النصوص في بعديها الحرفي والتاريخي ودلالاتها المنطقية..

هلال آل فخرالدين

تميزت الرسالة الاسلامية عن غيرها بالعالمية والخاتمة لما تحمله من مرونة التشريع بوجود مساحة ثابته ومساحة متحركة وفراغ يجال فيه الاجتهاد والاستنباط واعمال العقل تبعا للزمان والمكان ومتطلبات الحياة وتطور المجتمعات.. لكن السلفية تتعمد الاساءة للرسالة بسحب فتاوى القرن الثاني الهجري على العصر الحديث بدعاوى الالتزام بالنصية والنقل الحرفي.

ومن تداعيات مدرسة السلفية هذه ارتكاب الكثير من الجرائم في فهم النصوص القرآنية والاحاديث النبوية من قبل بعض اصحاب الفتوى في السابق واستمرارها لحد الان بوسائل مختلفة واليات متنوعة تبعا للظروف وحسب الاحداث في عصرنا الراهن حيث ازدهرت سوق فتاوى الجماعات المتأسلمة التي تصورانهم يقاومون انظمة الكفر وان كانوا مسالمين باستحلال دمائهم واموالهم ونسائهم وطالت الابرياء العزل شيوخا ونساء واطفال.

 والخطأ انهم يرجعون في فتاواهم الضالة المتحجرة الى كتب فقهيه تتضمن هذه الاحكام التي استنتجها الائمه السابقون في عصورهم التي كان واقعها السياسي يختلف عن الواقع السياسي لعصرنا.. وكذلك فقد اعتمد ائمه القوم على آيات قرانية واحاديث نبوية بعينها ولكن تختلف باسبابها وتأويلها فظهرت طامات التشبيه والتجسيم والتكفير لعامة المسلمين يقول الفيلسوف (نيتشه): إن من يعيش تجارب رهيبة خلال حياته يصبح رهيباً هو ذاته.

وهذا موضوع خطير جدا وحساس للغاية يتطلب من المرجعيات الدينية وهيئة الافتاء ومجمعات البحوث والعلماء المسلمين واصحاب الفكر والوعى جميعا وقفه جريئة وبالخصوص علماء العقيدة والفقه والحديث والتفسير لتفادي هذه الظاهرة المستشرية ولبيان ماحل بامة (اقرأ) امة العلم والتفكر والتدبر امة الامر بالمعروف من نكبات وبرسالة الناس كافة من تشويه وبرسول الرحمة من طعون من جراء الفهم الخاطئ وتلك التطبيقات المنحرفة ويكفينا ما لحقنا من تبعات الماضي وانحراف السلف من ويلات الانغلاق والجهل والاستبداد حتى نظيف عليها مايسعر لهيبها ويطول اوارها.

ونحن وان نعترف بصحة الكثير من تلك الاحاديث وانها وردت في كتب الصحاح والسنن في الغالب فهي في معظمها وردت في مجال السياسة الشرعية التي كان الرسول (ص) يراها في ضوء الموقف السياسي الذي يعيشه اي حسب الواقعة التي ورد الحديث بسببها وهي تشبه سبب نزول الآية. حيث لابد من مراعاتها عند الافتاء او الاستنباط الاجتهادي لان تجاهل سبب النزول بالنسبة للآية القرآنية او سبب الحديث او المناسبة التي ورد فيها يؤدي الى اخطاء في الاستنتاج وتجاهل الظروف التي احاطت بالآية او الحديث وتطبيقها على واقع مختلف عن الظروف او الواقع الذي نزلت فيه قد يخرجها عن مضمونها ويحيد بها عن مقصدها فيخطئ المفتي عندئذ في فتواه وقد يؤدي هذا الاجتهاد المغلوط او الفتوى المخطئة الى كوارث جمة وجرائم شتى بسب اختلاف الواقع الحاضر عن الواقع الذي نزلت فيه الآية او قيل فيه الحديث.

 والذي أؤكد عليه انه لايفهم حديثي هذا فيما يسمى بتاريخية النصوص وما يرتئيه البعض ضمن قصر تطبيق النصوص القرآنية او الاحاديث النبوية على الواقع الذي نزلت فيه كما يرتئي ذلك بعض مثقفينا وكذلك بعض المستشرقين.

 ان تاريخية النص كما يفهمها المستشرقون او المفكرون العصريون تؤدي الى تعطيل كثير من احكام القران والسنة وذلك من جراء قصرها على الواقع القديم الذي نزلت فيه الآية او مناسبة الحديث ومن عدم سريانها الى واقعنا باطلاقه ومن ثم تنحصر الآيات والاحاديث بهذا الواقع القديم فقط ويترتب عليه تعطيل الكثير من احكام القران والسنة.

وهذه الصورة غير صحيحة وخطا محض لانه يعني ان الاسلام نزل بعصر مضى وانتهت احكامه بانتهاء تلك الفترة وانه ليس دينا صالحا لكل زمان ومكان وانه دين فترة معينة هي حالة نزوله ولتلك البيئة التي حل بها. وهذا يلزمه ان يحل محله الرأي والعقل محل الآيات والاحاديث ومن ثم لم تعد ثمة حاجة الى النصوص لانها وفق هذه النظرية التاريخية فرغت النصوص من محتواها وافقدتها فاعليتها.

واذا كانت (حرفية النص) مجردة من اعتبار الواقعة او الظرف الذي نزلت فيه وتطبيقه حرفيا على واقعنا المختلف دون مراعات سبب او ظرف نزولها نظرية غير صحيحة ومحكومة بالخطأ. فان النظرية الاخرى (تاريخية النص) اذا قصر تطبيقه على اسباب نزولها وحسب ظرفها الذي نزلت فيه دون شمول سريانها الى سنخها او ما يماثلها من الوقائع المعاصرة والمماثلة اشد خطأ.

وهذا بدوره يدلل على ان كلتا النظريتين (حرفية النص) و(تاريخية النص) غير سليمة ومتطرفة فالاولى تطرف بالافراط والثانية تطرف بالتفريط.

ذلك ان نظرية (حرفية النص) تاخذ النص بحرفيته وتهمل دور الاجتهاد او اعمال العقل في استنباط الاحكام الشرعية من مضانها.

كما وان النظرية الثانية (تاريخية النص) تعتمد على الاجتهاد العقلي من دون مراعات النص او تلغي دوره في التشريع.

وكلتاهما تتجاوزان الحلقة التي لابد منها في التشريع وهي الربط بين النص والواقع في التشريع الاسلامي وتجاوز هذه الرابطة هو بالاساس وبالتحديد منشأ الخطأ بين المتعصبين والمتساهلين او بين المتطرفين بالافرط والمتطرفين بالتفريط.

 وان ما نؤكد عليه ان يرعى اسباب نزول الآيات واسباب ورود الاحاديث عند فهم النص القرآني والحديث النبوي وتعرف ظروفها وملابساتها التاريخيه وتراعى في تطبيقها على الواقع التي تحدث في عصرنا وتقع سنخية مع اسباب النزول او ظرفيه الواقعة. بحيث يشترط عند التطبيق لأي نص امران اساسيان:

اولا: فهم النص في ضوء سبب نزوله.

ثانيا: فهم الواقع في ضوء سنخيته او عدم سنخيته بسبب النزول. وبعد رعاية هذين الامرين الاساسيين تأتي خطوة التطبيق عندما يتأكد العقل ان الواقعة التي يراد تطبيق النص عليها مشابه للواقعة التي هي سبب نزول النص.

مع العلم ان بعض من النصوص تحكمت فيه اجواء ظروف دقيقة وحساسة خاصة بتلك المناسبة كالتقية مثلا ولمن يبغي المزيد في هذا المجال فعليه بالبحث الرائع للعلامة الشيخ يوسف البحراني في مقدمة موسوعته الفقهية (الحدائق) والملاحظ هنا ان هذه القضية عملية مركبة يجتمع فيها العقل والعمل.

 اي التعمق في اعمال الفكر في فهم النصوص واعمال هذا الفكر المتعمق في فهم الواقع وادراك الحلقة او الرابطة بين الواقعة القديمة والواقعة المعاصرة ومدي السنخية او التماثل بين الحالتين ثم اجراء العمل لصياغة الحكم بتطبيق النص على الواقعة المعاصرة واليات هذا التطبيق فهي كما رايت عملية في غاية الصعوبة والدقة كما انها معقدة غايه التعقيد لايقوى عليها الا اصحاب الاختصاص ومن استأثر بملكات الفهم والية المعرفة.

فهي تستدعي لمن يقوم بها ان يمتلك مؤهلات وباع طويل في فهم النصوص ومعاني الالفاظ ودلالاتها وهما من اختصاص علم (اصول الفقه) والفقه ويمتلك الية الاجتهاد ويلزمها احاطة بالتفسير والحديث موضوعا وسندا والعقائد واللغة والمنطق.

 ويلازم ذلك احاطة باحكام القران وفهم لغة خطابه واستيعاب نكاته واطلاع بمكنونه وغوامضه وعلم بناسخه من منسوخه ومحكمه من متشابهه وعمومه من مخصوصه ومطلقه من مقيده ولكونه دستور الله وخزانة الاسلام كما لا يخفى على المتصدي ان يكون متضلعا في علوم الحديث النبوي وعارفا بالرجال ومحققا في الرواة.

كما تحتاج الى ادراك عميق وحذق واسع في فهم العلاقة بين الوقائع والظواهر والاسباب والمسببات ومناهج البحث والعلوم الانسانية وبخاصة الفقه المقارن والتاريخ والسياسة والاجتماع لذلك نلاحظ انه لايقوى على هذه العملية الاجتهادية المعقدة في الافتاء الا النزر اليسير ممن حاز الكثير الكثير من النبوغ العقلي والية الاستنباط ممزوجا بالتقوى ومباركة من لدن الله جل وعلى، ولهذا لا نرى في كل عصر من العصور الا ثله قليلة يجود بهم الزمان لتولي ناصية الافتاء.

اذا فما بالنا اذا تجرأ على القيام بهذه المهمة الخطيرة -كما نلاحظ في عصرنا الحاضر – شباب مراهق متحمس لا يملك من كل تلك المقومات التي اشرنا اليها. اللهم الا من اندفاع وحماس الشباب، او مايدعيه بعض المغامرين من المعممين او المتزيين بلبوس الثقافة والفكر والكتابة الخائضين مع الخائضين في معترك هذا السوق النافق في عصرنا الحاضر وكل يدلي بدلوه من غير ان يملك من المقومات الموصلة او الوسائل المؤدية اليها فيخبطون خبط عشواء بين مغرب ومشرق وذلك عندما يدعي العلم غير اهله فعلى الاسلام السلام.

وعند اذ تقع الطامة الكبرى لحصول الخلط في الفتاوى والجريمة في اصدارها وجرائم ترتكب في تطبيقها وافظعها واشنعها وامضها جنايات وجرائم ترتكب باسم الاسلام والدين والشرع المحمدي الحنيف وهم منها براء من جراء عدم التمييز بين الحرفي والتاريخي للنصوص ودلالتها المنطقية.

hilal.fakhreddin@gmail.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 3/آيار/2012 - 11/جمادى الآخر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م