لهذا الرجل تدق الطبول!

د. هاني حجاج

كتب أحد النقاد الفرنسيين يقول:

"يا كتاب الرواية في فرنسا، غطوا رؤوسكم، فلو حدثت حرب أوربية بخصوص الرواية لخسرتموها، ولأنتصر عليكم أديب ألماني يدعي (جونتر جراس)!!"

هذا هو الأديب أما الرواية فهي رائعته (طبلة الصفيح) التي فازت في فرنسا عام 1962 بجائزة أحسن كتاب غير فرنسي، ثم فازت بعد ذلك – في 30 سبتمبر 1999- بجائزة نوبل في الأدب لهذا العام! ولد (جونترجراس) في دانتسيج بألمانيا في 16 أكتوبر 1927، التحق بالخدمة العسكرية عام 1944، أصيب في الحرب العالمية الثانية وتم أسره من قبل الأمريكان في (بافاريا) وأطلق سراحه بعد انتهاء الحرب (في عام 1946) ثم عمل كبناء في (دوسلدروف) ثم في (برلين) عام 1953.

بدأ بالكتابة في المجلات الأدبية المتداولة آنذاك، ثم ربح أول جائزة له في الشعر عام 1955 ودرس النحت والرسم وكتابة المسرحية وانتشرت مقالاته بين الجميع وكتب عدداً من المسلسلات الإذاعية.

انتقل بعد ذلك إلى (باريس) عام 1956- وهناك كتب أول رواياته، طبلة الصفيح – التي نتحدث عنها منحتها (جمعية 47) جائزة لتشجيع الأديب الروائي الجديد وقبلته عضواً عاملاً بها (اسم الجمعية بسبب نشأتها في عام 1947!).

وكذلك نجحت بين القراء العاديين وأصبح اسمها شهيراً جداً للجميع وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي للمخرج (فرلكد شلوندورك) نال عنه الجائزة الأول في مهرجان كان السينمائي عام 1980م.

وفي عام 1963 كتب (جراس) روايته الثانية (فهل تنجح نجاح روايته الأولى المتألقة؟): نعم!! نجحت (سنوات القهر) في أن تصل شهرتها نفس شهرة (طبلة الصفيح) – وكان قد كتب بينهما رواية قصيرة بعنوان (قط وفأر) – وفيما بعد نشر الأعمال الثلاثة في مجلد واحد باسم (ثلاثية دانتسيج) عام 1974. وامتاز أسلوب (جراس) بقسوة السخرية المرة حتى أنه كان من حيثيات فوزه بـ (نوبل):

"أن (جونتر جراس) رسم في رواياته القائمة التي لا تخلو ن بهجة! – الوجه المنسي للتاريخ!" واعتاد (جراس) على رسم وتصميم أغلفة رواياته بنفسه برسوم تعبيرية وسريالية بالغة الغرابة!

"والطبلة من صفيح!"

في روايته (طيلة الصفيح) يحكي (جونتر جراس) حكاية قزم اسمه (أوسكار ماتسيرات) الذي ولد ونشأ في مدينة (رانتسيج) بألمانيا (نفس المدينة التي كانت مسقط رأس (جراس) نفسه!) والقزم هو الذي يحكي قصة حياته بالكامل منذ لحظة ميلاده ثم اختياره أن يظل قزماً بأن رمى بنفسه من فوق السلم وهو في الثالثة من عمره ليصاب بعيب أوقف نموه جسمانياً حتى أصبح قزماً وهو في الثلاثين من عمره، وحتى انتهى به الحال راقداً في مصحة عقلية لارتكابه جريمة قتل راحت ضحيتها ممرضة، وظل (أوسكار) متستراً على الدليل الذي يثبت أنه قتل رغماً عنه، لكنه فضل أن يبقى في المصحة التي وجد فيها راحته وسلامه النفس.

طبلة الصفيح!... أعطاه إياها المهتمون به والقائمون على تربيته حتى ينشغل بالطرق عليها، لأن هذا الإزعاج أرحم بكثير من صراخه المدوي الذي كان يصيبهم بالانهيار العصبي!...

أحداث الرواية في الفترة من 1925 وحتى 1955 – عمر (أوسكار ماتسيرات) – الذي تؤثر فيه العديد من الأحداث السياسية العملاقة على المستويين المحلي والعالمي: تكتل النازي، الهولوكوست، تجنيد الجيش الألماني، دعاية (هتلر)، الهجوم على (دانتسيج)، الحرب العالمية الثانية، جدار الأطلنطي، نظرية السوبرمان لـ(نيتشه) التي تسببت في عزل العجزة والمرض والمشوهين عن بقية الشعب الألماني (الذي حدث بالضبط لأوسكار بعزله في إحدى هذه المؤسسات!)، إلى الجيش الروسي، غارات الجو المستمرة، معسكرات الاعتقال، السوق السوداء، اللاجئون، إجراءات دعم العملة الألمانية تتبعها النهضة الاقتصادية بعد الحرب.

(حانة البصل)!... ناد ليلي جاء في القصة ليعرض من خلاله (جونتر جراس) نظرته الساخرة لإحساس الإلمام بالذنب، فالأثرياء يقصدون الملهي لـ (يخرطون) البصل الطازج لإدرار الدموع في عيونهم بغزاره تكفيراً عن سيئاتهم وهؤلاء الأثرياء في نهاية الرواية يتسببون في عودة المسارح إلى النشاط السابق، وينشأ مجتمع رأسمالي ضخم تميزه (التفاهة)!

الأحداث حادة مؤلمة، (جراس) يسلخ جلد الطبقة البرجوازية المخططة التي ساعدت على نشوب الحرب ويعري الغطرسة القومية والشعارات لجوفاء وتطلعات الانتهازيين من أجل انفتاح ما بعد الحرب كل هذا من خلال أجواء القصة السريالية القائمة البالغة الغرابة التي تذكرك بروايات الرعب القوطي، وعوالم ألمانيا وقت الحرب، واجتمعت أراء الجميع داخل ألمانيا وخارجها: أن هذه الرواية سوف تكون السبب الأساسي لإحياء الاهتمام بأدب ألمانيا الحديث.

"تاريخ البحث عن الطعام!"

"سمك الترسة" هي وليمة ممتعة من الكلمات – على حد وصف أحد النقاء لرواية (جونتر جراس) الشهيرة (سمكة الترسة)، والتي كتبها بعد أن تولي عملاً سياسياً في ظل حكم الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا الغربية عام 1968 ولم يكن قد كتب سوي مقالاته السياسية البسيطة بعد آخر قصة له بعنوان (تخدير موضعي – عام 1969)!

تدور أحداث رواية (سمكة الترسة) على ثلاثة محاور: المحور الأول هو حياة بعض الخادمات منذ العصر الحجري في مدينة (دانتسيج) وحتى العصر الحالي في (بولندا) – ثم المحور الثاني وهو فترة حمل زوجة راوي القصة (تسعة أشهر) – (تلاحظ أن الرواية مقسمة إلى تسعة فصول! – وفي المحور الثالث نشاهد محكمة نسائية تدور وقائعها في (برلين)... هذه المحكمة تحاكم سمة الترسة!... وسمكة الترسة في قصة (جارس) هي رمز الرجل الواقع في حبائل شبكة الصياد منذ العصر الحجري (والذي وعد الصياد بنصيحة ذهبية إذا هو أطلق سراحه!... الرواية تحكي عن محاكمة العبودية والرغبة في التحرر من كافة أنواع القيود، وكلمات ومعاني مثل السيطرة، الديكتاتورية، الديمقراطيون، حق تقدير المصير... سوف ترى لها أنماط حية في الرواية، والكاتب يصف روايته بأنها (تاريخ البحث عن الطعام)!! – وكعادته في الرغبة الدائمة بالتعبير بنفسه عن أفكاره يرسم (جونتر جراس) غلاف روايته بريشته ويصور فيه – بالطبع – سمكة ترسة ضخمة مشوهة الفم، ممزقة الزعانف وقد نبت من بطنها رأس رجل ضئيل كث الشارب ألتصق فمه بأذنها كأنه يهمس لها بشيء – أو هي التي تهمس له بأشياء! – وعلى وجهها تعبير من البلادة وعلى وجهه اهتمام! الرواية كتبها عام 1977 وتدور من خلال العصور المتوالية: العصر الحجري، عصر الإنسان الأول، عصر هجرة الأجناس، عصر المسيح، العصور المظلمة، عصر الإصلاح الديني، مارتن لوثر كنج، حرب الثلاثين عاماً، العصور الرومانتيكي، عصر النهضة،...،....

كل هذه العصور يناقشها (جراس) وهو يعرض تاريخ البشرية بالكامل من خلال الطباخات الثمان وعلاقتهم مع أزواجهم وجداتهم وأحفادهم، مع تطورات الأحداث وتباين الأذواق والاهتمامات اليومية و... إنها وليمة كاملة !!!.

"تحذير القط وحرب الفئران!"

بعد نجاح روايته (طبلة الصفيح) قدم (جونتر جراس) قصة طويلة محكمة بعنوان (قط وفأر) أعقبها برواية عظيمة أخرى هي (سنوات القهر) التي يتناول فيها أحداثاُ قبل الأحداث التي ناقشها في (طبلة الصفيح)، فأحداث الرواية الجديدة تمتد منذ 1917 لتناول الظروف التي واكبت معاهدة (فرساي) التي كانت السبب في نهاية الحرب العالمية الأولى، والتضخم الرأسمالي في ألمانيا والعوامل العديدة المتداخلة التي فتحت الطريق لظهور (هتلر) وسلطته الديكتاتورية.

وعلى خلاف ما حدث في (طيلة الصفيح) التي كانت تسرد من خلال بطل القصة (أوسكار)، فإن أحداث الرواية الجديدة لا تقدم بصورة مستقلة وليست من منظور فردي، بل من خلال تأثيرها في عدة شخصيات تمثل محاور عديدة للرواية.

إلا أن أسلوبه لم يتغير، فـ(جراس) لا يزال يستعمل الأسلوب الوحشي السريالي والتعبيرات القاسية، يحارب الطبقة الوسطي، وسخريته اللاذعة تصبغ الرواية بلون كالح يثير الانقباض ويشمل كالعادة الرموز والإسقاط، والراوي الوحيد لـ(طبلة الصفيح) يتحول إلى ثلاثة رواة في سنوات القهر يتتابعون لسرد حياة "إدوارد إمزل" و"فالتر ماتيرن" وهو من أصل يهودي/ آري و"هاري ليناو" والأولان يحكيان الرواية بالكامل وتتطور معهما الأحداث ويتقدم الزمن، ثم أنها يعودان إلى العيش في الزمن الحاضر. المؤلف – كما في روايتيه السابقتين – يستعمل تكتيك السرد الداخلي أو التدخل الجانبي حيث يتغلغل في السرد الخيالي والترميز وتتداخل مصائد الشخصيات داخل الإطار التاريخي الذي يحيط بالأحداث.

وبعد هذه الرواية تولى الحزب الاشتراكي الديمقراطي السلطة في ألمانيا الغربية – كان ذلك في عام 1988، فانغمس (جونتر جراس) في لجة الأعمال السياسية وبدأ في كتابة المقالات والكتب السياسية... وفوجئ الجميع بعودته إلى ميدان الأدب بعد ذلك بسنوات – بالتحديد في 1977 – ليقدم تحفته الجديدة (سمكة الترسة)... وقبلها لم يكتب بعد (سنوات القهر) إلا رواية واحدة مختلفة المضمون – على سبيل التجريب – هي (تخدير موضعي)!!.

"الجنس الأرقى مهدد بالانقراض!"

ويقف الأديب الألماني العظيم (جونتر جراس) فوق منصته كتابه الروائي (انقراض الألمان) ليقول: "ولماذا أتنازل عن حبي للحياة وما أهواه؟ ولماذا أغادر ربة الشعر وملكة الأدب، كل هذا لمجرد أن الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة قد علمونا أن نرتجف من الهلع، ومنذ حرب فيتنام وغزو الروس لتشيكوسلوفاكيا وهما يحاولان السيطرة حتى على أفكارنا وإملاء إرادتيهما على حياتنا اليومية، فإذا توقفنا عن قراءة الشعور وعن الكتابة، فمعنى هذا أننا نقر بنجاح الطغيان الغاشم وأن نقبل سياسته المنحطة، إن الحرب دمرت ألمانيا، أما أنا فأستطيع أن أعيد بناءها من جديد... بكلمات وحدها، ولا يستطيع أولئك المتجبرون أن يمنعوني وأنا أتحدى قدرتهم على منعي من الكتابة."

وفي رواية (انقراض الألمان) يضع (جراس) فرضية أن جنس الألمان إما أن ينقرض أو يتكاثر نسله بغزارة – كما في الصين – وفي هذه الحالة سوف يفاجأ أهل ألمانيا بأعداد رهيبة من حولهم مئات الملايين من الجنس الساكسوني والجنس الروسي الذين سوف يفرضون عليهم قوتهم الغاشمة وسلطاتهم الرهيب، ويقترح (جراس) فكرة عجيبة: بأنه من الأفضل والحال هكذا أن يرى الألمان في (فترينات) متاحف التاريخ البشري!!

ويجب هنا أن نعرف أن (جراس) هو أحد أدباء أربعة قدموا للمستشار الألماني (هيلموت شميت) رسالة مفتوحة مفادها أن الحكومة الألمانية عليها أن تعرف أن لألمانيا دور لا يستهان به في حفظ السلام، إذا أنهم كانوا السبب في تعريض أوربا بالكامل للخراب من خلال حربين (كان هذا بعد أغسطس 1914 بعد نشوب الحرب العالمية الأولى) حيث بدأت الحرب الأولى في مدينة (سراييفو) بـ(يوغوسلافيا) والثانية في (رانتسيج) الألمانية – مسقط رأس (جراس)-... ويقولون إن الحرب العالمية الثالثة سوف تشتعل شرارتها في (طهران)!!

وعلى عكس ما يظن البعض من أن (جونتر جراس) يحاول دائماً الهروب من الواقع واللجوء إلى عالم خيالي غريب – أسطوري الطابع غالباً – فإنه في الحقيقة يطارد الحقائق، والحقائق تطارده،... يغرق حتى لا تظهر منها إلا صورتها الخيالية الساخرة!

hany_haggag@hotmail.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 6/آيار/2012 - 14/جمادى الآخر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م