صيف العراق... صباّت نص ردن

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: في احد افلام الممثل الاسكتلندي القدير شين كونري، ويلعب فيه دور عالم شرير يتحكم بالمناخ في الكرة الارضية، وهو بكل ثقة يطمح ان يبيع انواع المناخ لزبائنه من الدول، تقول احدى الممثلات: لشدة البرودة فاننا سوف نتدفأ في جهنم.

يحلم العراقيون بمثل تلك البرودة، وهم مستعدون ان يقايضوها ببترولهم اذا اقتضى الامر لو وجد مثل هذا العالم ومثل تلك الصفقات في دنيا الاعمال.

للفصول والمواسم ازياؤها، مثلما للمناسبات المتنوعة التي يعيشها الانسان في دورات حياته. وللاعمار ايضا ازياؤها، ولبعض المهن كذلك. قد تختلط الازياء في بعض المواسم والمناسبات، وهي كثيرا ما تحدث، فيختلط الحابل بالنابل، الوان فاقعة، والوان داكنة، واخرى فاتحة، على اجساد اخذت يصيبها الترهل، لكثرة وجبات الرز والتشريب بانواعه التي يدمن عليها العراقيون.

للبيوت والمكاتب ازياؤها ايضا، اذا جاز لنا أن نستعير هذا التصيف على الجمادات مثلما هو على الانسان، المفروشات الارضية والاغطية السميكة من بطانيات ولحف، هي الزي الشتائي لكل منزل عراقي، وهي ترفع من اماكنها عند اول لفحة من هواء ساخن يمر في نهارات العراق او ليله.

موسم المبردات والمكيفات والسبالت (جمع سبلت) يبدأ بالحضور عند اول زخة لاهبة من زخات الشمس العراقية... لا مفر من تلك الشهور، مهما حاولت واستمت في المحاولات، لا ظل لشجر في الطرقات قد يحميك، لا اسواق مكيفة بالهواء البارد قد تلجأ اليها عند قيامك بعملية الشوبنغ، لا نافورات للمياه في الشوارع والساحات العامة تبترد بها وبرذاذها المتطاير، فقط انت واشعة الشمس الحارقة واسفلت الطريق... ورغم هذا تجد العراقيين يخرجون الى اعمالهم، ويتسوقون، ويمارسون انشطتهم المتنوعة، رغم هذا يوصدون اجسادهم عن الحرارة اللاهبة.

ظاهرتان شديدتا الحضور في العراق، ولن تجدها في اي دولة في العالم، هما وجود تلك الكميات من الاسلاك الكهربائية الممتدة على طول الشوارع والازقة والدرابين (الحارات) ووجود الحواجز الكونكريتية (الصبّات: وهي جمع صبّة) في الشوارع وبينها، امام الدوائر والمدارس والمستشفيات وخلفها، تحيط بالاسواق وبالاماكن الحساسة، وتلف وتلتف على جميع التفاصيل ولا تستثني شيئا، مثلها مثل الاسلاك الكهربائية التي توفر الطاقة الكهربائية البديلة من المولدات الاهلية، عوضا عن الكهرباء الوطنية.

يطرح الباحث النفسي العراقي فارس كمال نظمي رؤية مستمدة من مدارس التحليل النفسي التي تراقب وتبحث في السلوك البشري، وهو يطرح رؤية نفسية حول (سيكولوجيا قطع الكهرباء عن الروح العراقية) في كتابه الذي حمل عنوان (الاسلمة السياسية في العراق. رؤية نفسية) يقول: فيما يسمى بجداول القطع المبرمج للكهرباء هو في جوهره تطبيق مبتكر لجداول التعزيز التي اكتشفها عالم النفس السلوكي الامريكي بور هوس سكنر مستخدما اياها ببراعة كبيرة في تشكيل سلوك الحيوانات كالفئران والحمام معمما هذا التكنيك فيما بعد على السلوك البشري ضمن ماصار يعرف بمذهب (الحتمية الاجتماعية) اذ يقول سكنر ان السلوك البشري جبري تحدده الاحداث البيئية، اما حرية الانسان فمحض وهم.

يقصد بجداول التعزيز ان تقدم مكافأة للكائن الحي حينما تتبدى منه عفويا استجابة معينة خلال مدة زمنية ثابتة او متغيرة، او بعد ان يكرر تلك الاستجابة لعدد ثابت او متغير من تلك المرات. وعندها سيتشكل سلوكه تدريجيا وتلقائيا كما تتشكل قطعة النحت باصابع النحات، عبر مسارات يحددها مهندس السلوك المختص.

وقد جرى فعلا تشكيل جزء مهم من السلوك الاجتماعي للعراقيين ضمن جداول ترويضية غير ثابتة زمنيا مماثلة لجداول سكنر، بوشر بها منذ عقدين من الزمن اذ فقدوا مرونة الكينونة الحياتية التلقائية المسترخية التي تتيحها الكهرباء الدائمية التدفق واصبحوا يقننون كل مواقيت نشاطاتهم اليومية على نحو وسواسي – قهري رتيب، بانتظار مجيء الكهرباء بوصفها الجائزة التي تهون من اجلها كل انواع المعاناة التي تسبقها.) الى هنا ينتهي كلام الباحث العراقي.

اعود الى الظاهرة الثانية، وهي كثرة الصبات في الحياة العراقية اليومية، والتقط من تحليل الباحث ذلك الوصف الذي اطلقه على السلوك اليومي الكهربائي للعراقيين، وهو الوسواس القهري.

وهو يمتاز بعدد من الاعراض:

الأول يحتوي على الوساوس والشكوك الفكرية، والثاني يحتوي على العادات والسلوكيات والتي تترتب على هذه الوساوس.

الوساوس الفكرية هي أفكار أو صور ذهنية أو نزعات تتكرر وتتطفل على العقل بحيث يحس الشخص أنها خارجة عن سيطرته، وتكون هذه الأفكار بدرجة من الإزعاج بحيث يتمنى صاحبها مغادرتها من رأسه، وفي نفس الوقت يعرف صاحب الأفكار أن هذه الأفكار ليست إلا تفاهات أو خرافات. ويصاحب هذه الأفكار عدم الارتياح، والشعور بالخوف أو الكراهية، أو الشك أو النقصان.

المصابون بمرض الوسواس القهري يحاولون التخلص من الأفكار المتكررة عن طريق القيام بعادات اضطرارية، وتكون هذه العادات قائمة على أسس معينة، والقيام بهذه العادات لا يعني أن القائم بها مرتاح من قيامه بها، ولكن العمل بهذه العادات هي مجرد الحصول على راحة مؤقته من تكرار الوسواس.

هذه الحالة اشد ما تنطبق على العاملين في السيطرات من قوى الامن الداخلي او قوى الجيش، الذين يقومون بحركاتهم الاضطرارية كل ساعة من ساعات واجباتهم في تلك السيطرات، وهم يتفننون في ابتداع الكثير من تلك الحركات الاضطرارية، احدها ما شاهدته يوم الاثنين الماضي حين قام افراد السيطرة الموجودة في ساحة الوثبة والذين يقومون بتفتيش الذاهبين الى محلات الشورجة من جهة واحدة (الجهة الثانية تستطيع السير فيها دون تفتيش، لا تسألوني عن سر ذلك) ابتدعوا حركة جديدة وهي تفتيش الخارجين من خلف الصبات، نعم دون مبالغة او تجني، يقال ان هناك تعليمات جديدة.

وغير ذلك وتزامنا مع بداية القيظ الصيفي في العراق، ابتكروا حركة جديدة، بعد ان سمعنا في وسائل الاعلام ان هناك الكثير من الشوارع سيتم رفع الصبات منها وتيسير حركة المرور فيها، لكنهم في واقع الحال ابدلوا الصبات المرتفعة القامة والتي تشبه المعاطف الشتائية بصبات قصيرة القامة، تشبه القمصان والدشاديش نصف الاكمام التي يرتديها خلق الله في موسم الصيف... وهو تشبيه لا يجافي الحقيقة، لكل مهتم بالازياء وموديلاتها التي تحدثنا عنها في بداية السطور.

صبات نص ردن، هي الزي الجديد للشوارع العراقية في موسم الصيف، تتيح لك رؤية ماكان خلف تلك الصبات العالية، اليست ملابس الصيف تكشف الكثير مما غطاه الانسان من جسده في موسم الشتاء؟

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 5/آيار/2012 - 13/جمادى الآخر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م