القدس ليست بحاجة لفتاوى بل لإعمار وتحرير

د. إبراهيم أبراش

لم تعد الحروب والصراعات حول المصالح اليوم تُقاد من السياسيين والجنرالات العسكريين فقط بل من قيادة رباعية: السياسيون وجنرالات الجيش ورجال الدين ورجال الإعلام. والفتوى بتحريم زيارة المسجد الاقصى وهو تحت الاحتلال ليست مجرد فتوى دينية بل جزءا من صراع مصالح في الشرق الأوسط، فخلف هذه الفتاوى تكمن دول ومصالح وليس ابتغاء مرضاة الله.

اليوم أصبحت بعض الفتاوى الدينية تسيء للدين وتنتهك سيادة الدول وتمتهن العقل، وبتنا نعيش زمنا أختلط فيه الدين بالسياسة اختلاط الحابل بالنابل، مما جعل المواطن العربي المسلم لا يميز بين المسجد والمنبر السياسي، بين رجل الدين والزعيم الحزبي، بين المقدس وغير المقدس، بين الحلال والحرام، بين الاحكام الشرعية والأحكام الوضعية والهلوسات الدينية الخ، وأصبحت الفتاوى تنهال علينا من كل حدب وصوب لتمس صميم حياتنا وقضايانا الوطنية.

بعض الفتاوى بالنسبة للبعض من المفتين والمتلقين بات لها الأولوية على مصادر التشريع الإسلامي الرئيسية من قرآن وسنة، وعلى مصادر التشريع الوضعية من دستور وتشريعات.

تاريخ المسلمين المعاصر حافل بوقائع مشابهة وصلت فيها الأمور لحد الفتنة وقتال المسلمين بعضهم بعضا. مثلا: تعارض الفتاوى بشأن الذين يُقتلون في عمليات تفجيرية داخل إسرائيل، هل هم شهداء أم يقومون بالانتحار المُحَرَم في الإسلام؟ وقياسا عليها العمليات (الجهادية) التي تمارسها جماعات دينية في بلدان المسلمين؟، وهل استعانة المسلم بغير المسلم لقتال المسلم حلال أم حرام؟ - التحالف مع واشنطن والنيتو لقتال صدام واحتلال العراق، ومن بعد التحالف معهما لقتال القذافي، والمطالبة بالتدخل الاجنبي في سوريا -، وهل أصحاب الديانات الأخرى كفرة يجب قتالهم حتى يسلموا؟ ام أصحاب كتاب تنطبق عليهم الآية الكريمة " لكم دينكم ولي دين "؟، وهل المواطنون من غير المسلمين في بلدان المسلمين لهم ما للمسلم وعليهم ما على المسلم من حقوق وواجبات؟ أم أنهم اهل ذمة وعليهم دفع الجزية؟.

ناهيك عن مئات الفتاوى في الاجتماع والاقتصاد وفي الحرب والسلام، التي أثارت الفتنة اكثر مما انارت الطريق.

لو كان الامر يتعلق بمجرد تعدد واختلاف الآراء و مجرد إبداء رأي يفيد القضية محل النقاش ويشرك العقول في استجلاء الامر والبحث عن الحقيقة لهان الامر ولانطبق عليها قول الإمام الشافعي رحمه الله: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ". لكن عندما تأتي الفتوى من شخص ذي هوى أو متعصب لفرقة أو جماعة أو تكون فتوى مأجورة لصالح جهات خارجية، مما يؤدي لإثارة الضغائن والفتن، وعندما يقابلك صاحب الرأي المقابل بزعم انه يتحدث باسم الدين والشريعة ويضفي القدسية على رأيه، حينئذ يتوقف الحوار العقلاني وتصبح المناظرة بين مؤمن وكافر من وجهة نظرهم، آنذاك يجب مواجهة هذه الفتاوى ومن يفتون بها وتجريدهم من اية شرعية دينية، ويجب ألا يُبنى على فتواهم أي ترتيبات ومكاسب سياسية أو اجتماعية.

المُفتون والمجتهدون القائلون بأنهم يطبقون الشريعة او يريدون تطبيقها أو يواجهونك بمقولة (الإسلام هو الحل) لا يدركون او يدركون ولا يريدوا ان يعترفوا، ان هاتين المقولتين (تطبيق الشريعة) و (الإسلام هو الحل) مقولتان لا تعنيان شيئا، او مجرد شعار يخفي ما وراءه، إنهم في الحقيقة يريدون تطبيق رؤيتهم وتفسيرهم للإسلام والشريعة وليس الإسلام والشريعة، وشتان بين الأمرين، فنصوص الشريعة لا تطبق من تلقاء ذاتها، ولا تنطق ولكن ينطق بها الرجال، وهذا يذكرنا بما جرى في واقعة التحكيم بين علي ومعاوية عندما رفع أنصار الثاني القرآن على أسنة الرماح مطالبين بالاحتكام له فرد علي كرم الله وجهه بما معناه "إنما تلك صحائف ينطق بها قلوب الرجال " – مع تعدد الروايات بهذا الشأن -.

وللأسف بتنا نعيش اليوم زمنا سَبَقَ فيه الجاهل العاقل في التسرع بالإفتاء والاجتهاد في عظائم الأمور من سياسية واقتصادية واجتماعية، وبات شيوخ ورجال دين تحت طلب أنظمة وأحزاب ويقدمون فتاوى مقابل منافع ومصالح مادية، فتاوى تثير الفتنة وتشكل تعديا على سيادة الدول والمجتمعات، كما أنها تسيء للعقل حيث يفتي جهلاء في مجالات من غير اختصاصهم وينَصِّبون أنفسهم كخبراء في كل شيء.

إن ظاهرة الإفتاء والاجتهاد بدون ضوابط أو مرجعية جامعة أصبحت تخلق مشاكل تتعدى الاهداف السامية لفكرة ومبدأ الاجتهاد، وأصبحت ترمي لأهداف سياسية خالصة، والسياسة مصالح.

إن أخطر وجوه الإفتاء ذاك الذي ينتهك سيادة الدول والمجتمعات، حيث بعض رجال الدين يتجاهلون واقع الامة الإسلامية كدول ومجتمعات لها سيادتها ولها خصوصياتها ومؤسساتها المكلفة بإدارة امورها، وهناك دساتير تنظم علاقة الأفراد بعضهم ببعض وعلاقتهم بالدولة، كما يوجد قانون دولي واتفاقات دولية تنظم علاقة الدول وبعضها بعض. هؤلاء المفتون يتصرفون ويفتون وكأن هناك امة إسلامية واحدة وينصبون أنفسهم مشرعين لها، وهذا يعتبر انتهاكا لسيادة الدول وتحقيرا لمؤسساتها الشرعية وتدخلا في شؤونها الداخلية، أولئك المفتون الذين ينطبق عليهم المثل:(لا خير منهم ولا كفاية شرهم)، ويخفون عجزهم عن القيام بواجبهم الديني والقومي عمليا، بالتنطع بإصدار فتاوى لا تخدم الدين ولا القضية التي يفتون بشأنها.

وبالعودة للإفتاء بشأن زيارة المسجد الاقصى، نتساءل: هل قضيتنا تكمن في احتلال المسجد الأقصى فقط؟ أم في احتلال القدس ومجمل فلسطين؟. هل أن النخوة والحمية الإسلامية تثور فقط لزيارة مسلمين للأقصى ولا تثور والقدس تُهود والاستيطان يبتلع الضفة الغربية قطعة قطعة؟. وكيف يُجيز البعض تحريم زيارة الأقصى الخاضع للاحتلال ولا يفتون بتحريم زيارة أولياء نعمتهم لفلسطين المحتلة سياحة وعلاجا وتجارة؟ وتحريم السماح لقادة مَن يحتلون الأقصى وفلسطين ويقتلون الفلسطينيين بزيارة قطر وغيرها من البلدان التي يستظل شيوخ الإفتاء بظلها ويحاربون بسيفها، ولماذا لا يفتون بتحريم إقامة علاقات اقتصادية وتجارية بين الطرفين وفتح مكتب علني للتمثيل التجاري في الدوحة والذي يخفي علاقات ويمارس نشاطات أكبر من التجارة.

 كنا نتمنى من فضيلة الشيخ القرضاوى كما أفتى بجواز التدخل العسكري الاجنبي ضد حكام مستبدين في ليبيا أو سوريا، ان يفتي بحشد الجيوش الإسلامية ويطالبها بالزحف لتحرير المسجد الاقصى والقدس من الاحتلال الصهيوني، ولا نعتقد ان خطر الحكام المسلمين، وإن كانوا مستبدين، على الإسلام والمسلمين، اكبر من خطر إسرائيل والصهيونية العالمية وحليفتهما الولايات المتحدة الامريكية.

لا نشجع الفتوى التي تحلل زيارة الأقصى ولا التي تحرم الزيارة، لأننا نفضل التعامل مع الموضوع سياسيا وعقليا من خلال البحث فيما يفيد القضية الفلسطينية ويخفف المعاناة عن اهل فلسطين وفي مقدمتهم أهل القدس.

إن تجزئة القضية الفلسطينية واختزالها بقضية المسجد الاقصى فقط كما جرى قبل ذلك عندما تم اختزالها بغزة، أمر خطير لا يخدم الفلسطينيين بقدر ما يخدم الجهات الخارجية التي تبحث عن انتصارات صغيرة لتخفي عجزها وتهربها من واجب تحرير فلسطين، أو مساعدة شعبها وأولي أمرها على تحريرها. ولا نعتقد أن مجرد إصدار فتاوى ستحرر أرضا أو تمنع إسرائيل من استكمال تهويد القدس والحفر تحت المسجد الاقصى وتدنيسه بأحذية المتدينين والجنود الصهاينة.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 30/نيسان/2012 - 8/جمادى الآخر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م