مافيات ومدينة

صلاح حسن الموسوي

يستعير عالم الاجتماع الشهير (اميل دوركهايم) مفاهيم علم البايولوجي في مقارنته بين المدن البسيطة والمدن المعقدة، حيث يشبه الأولى بكائن الهايدرا الذي يقترب بتركيبه البسيط من الحيوانات وحيدة الخلية، وميزته الاستمرار في الحياة حتى لو قطع الى نصفين حيث يعيش كل نصف على حدة، بالمقابل يشّبه المدن المعقدة بالحيوان اللبون الذي يعد الأرقى والأكثر تعقيدا في سلسلة الكائنات الحيوانية، ولكن يمكن قتله بسهولة عند الأضرار بأحد أعضائه الحيوية، كالطير الذي يموت عند كسر عنقه، ويضرب دوركهايم مثلا مدينة (مانشستر) اشهر مدن صناعة المنسوجات في بريطانيا حيث يمكن القضاء عليها عند استهدافها بعصب صناعتها وهو منتوج (القطن).

نوع الحياة هو الميزة وليست الحياة بذاتها، ويثبت الواقع يوميا ان الحرية التي تعد أسمى المطالب البشرية تتوفر في أنماط الحياة المتطورة والمركبة وليست في الأنماط البسيطة التي يغلب عليها جو الشحة والجهل والسعي الغرائزي اليومي في سبيل سد الرمق.

وبالتطبيق على مدننا التي لا تفرق عن القرى الكبيرة بالسوء الشديد للخدمات، ومجاورة مناطق (التلوث الإشعاعي) التي حصدت بسرطانتها الغريبة ارواح الآلاف من اطفال وصبية وشباب وشيوخ العراق. نجد في مدينة مثل الناصرية ان سعر المتر الواحد من الأرض يصل الى قيمة الـ (3000) دولار أي يساوي تقريبا ما موجود في مناطق العواصم الأوربية الكبرى، وهذه مفارقة صارخة دائما ما تثار بالسؤال من قبل المواطن البسيط الحالم باستقرار عائلته، وتتعدد الأسباب لذلك في اجابة دلاّلي العقارات بالانفجار السكاني واثار التهجير الطائفي من بقية مناطق العراق، وانا اجتهد بتفسير هذا الصعود الجنوني لعقارات الناصرية، بحمى تبييض الأموال الناتجة من حمى نهب الدولة، حيث لا يوجد نظام مصرفي متطور كالذي في البلدان الرأسمالية تلجأ اليه مافيات الجريمة المنظمة في تبييض اموالها، ويكون عندنا البديل الاستثمار الشخصي او عبر الأقرباء في العقار و(بدون وجع قلب) حيث يعتبر العقار (رأس مال ثابت) تزيد قيمته بمرور الزمن، ودائما ما تعد الرأسمالية العقارية متخلفة وتتسبب بأضرار مستديمة على اقتصاد البلد مقارنة بالرأسمالية الصناعية او السلعية.

قديما قال المفكر العربي شارل عيساوي ان السلطة في مجتمعاتنا هي السلاح الأقوى للفقير، ارتبط تاريخ العراق بكون السياسة وليس الاقتصاد هو طريق الصعود الطبقي، وابتلى العراق في حقب سوداء من تاريخه بأنواع من حديثي النعمة لا توجد بينهم وبين الأخلاق أي رابط، كتجار الحصار وحواسم الكويت ومافيات المصارف.

وكل هؤلاء هم حصيلة السياسات اللا مسؤولة للحكام، وما يجدر بحكامنا الحاليين في المركز والمحافظات، وفي ظل الحديث المستمر عن قيّم سياسية راقية كالديمقراطية والفيدرالية، الاعتراف العملي لمواطنيهم العراقيين بالحق الانساني والسكن في مدن تليق بآدميتهم، وتفي بحقهم في ثروات بلادهم التي ترجمتها الميزانية المالية الوطنية الى ما يزيد عن الـ 100مليار دولار، وهذه تفوق ميزانيات أكثر من ست دول عربية مجتمعة، ولكن الزائر العراقي لبعض مدنها يصدم بالفارق العمراني والحضاري ولصالح تلك البلدان، والذي يشبه في اغلب الأحيان الفرق بين مدن إفريقيا الفقيرة ومدن أوربا.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 26/نيسان/2012 - 4/جمادى الآخر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م