لغة الخطاب السلفي

سدنة مدرسة (السقيفة)... إغتيال للشرع والغاء للفكر وقمع للعقل ووأد للتراث

هلال ال فخرالدين

تتصف المؤسسة الدينية لمدرسة السقيفة بظاهرة واضحة وغريبة جدا من تأويل النصوص المقدسة وتطويعها وحتى تزييفها او طمسها حسب الطلب حتى وان جانب الحق وخرج عن الشرع في عبودية تامة للسلطان اولا.

 وثانيا: تبرير لكل اثم وعدوان تبعا للتعصب والهوى وهذا ديدن فطموا عليه للاستقواء على الاخر لعجزهم من التوفيق ما بين النصوص وواقع احوال سياسة البغي والعدوان للخلفاء من جهة ومن جهة اخرى ما ارتكب بحق الامة من انتهاكات وما احاق بالمعارضة من مجازر وعسف تستنكره الشريعة وترفضه سيرة النبي المختار(ص) وذلك نتيجة لما تشرنقوا داخله وحشروا انفسهم في شركه وتعاملهم مع الحقيقة ومنطق العلم بمنطق المهزوم الذي ينسحق داخله عند التحدي ويفضل الارتداد خلفا بدلا من التقدم عن احساس عميق بالعجز والاحباط وثقة غابت بالنفس لجحودها الحق وهو به مستيقن فتصارعه هواجس العصبية ومطامع الدنيا فيبرر ويبرر ويماري ما شاء له ان يماري عن قلقية واضطرابات الذي يقود الى فساد النتاج والتواء المنهج..

 مما حدى بالمفكر الاسلامي المصلح الامام محمد عبده ان يشن حربا شعواء على مرتزقة المعممين الذين هم السبب في بقاء جور الظالمين بما يبرر لهم جرائمهم واستمرار كابوس التحجر يقول( والسبب في بقاء قوة السلطان الخلاف والنزاع وتفشى الجهل وتعصب اهل الجاه من العلماء لمذاهبهم التي ينتسبون اليها وبجاهها يعيشون ويكرمون وتايد الامراء والسلاطين لهم والاستعانة بهم في اخضاع العامة وقطع طرق الاستقلال العقلي على الامة لان هذا أعون على الاستبداد واشد تمكينا لهم مما يحبون من الفساد والافساد...فاتفاق كلمة علماء الامة واجتماعها على الحق كذا بدليل كذا ملزم للحاكم باتباعهم فيه لان الخواص ضعيفة).

ويقول العلامة العز بن عبد السلام في استنكار التقليد والتنديد بالتعصب الاعمى (الى ان ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلدين فان احدهم يتبع امامه مع بعد مذهبه عن الادلة مقلدا له فيما قال فكانه نبي أرسل إليه وهذا نأى عن الحق وبعد عن الصواب لايرضى به احد من اولى الالباب ) انظر عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد للدهلوي ص12

فضائح وتناقض لأساس المذهب

من المعلوم ان كان انبثاق مذهب ابى حنيفة في العراق (الكوفة) كردة فعل على الاتباع والتقليد وعلى اساس مدرسة (الرأي) أي إعمال العقل واجالة الفكر في مقابل مدرسة (النقل) النصية وتراث الصحابة والحشو التي تزعمها الامام مالك في المدينة وحيث كان لظهور مدرسة الرأي اثر كبير في حرية واتساع دائرة الفقه في الاستنباط ومواكبة التطور مساوقا للاجتهاد والمعروف عن ابى حنيفة انه لم يصح عنده من الحديث النبوي الشريف الا العشرات بل وكثيرا ماكان يستهزأ بالذين يأخذون بأقوال او فتاوى الصحابة والتابعين على انها سنة محكمة او فريضة متبعة حيث يقول: (هم رجال ونحن رجال ) لكون اقوالهم ليست بتشريع منزل او قول معصوم فهو يعنى انهم بشر ونحن بشر هم اجتهدوا ونحن نجتهد ولافرق بيننا.. ومن رأى احسن من قولي فليأخذ به.. وان رافق ظهور مذهبه من الطعون والتشكيك ومن قبل سدنة مدرسة السقيفة انفسهم حتى استقرت وضرب بجرانها في افاق الدولة الاسلامية بدعم واسناد من الخلافة العباسية حتى اصبحت المذهب (الحنفي) مذهب الدولة الرسمي وتتبناه وتبشر به وتفرضه على الامة بالترغيب والترهيب لتلبيته لكل اهواء ومصالح السلطان والى السلاجقة المغول والتتر الاتراك لانه يسمح بتولي خلافة المسلمين لغير العرب او بالاخص (قريش) كما اكدة ذلك النصوص النبوية الشريفة.. لكن نلاحظ ان سدنة هذا المذهب وأئمته الكبار بداء من قاضى القضاة ابى يوسف وابى ثور ومحمد ابن الحسن الشيبانى.. لكن من جاء بعدهم من ائمة السلف كرس للنقل وانقلب على اعمال العقل اطاعة للسلطان.

عمودي مدرسة السقيفة والانقلاب على الاعقاب

وحيث يبقى عميد مدرسة السقيفة المثبت اركانها والداعم لسلطانها وتسلطها من خلال نظرية الجبر الامام الأشعرى (873 – 941) وأهم أتباعه والعمود الثاني حجة الاسلام أبو حامد محمد الغزّالي (1059 – 1111م) والأشعري كان في الأصل معتزلياً، من فرقة المعتزلة (التي كانت تُعمل العقل)، تتلمذ على الجبّاني المعتزلي، غير أنه اختلف مع رفاقه من المعتزلة – لأسباب غير معروفة – وانقلب عليهم انقلاباً كاملاً، دعاه إلى يجعل من النقل سبيله، معارضةً في ذلك للمعتزلة الذين كانوا يتخذون من العقل طريقاً.

وقد أجمل الأشعري عقيدته في أن "قولنا الذى نقول به، وديانتنا التي ندين بها، هي التمسك بكتاب الله وسنّة نبيه (ص) وما رُوي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث. ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد ابن حنبل قائلون، ولمن خالف قوله مُجانبون. وأضاف "أن الله قادر على كل شيء وخالق كل شيء، وليس للطبيعة عنده فعل ما، بخلاف الإنسان الذى يستطيع أن يفعل أفعالاً يخلقها فيه الله، فينسبها الإنسان إلى نفسه ويزعم أنها من كسبه". ثم فرّق الأشعري بين كلام الله القائم بذاته وهو قديم، وبين الكتاب الذى هو القرآن، الذى أُنزل في زمن معين (وهو نفس الفارق الذى يضعه الإعتقاد المسيحى بين لاهوت المسيح وناسوته) وأكد الأشعرى على أن الوحي هو الأصل الوحيد لمعرفة الله، في حين أن العقل (اداة) للإدراك فقط، لكن العقل يستطيع إدراك وجود الله.

وقد انتهى الأشاعرة – أتباعه – إلى أن العقل لا يوجب شيئاً من المعارف، ولا يقتضى تحسيناً ولا تقبيحاً (أي لا يعرف الحسن من القبيح) وأن الواجبات كلها – تفرض بالسمع ولا وصول لها بالعقل.

ومن الأشاعرة ظهر أبو حامد الغزّالى (1059 – 1111م)، وخلاصة مذهبه – فيما يتعلق بالموضوع – أنه يرى أن الله سبب لوجود العالم، وأنه خلقه بإرادته وقدرته، وأنه إلا علّية واحدة هي علية وجود المُريد، أي الله. أما علية الطبيعة أو ما تلحظه المشاهدة من وجود علّة بين شيئين، كإضرام النار واشتعالها في الأشياء من ثم، أو إحداث إصابة تعقبها وفاة، أو رش ماء يتبعه بلل، فذلك كله أمر منكور ومردود إلى علاقة زمانية بين الشيئين، أي حدوث أمر تتابع بينهما، فليست النار هي التي أشعلت الأشياء، ولا الإصابة أحدثت الموت، ولا الماء أنشأ البلل. إنما ذلك كله تهيؤ في ذهن الناس لحدوث هذه بعد ذلك، والفاعل في الحقيقة، والسبب هو الله سبحانه، لا هذا الشيء أو ذاك. وبعد هذا الموضوع، فإن الغزّالى قال "إن انفراد الله سبحانه باختراع حركات العباد لا يخرجها عن كونها مقدورة للعباد على سبيل الإكتساب، بل الله تعالى خلق القدرة والمقدور جميعاً، وخلق الإختيار والمختار جميعاً. فأما القدرة فوصف العبد وخلق الرب سبحانه وليست بكسب له.

 وأما الحركة فخلق الرب تعالى ووصف العبد وكسب له. وكيف يكون خلق للعبد وهو لا يحيط علماً بتفاصيل أجزاء الحركات المكتسبة وإعدادها. فعل العبد وإن كان كسباً له فلا يخرج عن كونه مرادا لله سبحانه، فلا يجري في الملك والملكوت طرفة عين ولا لفتة خاطر ولا فلتة ناظر إلا بقضاء الله وقدره وبإرادته ومشيئته. ومنه الشر والخير، والإسلام والكفر. لا رد لقضائه ولا معقب لحكمه. يُضلّ من يشاء ويُهدي من يشاء. ويدل على (ذلك) من جهة العقل أن المعاصي والجرائم إن كان الله يكرهها ولا يريدها إنما هي جارية رفق إرادة العدو إبليس لعنة الله، مع أنه عدو لله سبحانه، فالجاري على وفق إرادة العدو أكثر من الجاري على وفق إرداته تعالى. (إحياء علوم الدين – طبعة دار الشعب صفحة 193، 194).

ثم أضاف الغزّالى في السبب الذى يقضى الله به بالعذاب على شخص ارتكب ما هو مكتوب عليه فعله، أو ما أمره به الشيطان (الذى هو في تقدير الغزّالى) يجرى أمره بأكثر مما يجرى وفق إرادة الله فقال: لله عز وجل إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جُرم سابق ومن غير ثواب لاحق. لأنه يتصرف في ملكه. ويدل على جواز ذلك وجوده، فإن ذبح البهائم إيلام لها، وما صُبّ عليها من أنواع العذاب من جهة الآدميين لم يتقدمها جريمة.

هذا هو موجز لمفهوم الإتجاه السلفي فهو يعتمد أساساً على النقل، ويرى أن العقل لا يميز بين الحسن والقبيح العقليين، كما يرى (الغزّالي) أن ما يظن الإنسان أنه فعل له أو قول هو في الحقيقة فعل لله أجراه على الإنسان.

وكان من مقتضى هذا الإتجاه السلفي إنكار العقل وإبطال السببية أو العلّية، والإنتهاء إلى أنهما تهيؤ للفرد. وقد أوجز شاعر هذا الإتجاه فقال: من قال بالطبع أو بالعلّة.. فهو كفر عند أهل الملة.

احوال الامة بهيمنة لغة الخطاب السلفي

عاش المسلمون أو أغلبهم بمعنى أصح في هذا البيان السلفي منذ الأشعري والغزّالي حتى وقتنا المعاصر، وكان ذلك أهم سبب لتخلف المسلمون ومعارضتهم لأى حقيقة ما دامت تخالف الفكر السلفي المذكور.

وأول ما يجب أن يهتم به الخطاب الديني الجديد هو أن ينشئ فهماً صحيحاً في مسألة الجبر والإختيار، التى رزحت على الأمة الإسلامية جبرية ثقيلة، تحول بين الأفراد والأمة وبين الفكر السليم الذى يحرر الإرادة، في نطاق الإيمان بالله، وهو الأمر الذى حاولنا معالجته – بالخطاب الدينى الجديد الذى دعا إليه (الأزهر) – في كتابينا: (مسألة الجبر والإختيار)، (العقل في الإسلام).

فقد جاء في الذكر الحكيم: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) التوبة:9، ومن هذه الآية فهم الناس خطأ أن كل فعل وأى قول مكتوب عند الله، وأن إتيان الإنسان فعلا أو قوله قولا إنما يحدث بإرادة الله، وليس لإرادته في هذا القول وذاك الفعل شيئاً، وهو ما زعمه الفكر السلفي التقليدي واعتنقه المسلمون جميعاً، منذ الأشعري والغزّالي، وحتى اليوم، الأمر الذى أدى إلى خمول الإنسان المسلم وقعود الأمة الإسلامية عن ابتدار أي فعل أو إبتداء أي قول، زعماً بأن كل شيء مكتوب "على الجبين".

لكن الذى يدعى ذلك ربما يزاحمه ويصادمه آية قال تعالى:(ومن يفعل مثقال ذرة خيرا يره ومن يفعل مثقال ذرة شراً يره) الزلزلة:7 - 8. وهى آية تفرض الجزاء - ثواباً أو عقاباً – على الفعل الذى يصدر عن الإنسان أو القول الذى يخرج منه.

لرفع التناقض الظاهري بين آيات تفيد الجبرية وآيات تقرر المسئولية، فإن ذلك يكون من خلال تقدير آخر وفهم حديث، هو أساس الخطاب الديني الجديد، ومؤداه أن الآية والآيات التي تفيد الإختيارية وتقرر المسئولية هي آيات محكمة، وهى الأصل الذى يقوم عليه الدين وينتهى إليه الشرع. فالله سبحانه وضع قانون الحياة ونظام المساءلة، وهذا هو المكتوب؛ أما الأفعال والأقوال فالإنسان حرّ فيها بقدر علمه وحرية إرداته. وقد يساءل الإنسان (أي يحدث له) ما لا يكون نتيجة لما يذكره من فعل أو قول، لكن هذه الحيرة تزول عندما يدرك الإنسان أنه مخلوق من الأزل وانه يحيا إلى الأبد، في حيوات متواصلة في المجال الأرضي أو في مجالات أخرى غير معروفة لنا بعد؛ فيُحدث فيها ما يُكتب عليه جزاءه وفقاً للقانون الإلهي. وبهذا التفسير وحده يمكن فهم آيات القرآن على أنها متكاملة غير متناقضة أو متهاترة، كما أنها تعيد الأمة الإسلامية إلى فهم صحيح. والآية (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) تدل على أن فعل القوم أو الفرد يحدث أولاً، ثم يحدث بناء عليه عمل الله فيقع التغيير.

والامام الغزالى صحاب كتاب (تهافت الفلاسفة ) الذى يرد فيه على العلامة الفيلسوف ابن رشد.. ياخذون بالنقل ويلتزمون بتراث فتاوى واراء الصحابة والتابعين وكأنها قران منزل او نص مقدس.. فاغلقوا ابواب الاجتهاد المناقض لأساس مذهبهم (الرأي)حتى طفقوا يحرمون العلوم العقلية والنظريات الفلسفية بل ويحاربونها اشد حرب ويقعدون لها ويصدون عنها في كل درب ومن ورائهم السلطان فحجروا على العقل ومنعوا الكلام وقمعوا الفكر.

فكان ظهر كتابى "أصول الشريعة" للاستاذ المستشار محمد سعيد العشماوى الذى أثار ضجة كبرى نتيجة الإحتكاك بين النقل (وهو الأسلوب الإسلامى منذ عهد أبى الحسن الأشعرى وأبى حامد الغزّالى، والعقل الذى كان أسلوباً للفقه الحنفي "نسبة إلى أبى حنيفة" ثم درس مع الأيام وتوراى تحت حجب كثيفة من التقليد والإتّباع). وفي هذا النص دلالة واضحة لما وصلت اليه مدرسة الرأي من تناقض وانقلاب على مبدئها وتحريف لمنهجها وسوف نناقش فكر احد اعمدتها الغزالى الملقب بحجة الاسلام لنلمس مدى تناقضه وتزييفه الامور بمجانبته للحقيقة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 11/نيسان/2012 - 20/جمادى الأولى/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م