|
إن دراسة الأحداث التاريخية بصفة مستقلة عن بعضها البعض، واستخلاص
أحكام ومفاهيم من حادثة تاريخية دون الرجوع إلى ربطها مع الحوادث التي
تسبقها أو تليها في حركة الصيرورة، سيؤدي إلى نتائج مغلوطة، ويفقد
البناء التاريخي نسقه، ويجعل منه ملهاة خطابية وحديث عجائز، فمثلا
قراءة الحادثة التاريخية: " لوكان سالم مولى أبي حذيفة حيا لوليته "
مستقلة تفيد مدى عدل وديمقراطية الخليفة الثاني في تولية مولى على
المسلمين، وأنه أسقط كل الفوارق الاجتماعية، وانصهرت الطبقات الهرمية
في طبقة تجعل العبد حاكما.
ولكن عند وصل هذه الحلقة مع الحلقات الأخرى ينكسر التسلسل وتظهر
التناقضات الصارخة، فالخليفة الأول في سقيفة بني ساعدة أخذ الحاكمية من
منطلق القرشية " العرب لا تدين إلا لقريش "، كلمة "لوليته" تناقض مع
مبدأ الشورى المزعوم (1) ومسرحية الشورى التهريجية التي جعلت من عثمان
بطلا لها، تناقضات مع المباني، وتناقضات مع الأحاديث الصحيحة
والمتواترة للنبي الأكرم (ص): حديث الولاية، حديث الثقلين، حديث الكساء،
حديث المنزلة....(2)، إن الوصل بين الحوادث المتناقضة تجعل الحساب
الاحتمالي معدوما، واحتمال الحوادث المستقلة يؤول إلى العدم، ومع فرضية
عدم التناقض بفرض المحال، فالاحتمال كذلك يؤول إلى العدم مع نسقية
الحوادث، وهذا بخلاف احتمال الحوادث المشروطة واللامتناقضة يؤول إلى
التوكيد الجازم وقطعية الصحة.
الحادثة التاريخية: " لوكان سالم مولى أبي حذيفة حيا لوليته "رغم
المباني الخاطئة المستخلصة منها، فهي لا تناقض الحوادث التاريخية، ولا
يمكن إسقاطها من التاريخ، فهي تحقق أهدافا غائية للخليفة الثاني
المتمثلة في هدم الثقلين وذلك بالفصل بينهما والإدعاء بمقولة " حسبنا
كتاب الله "، ولا تتحقق هذه الغاية إلا بالتنقيص من أمير المؤمنين علي
(ع)، فالرسول يقول عن علي (ع) أنه خليفته ووصيه، وعمر يستبدله بمولى
ويدعي أن بـ علي (ع) دعابة!! لا تؤهله للخلافة!! وهذا ما يثبته علي (ع)
في خطبة الشقشقية " لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وشِمَاسٍ وتَلَوُّنٍ
واعْتِرَاضٍ فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وشِدَّةِ الْمِحْنِ
حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي
أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ ولِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ
مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ
النَّظَائِرِ"، على فرض عدم موت سالم، ما كان للخليفة أن يوليه لسبب
بسيط تنفيذ أجندة العصبية القبلية (3) وهي وصول بني أمية إلى سدة الحكم
الذي بدأ مسلسله من دمشق مع عدم اجتماع النبوة والخلافة في بني هاشم.
المنهجية الخاطئة في قراءة التاريخ الإسلامي هو عدم ربطه بالقرآن
الكريم والسنة النبوية الشريفة فمثلا قراءة الحادثة التاريخية: " اللهم
أعز الإسلام بأحد العمرين "!! (4) لإثبات كذب هذا الادعاء والزيف
التاريخي المفترى على الرسول الكريم (ص)، نتدبر سورة المسد " تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ
سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ[المسد:1 - 3]"، تدفعنا هذه الآيات
الكريمة لطرح السؤال التالي لماذا لم يعلن أبو لهب إسلامه فيدحض نبوة
الرسول (ص)؟!، وهذا تعجيز لقريش وإثبات للرسالة، والسؤال الثاني هل
أجبر الله أبو لهب على كفره؟!!، تعالى الله عن ذلك " مَنْ عَمِلَ
صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [فصلت: 46]".
إن تسمية أبي لهب كنية واسمه الحقيقي عبد العزى، والله تعالى لما
ذكر أبي لهب ليس تفاديا فقط لاسم عبد العزى بل لأنه لهب فعلا، ومنه
نستخلص أن أب جهل هو الجهل بعينه مقابل العقل، ومن غاب عنه نور العقل
كيف يدرك طريق الإيمان؟! " كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا
كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14]"، فكيف يدعوا الرسول (ص) لرجل ما
شم رائحة الإيمان، فالإيمان عنده أمر عدمي، أما عمر الثاني من قبيلة
مستضعفة تعيش على هامش قريش مكانا وسيادة، وما شهد التاريخ للرجل من
بطولة ولاصولة ولا جولة، فر في أحد وما قتل أحدا في بدر، وولى هاربا
يوم حنين وخيبر، وما سمع له خبر مع عمرو بن ود.
إن توهم التناقض الظاهر لقضيتين والتسليم بإحداهما للضرورة العقلية
يؤدى إلى نتائج خاطئة، وتأخذ خطورتها في المباني العقدية فمثلا قراءة
الحادثة التاريخية: قال القاضي عبد الجبار: " سبحان من تنزه عن الفحشاء
"، فرد عليه إسحاق الاسفراييني: " سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما
يشاء"، كل من هاتين القضيتين صحيحتين، ولكن الأول يثبت بها الاختيار
على مبنى المعتزلة، والثاني يثبت الجبر على مبنى الأشاعرة، الاختيار
والجبر متناقضان، فكيف صحت القضيتين؟؟، كل من المعتزلي والاشعري ضرب
صاحبه في نقطة ضعفه، وعجز كل منهما في معالجة ضعف مبناه، كالجمل يرى
سنام أخيه وينسى نفسه، الاختيار يؤدي إلى التعطيل، والجبر يجعل الله
تعالى ظالما!!، ولا يمكن حل المسألة إلا بالعودة إلى الثقلين: كتاب
الله تعالى وعترة نبيه عليه وعليهم أفضل الصلوات" شرِّقا وغرِّبا فلن
تجدا علماً صحيحاً إلاّ شيئاً يخرج من عندنا أهل البيت".
.............................
(1) لا يوجد في السنة القولية والعملية للرسول
الكريم (ص) حديث عن نظام الشورى، وأن يكون الحكم من بعده قائم على
الشورى، وما ثبت عنه في صحيح البخاري: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (رض)
أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء، فقال:
اشتد برسول الله (ص) وجعه يوم الخميس فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم
كتابا لن تضلوا بعده أبدا فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا:
هجر رسول الله (ص)، قال: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه،
وأوصى عند موته بثلاث أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد
بنحو ما كنت أجيزهم ونسيت الثالثة "، عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبي
(ص) وجعه قال ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، قال عمر: إن
النبي (ص) غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط،
قال: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع، فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية
كل الرزية ما حال بين رسول الله (ص) وبين كتابه "، وما شهد التاريخ
الإسلامي بنظام حكم قائم على الشورى، فكانت البداية بالتمرد عن الرسول
(ص) بادعاء " حسبنا كتاب الله "، ثم تلاه كما يقول علي (ع) في خطبة
الشقشقية:" فَيَا عَجَباً بَيْنمَا هُو يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ
إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا
ضَرْعَيْهَا فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا
ويَخْشُنُ مَسُّهَا ويَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا والِاعْتِذَارُ
مِنْهَا فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ
وإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ"، والدول التي قامت على أساس الخلافة
دول سلاطين تستعبد وتستبد، كم من خليفة تربع على عرش الملك بعد أن قتل
أباه أو أخاه!!!.
نظام الشورى نصا وممارسة لم تؤيده ولا حادثة
تاريخية، فاحتماله صفر، ولا يبنى من العدم إلا العدم.
(2) أخرج أحمد بن حنبل بسند صحيح عن زيد بن أرقم
قال: نزلنا مع رسول الله (ص) بواد يقال له: وادي خم، فأمر بالصلاة
فصلاّها بهجير، قال: فخطبنا، وظلّل لرسول الله (ص) بثوب على شجرة سمرة
من الشمس، فقال رسول الله: " ألستم تعلمون؟ ألستم تشهدون أنّي أولى
بكلّ مؤمن من نفسه؟ " قالوا: بلى، قال: " فمن كنت مولاه فإنّ عليّاً
مولاه، اللهمّ عاد من عاداه ووال من والاه ". وأخرج النسائي بسند صحيح
عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال: لمّا رجع رسول الله (ص) من حجة
الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقممن ـ أي فكنسن ـ ثمّ قال: " كأنّي
قد دعيت فأجبت، وإنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الأخر: كتاب
الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا
حتّى يردا عَلَيّ الحوض "، ثمّ قال: " إنّ الله مولاي وأنا وليّ كلّ
مؤمن "، ثمّ إنّه أخذ بيد علي (رضي الله عنه) وقال: " من كنت وليّه
فهذا وليّه، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ". يقول أبو الطفيل:
فقلت لزيد: سمعته من رسول الله؟ فقال: إنّه ـ وفي بعض الألفاظ: والله،
بدل إنّه ـ ما كان في الدوحات أحد إلاّ رآه بعينه وسمعه بأُذنيه.
يقول الرسول (ص) لعلي (ع): " إن هذا أخي ووصيي
وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا "، " ألا ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة
هارون من موسى إلاّ أنّه ليس بعدي نبي ".
أخرج أحمد بن حنبل بسند صحيح عن زيد بن أرقم قال:
نزلنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بواد
يقال له: وادي خم، فأمر بالصلاة فصلاّها بهجير، قال: فخطبنا، وظلّل
لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) بثوب على شجرة سمرة من الشمس، فقال
رسول الله: "ألستم تعلمون؟ ألستم تشهدون أنّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه؟»
قالوا: بلى، قال: «فمن كنت مولاه فإنّ عليّاً مولاه، اللهمّ عاد من
عاداه ووال من والاه".
(3) أخرج مسلم في صحيحه: " حدثنا محمد بن حاتم حدثنا
بهز حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن معاوية بن قرة عن عائذ بن عمرو أن
أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر فقالوا والله ما أخذت سيوف
الله من عنق عدو الله ما خذها قال، فقال أبوبكر أتقولون هذا لشيخ قريش
وسيدهم فأتى النبي فأخبره، فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت
أغضبتهم لقد أغضبت ربك فأتاهم أبوبكر، فقال: يا أخوتاه أغضبتكم قالوا
لا يغفر الله لك يا أخي."، تمعن فى الحديث أبو سفيان شيخ قريش
وسيدهم!!، فأين موقع الرسول (ص) عند أبي بكر في قريش؟!، ولذا أغضب ربه،
هذه حقيقة إيمان أبي بكر وشاكلته من إيمان سلمان وصهيب وبلال.
(4) أخرج أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه:" اللهم
أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب، قال:
وكان أحبهما إليه عمر ". |
