الهدف من توظيف مفهوم (التنمية البشرية) في الخطاب الاقتصادي
المعاصر هو الارتقاء بالفكر التنموي من المجال الاقتصادي الضيق الذي ظل
سائداً خلال العقود الماضية إلى مجال أوسع، مجال الحياة البشرية بمختلف
أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
وارتبط مفهوم التنمية البشرية أصلاً بنظريات التنمية الاقتصادية،
وتطور هذا المفهوم مع مرور الزمن، فقد تم التركيز خلال فترة الخمسينيات
من القرن العشرين على مسائل الرفاه والتقدم الاجتماعي، لينتقل في
الستينيات إلى التعليم والتدريب والتأهيل، ثم إلى التركيز على موضوع
التخفيف من وطأة الفقر وتأمين الحاجات الأساسية خلال فترة السبعينيات.
أما في الثمانينيات فقد جري التركيز على سياسات الإصلاح الاقتصادي
والتكيف الهيكلي التي تبناها ونادى بها صندوق النقد الدولي والبنك
الدولي للإنشاء والتعمير.
يقدم تقرير التنمية البشرية الذي يصدر سنوياً عن البرنامج الإنمائي
للأمم المتحدة منذ عام 1990 إسهاماً مهماً جداً في من زاوية الاقتصاد
السياسي، حيث يعالج مختلف مسائل التنمية في العالم وبخاصة في دول
العالم الثالث، مما يستدعي متابعته عن كثـب وبجد وانفتاح وروح علمية
نقدية هادفة.
وقد جاء تقرير التنمية البشرية لعام 1996 متميزاً عما سبقه من
تقارير مماثلة في السنوات السابقة، لما بينه من صلات قوية بين النمو
الاقتصادي والتنمية البشرية.
تعد عملية التنمية البشرية حالة من التفاعل الجدلي والمستمر بين
الإنسان والمجتمع، وبين الإنسان والطبيعة. فهي تسعي إلى تطور الإنسان
جسماً وعقلاً وقدرة على المشاركة وتطوير هذه القدرة والارتقاء بها. (
ولذلك تكون التنمية البشرية ما وصلت إليه حالة التنمية في تطوير قدرة
الإنسان، وبالتالي حالة وقدرة المجتمع بصفتها الجدلية، وبوجود قدر من
التماسك بين طرفي هذا التفاعل. وعليه، فان هذه القدرات وتلك الحالات
التي يمكن تحديدها وفق أولويات معينة، تتطلب توفير معايير قياسها ).
وللتنمية البشرية جوانب اقتصادية واجتماعية وسياسية. فهي تشمل
التعليم والمعرفة، والحياة الطويلة الصحية، والسكن المقبول، وهذا يعني
مستوى معيشة لائق. إلى جانب ذلك هناك قضايا هامة جداً مرتبطة بالتنمية
البشرية كالحرية والديمقراطية، وأمن الإنسان وتطوير المجتمع المدني
وغير ذلك.
إن التنمية البشرية هي الغاية والنمو الاقتصادي هو الوسيلة
لتحقيقها. فالهدف هو إثراء حياة الناس. ويلاحظ أحيانا انعدام الصلة
التلقائية والمباشرة بين النمو الاقتصادي والتنمية البشرية. وحتى عندما
توجد صلات بينهما فإنها قد تتآكل تدريجياً ما لم تعززها إدارة ذكية
وماهرة، لذلك يجب حماية هذه الصلات خوفاً من أن تدمرها تحولات مفاجئة
في السلطة السياسية أو في قوى السوق.
ومن الضروري تطوير عملية جمع البيانات الإحصائية بالسرعة الممكنة
نظراً لأهميتها في رصد اتجاهات التنمية البشرية على الصعيدين الوطني
والعالمي. وخير مثال على ذلك الإحصاءات المتعلقة بمعدلات معرفة القراءة
والكتابة حسب العمر، أو النشاط الاقتصادي لمن هم ليسوا في سن العمل
(الأطفال أو من تجاوزوا سن العمل) وغير ذلك من الإحصاءات.
* جامعة دمشق - كلية الاقتصاد
alkafry@scs-net.org |