شبكة النبأ: عانى العراقيون طويلا من
مظاهر العسكرة، فقد مضت عقود متتابعة وشوارع المدن العراقية تغص بعناصر
الاجهزة الامنية المختلفة، حتى طغى اللون الرسمي على جميع الألوان
الاخرى، تحت تبرير (ضبط الشارع)، والامر الذي زاد الطين بلّة، أن هذه
المظاهر تزايدت حتى بعد نيسان 2003، حيث كان العراقيون يتطلعون الى عصر
مدني خال من العسكرة ومظاهرها، ولكن بسبب الارهاب والعنف، تضاعفت اعداد
الجنود وعناصر الامن باللباس الرسمي، الامر الذي أعطى لمظاهر الحياة
العراقية طابعا عسكريا فرض نفسه على الجميع بقوة.
ولكن هناك أمن مدني مقابل الأمن العسكري، يمكن أن يكون بديلا معاصرا
لعسكرة المجتمع، فالامن المدني أكثر تحضرا من سواه، والسبب يكمن دائما
في التعارض الشديد بين الحياة المدنية والحياة العسكرية، فحين تريد أن
تظهر للعالم بحلة التحضّر والتحرر والانفتاح الديموقراطي، لا يمكن أن
يتم ذلك بمظاهر العسكرة المبالَغ بها، إضافة الى مخاطر الاعتماد على
الامن العسكري الذي يرهن النظام السياسي والمجتمع عموما بما تؤول إليه
رؤى وافكار وسياسات الاجهزة الامنية عموما، كالجيش والمخابرات والشرطة
وما شابه، لذلك يقول أحد الكتاب في دراسة له حول هذا الموضوع: (عسكرة
المجتمع لا تعني أن جميع المواطنين يخضعون لأحكام المؤسسة العسكرية
النظامية، بل أننا نعني خضوع المجتمع بكافة قرارات الدولة ومؤسساتها،
والمجتمع المدني وقراراته لإدارة الأجهزة الأمنية، وهو ما يحصل في كل
أنظمة "العالم الثالث"، والوطن العربي على وجه التحديد). وبخصوص ما
يتعلق بالنظام السياسي العربي ومنه العراق بطبيعة الحال يقول الكاتب
نفسه: (إن النظام السياسي العربي يعتمد اعتمادا مطلقا، ليس لاستشارة
الأجهزة الأمنية فقط، بل لقراراتها، وبشكل خاص في الوظائف في الجهاز
الحكومي، وفي الانتخابات بكل مستوياتها المحلية والوطنية، وانتخابات
مؤسسات المجتمع المدني من نوادي وجمعيات واتحادات ونقابات مهنية، وإذا
كانت هذه الأنظمة تعيب على أنظمة الحزب الواحد كأنظمة شمولية، فهي
تمارس الشمولية بأسلوب الجهاز الأمني - المخابرات- الذي يدس انفه حتى
في الاستيراد والتصدير والترخيص لهذا المحل أو ذاك).
وهكذا يصبح الامن العسكري مظهرا من مظاهر السلطة الفردية أو
الاحادية المسار والتوجّه، ناهيك عن أنه من الاساليب التي لم تعد تساير
متطلبات العصر الذي ينحو الى المدنية، والانفتاح وتغييب المظاهر
العسكرية بأشكالها وصورها كافة، فالخضوع الى الاجهزة الامنية ومظاهر
العسكرية يؤدي الى اختلال واضح في حركة الحياة، وهذا ما جرى سابقا في
المجتمع العراقي، وما يجري اليوم ايضا بسبب الظروف الامنية، ولكن لا
يصح أن يتحجج المعنيون بهذه الظروف لتبرير طغيان العسكرة، فهناك
إجراءات أمنية متماسكة وحازمة، ولكنها تجري في الخفاء، لكن يبدو أن بعض
العراقيين ممن يمسكون بزمام الجانب الامني، يفضلون المظاهر على
المضامين الاجرائية الصحيحة والمتخفية في آن.
إن مدنية الامن تقود الى الاستقرار حتما، وذلك بسبب غياب مظاهر
التوتر والانغلاق والقسرية، ناهيك عن الاساليب المتحضرة في التعامل مع
الاوضاع الامنية بكل تفاصيلها، أما الأمن العسكري ونشر مظاهره في شوارع
وساحات واحياء المدن الصغيرة والكبيرة، فربما يكون مبررا في أثناء
الحرب والطوارئ فقط، لكن اذا تم فرض هذا الطابع على الحياة المدنية تحت
حجج مفتعلة، يبررها في الغالب قادة الاجهزة الامنية، فإن النتائج ستكون
عكسية تماما، حيث يسود التوتر بين مكونات وشرائح المجتمع كافة، كما أن
مظاهر العسكرة لا تكون دائما دليل قوة للنظام او الدولة، بل على العكس
تماما، إذ تشير الى ضعف النظام واعتماده على الشكل أكثر من المحتوى،
لذلك يجب اعتماد الامن المدني اسلوبا للحفاظ على أمن الدولة والمجتمع،
والعمل بأقصى القدرات والظروف المتاحة على تقليل المظاهر العسكرية
لاشاعة الامن المدني كاسلوب معاصر يتسق مع متطلبات الواقع الحياتي
الراهن. |