوال المتبادلة، كما حدث في المباراة الاخيرة قبل اسابيع قليلة وفاز فيها ريال مدريد على برشلونة وفك عقدة عدم الفوز عليه التي لازمته طيلة مدة طويلة.

لم تمر المباراة بسلام، شرطة مكافحة الشغب في الديوانية تدخلت لمنع تطور المشادات بين المشجعين للفريقين الى ما لا تحمد عقباه، وكذلك الحال في بغداد، عمليات تعدي وصلت الى جروح جسدية، والى تعديات لفظية عديدة.

قد تكون المسألة عادية، مقارنة بما يحدث في بلدان اخرى مثل بريطانيا ومشجعي فرقها سييئي السمعة، او كما حدث في مصر في بورسعيد، الا انني لا اريد الحديث عن مثل هذه المقارنة. حديثي سيكون عبر طرح سؤال هو: لماذا يحتل الدوري الاسباني، وتحديدا فريقا برشلونة وريال مدريد، هذا الحضور والزخم الجماهيري، رغم الضعف العام لمباريات هذا الدوري، مقارنة بالدوري الانكليزي، اعرق الدوريات في العالم، او الدوري الايطالي او الدوري الالماني؟

اعود بذاكرتي الى عقود سابقة، وتحديدا عقد السبعينات، حين كنت امارس لعبة كرة القدم في الشارع او الساحات المخصصة للعب، كنا في تلك السنوات نشجع الفرق الانكليزية والالمانية، واذكر اني كنت ارتدي فانيلة حمراء تحمل رقم اللاعب الالماني فرانز بيكنباور الملقب بالقيصر. تنوعت ولاءاتي للفرق الالمانية تبعا لصعودها او هبوطها في الدوري الالماني، كنت مشجعا لنادي هامبورغ ثم البايرن، وشجعت ايضا فرق ليفربول ومانشستر يونايتد من الدوري الانكليزي، وهناك من كان يشجع بعض الفرق الايطالية العريقة.

لا اذكر ان واحدا من رفاقي كان يشجع احد الفرق الاسبانية، ولم اسمع يومها في كل تلك السنوات بفريق برشلونة او ريال مدريد، فالعولمة لم تكن قد وجدت.وحتى بعد ابتعادنا عن ساحات الكرة، بقيت ولاءاتنا للفرق الالمانية والانكليزية، رغم التقلبات العديدة في الاهتمامات والانشغالات الحياتية الاخرى.

عقد السبعينات العراقي، لازال ممتدا من عقد الستينات والخمسينات، حيث لم يكن البعث العراقي قد استطاع بعد ان يمسح ذاكرة الاجيال العراقية القريبة العهد بالاحزاب والتنظيمات السياسية، ولم يكن قد استطاع بعد ان يستبيح كل التناقضات الفاعلة والمبدعة في العقل الثقافي العراقي، ولم يكن تبعيث التعليم قد بدأ بالشكل الذي انتهى اليه في الثمانينات.

هذا التنوع في تشجيع الفرق الرياضية، له مشابهات اخرى في مجالات الثقافة، فهي تمتاز بالتنوع والتعدد، ولا تقتصر على لون معين يمكن ان يلغي بقية الانواع والالوان والتشكيلات. هناك تنوع في المنتج الثقافي، وفي الخطاب، وهو تنوع كان يستطيع المرور والانسياب الى الشارع العراقي. ثم جاءت تلك العقود المريرة وحلت اللعنة.

على مستوى الاجتماع، وفي سنوات الثمانينات، ثنائيتان شكلتا هيكل الاسرة العراقية، وعملا على تشويه الكثير من معالمها، هذه الثنائية التي اتحدث عنها هي ثنائية الحضور – الغياب، حضور الاب او غيابه، رغم ان الغياب قد طغى بشكل اوسع، وكان الحضور دوما مشروع غياب مؤجل.

الاب اما حاضرا (يتمتع باجازته الدورية) او في جبهات القتال، يتوقع القتل او الاسر او الفقدان، وكل واحدة منها تشكل ثيمة رئيسية في المشهد الاجتماعي العراقي، وسردية من سرديات القلق اليومي المتواصل.

عطفا على هذا، اصبحت عسكرة المجتمع هي السياق الغالب على الحراك الاجتماعي، والاستثناءات القليلة هي (تأجيل الخدمة العسكرية – التسريح لاسباب صحية) او غيرها من استثناءات لا تكاد تذكر.

في المجال السياسي العام، وبعد ان تسيد البعث الحاكم كل شيء، واستباح مقدرات البلاد والعباد، برزت ثنائية جديدة، وهي ثنائية (البعثي – المستقل) وكان المستقل لا يبقى في مكانه حتى ينضوي تحت المسمى الاول لمتطلبات (الدراسة – العمل الحكومي – البحث عن الامان).

وضمن هذا المجال برزت لفترة قليلة ثنائية (الاب القائد – السيد النائب) قبل ان تحتل الثانية المشهد السياسي برمته في نهاية عقد السبعينات.

وضمن هذا المجال الذي انسحب الى ابتداع خطاب جديد، وهو خطاب راديكالي متطرف في ثنائياته برزت ثنائيات اخرى متعددة (مع الثورة – ضد الثورة) و (الفرس – العرب) و (قادسية صدام – قادسية سعد بن ابي وقاص) و (القادسية الاولى – القادسية الثانية)، قبل ان يهيمن القائد الضرورة على جميع الثنائيات ويحولها الى شخصنة سرمدية فريدة من نوعها، (انا العراق والعراق انا).

لم تكن الثقافة العراقية بمكان بعيد عن تلك الثنائيات، فكان هناك شعراء الحزب والثورة، والشعراء الخونة، قبل ان تتطور تلك الثنائية، وتكتسب هويتها الجديدة والتي بقيت فاعلة لسنوات طويلة وهي ثنائية (مثقفو الداخل – مثقفو الخارج).

اتوقف كثيرا عند ما يحصل الان، فالشارع العراقي ينقسم الى قسمين، اما برشلوني واما مدريدي، ولا ثالث بينهما. الا تشبه هذه القسمة ثنائيات عديدة كنا نسمع بها، مثل ثنائية (الخير – الشر) او (العدو – الصديق) او (مصالحي – مصالح الاخرين) او (الحب – الكره) او (الحوزة الناطقة – الحوزة الصامتة) او (الصدر الاول – الصدر الثاني) او (الشيعة – السنة) او (الشيعة العرب – الشيعة غير العرب) او (الاكراد – العرب) وجميع الثنائيات التي يمكن ان نضعها في مصفوفة ثقافية او سياسية او اجتماعية واحدة؟

ثم الا يمكننا طرح السؤال التالي: الا تعد هذه الثنائيات هي امتداد لثنائيات سابقة تجذرت في العقل العراقي بجميع تجلياته (السياسية – الاجتماعية – الثقافية) وهي ثنائيات تمتح من ثنائيات سبقتها بعقود، وعملت على تشكيل العقل العراقي الجمعي بهذه الصورة التي لا يستطيع ان يغادر فيها ما أجبر على الركون اليه بين خيارين طيلة اكثر من اربعة عقود؟

الا يعد الانقسام بين ناديين فقط هو امتداد لانقسام سياسي وطائفي ومجتمعي، تتكشف مآلاته كل يوم للمراقب للشأن العراقي؟

ثم الا يمكن اعتبار ان عدم الحضور للدوريات الاخرى مثل الانكليزية او الالمانية او الايطالية، هو بمثابة رفض لفكرة التعددية التي يمكن ان تعيدنا اليها ممارسة الفعل الديمقراطي (صناديق اقتراع – تبادل سلمي للسلطة – تنوع في الحركات والاحزاب (احزاب يمين – احزاب وسط – احزاب يسار) – حكومة – معارضة) او على سبيل التعددية الدينية والمذهبية (اسلام – مسيحية – صابئة – أيزيدية) على شرط ان تكون تعدديات فاعلة وليست ارقاما احصائية يتم مصادرتها لإحدى الثنائيات الفاعلة في الواقع العراقي السياسي او الاجتماعي او الديني؟

هل يمكننا في سنوات قادمة ان نغادر مربع الثنائيات المستديمة والتي توغلت في عقولنا، وسيكون انعكاس ذلك في ابسط صوره في تشجيع الدوريات التي تمتاز بتقارب مستويات الكثير من انديتها ولا يقتصر التتويج كل عام وحصد الالقاب على ناد واحد او ناديين؟

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 10/آيار/2012 - 18/جمادى الآخر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م