القمة المنعطف
على الرغم من تباين مواقف أعمدة البيت السياسي العراقي، واختلاف
الرؤى في الشارع العراقي حول إمكانية استغلال الزعماء العرب لقاءاتهم
المباشرة في قمة بغداد وتوظيفها بما يفضي إلى الاتفاق على حزمة قرارات
فاعلة، من شانها تجاوز إخفاقات القمم العربية التقليدية التي كان بعضها
مسرحا للتراشق الإعلامي المعبر عن إيمان القادة العرب بسحر مفهوم
نظريـــــــة المؤامرة، فان ما تتفرد به القمة المنتظرة هو انعقادها في
ظرف تاريخي حاسم على خلفية الثورات الجماهيرية التي وصفتها الدوائر
الغربية باسم الربيع العربي الذي استهل به عرب أفريقيا إطلالة العام
الماضي بثورات شعبية مهدت لإزاحة بعض الزعامات العربية التقليدية، ثم
ما لبث إن امتدت شرارة الثورة إلى المشرق العربي، ولما تزل جذوتها
مستعرة.
ولا يخامرنا شك في أن الواقع العربي المتأزم سيملي على القادة العرب
مهمات جديدة تضاف لمجموعة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والصحية
والبيئية والإنمائية التي تعاني منها اغلب الدول العربية في ظل التقدم
العلمي والتطور التكنولوجي المتسارع الذي يعيشه العالم المتقدم.
ولا أخطئ القول أن في مقدمة المسائل المطروحة على جدول قمة بغداد
يتمحور حول مناقشة المشروع العراقي لحلحلة الأزمة السورية المتفاقمة
بشكل متوازن يبعد عنها شبح الحرب الأهلية التي يلمح لها البعض. وفي
الوقت الذي تستعد فيه مدينة السلام لاستقبال ضيوفها، نرى من المهم
تذكير الزعماء العرب بعدم اقتصار طاولة بحثهم في التركيز على معالجات
تنهي احتراب الفرقاء في سوريا دون سواها، فهناك كثير من مثل هذه
المشكلات ببلدان عربية اخرى تستدعي من قادة القمة وقفة شجاعــــة لوضع
النقاط على الحروف من اجل إحلال الأمـان والمحافظة على كرامة الإنسان.
وحسبي أن رئاسة الجامعة العربية، فضلا عن الزعامات العربية لم تكن
غافلة عن هذه الحقيقة التي يعد حلها اختبارا حقيقيا لصدق نوايا الملوك
والرؤساء العرب بالحضور إلى قمة بغداد. ويشكل الإرهاب محورا ساخنا في
أروقة القمة القادمة لضلوع بعض الجهات في تدعيم قدراته، مما يستلزم من
الجميع إدراكا عميقا لمخاطره التي تشكل في واقعها الموضوعي تحديا
لمستقبل الأجيال العربية.
بغداد بعبق ماضيها، وعمق تاريخها، واشراقة مستقبلها، وطيبة اهلها،
ومحبة ماء دجلتها تفتح قلبها الكبير الذي طالما ثخنت جراحه وهو يحمل
هموم معركة النهوض والتجدد مرحبة بالأشقاء العرب، وضيوف العراق،
ومتمنية أن تشكل قمة بغداد بأهمية وفاعلية قراراتها منعطفا كبيرا في
التاريخ العربي المعاصر.
ما بين سرت وبغداد
لم تكن القمة العربية حدثا جديدا على العاصمة العراقية بغداد، فقد
سبق أن استضافة مؤتمرين للقمة العربية، أولهما مؤتمر القمة العربي
السابع الذي جرت اعماله في الأيام (2-5) من شهر تشرين الثاني عام 1978
م، والثاني مؤتمر القمة العربي غير العادي السابع الذي عقد في الفترة
(28-30) ايار 1990 م. غير أن الشيء المميز لقمة بغداد المنتظرة هو
انعقادها وسط متغيرات تميزها عن الظروف التي كانت تؤطر قمم العرب في
نسخها القديمة، وفي مقدمة ذلك غياب بعض من الزعامات التقليدية التي
كانت مؤثرة في صناعة قرارات ما أقيم من قمم عربية على خلفية ابرز
النتائج المباشرة لتداعيات ماجرى الإشارة اليه باسم (الربيع
العربي)،تعبيرا عن موجة التغيير التي شهدتها بعض البلدان العربية في
العام الماضي 2011 م، في أعقاب شرارة (البوعزيزي) التي أشعلت الشارع
التونسي، وأيقظت في نفوس شعب تونس الخضراء عناصر مهمة إجبار زعيمها زين
العابدين بن علي التخلي عن كرسي الرئاسة والرحيل خارج البلاد، فكان ان
غادرها مكرها بعد إعلانه مقولته الشهيرة (أنا فهمتكم الآن)، ثم مالبث
أن اضطر الرئيس المصري محمد حسني مبارك إلى مغادرة القصر الرئاسي
وتسليم مقاليد الأمور إلى نائبه الذي سرعان ما اضطر للتنازل عنها أمام
الضغط الشعبي إلى قيادة الجيش التي لم ترق هي الأخرى إلى اغلب الشرائح
الاجتماعية.
أما الزعيم الليبي معمر القذافي الذي ضيف الملوك والرؤساء والأمراء
العرب في قمة سرت التي تعد قمة تاريخية، بوصفها آخر القمم العربية التي
عقدت في مرحلة ما قبل الثورات الجماهيرية (الربيع العربي)، فقد انتهت
ولايته التي تجاوزت الأربعة عقود من الزمان بتدخل حلف الناتو إضافة إلى
جهد بعض البلدان العربية في مهمة الإطاحة بعرشه الذي كان شديد التمسك
به، ومن ثم اغتياله على أيدي (ثوار ليبيا) على خلفية تدمير موكبه
بصواريخ طائرات حلف شمالي الأطلسي.
وقد كان آخر ضحايا الربيع العربي الرئيس اليمني علي عبد الله صالح
الذي لم يكن راغبا بتسليم مقاليد السلطة لولا الضغط الخليجي الذي خرج
من معطف المبادرة الخليجية، وربما لا يكون صالح الزعيم العربي الأخير ؛
فالقادم من الأيام يحمل بين ثناياه الشيء الكثير في زمان اعد له أن
يحمل مختلف السيناريوهات من اجل إحلال التغيير في المنطقة العربية.
وبصرف النظر عما آلت أو ما ستؤول أليه مجريات الربيع العربي، فان
قمة بغداد المنتظرة تكتسب أهميتها من طبيعة الظروف الموضوعية المحيطة
بالفضاء العربي، التي تستلزم استلهام القادة العرب موجبات التغيير
وضروراته، إضافة إلى الحرص على اعتماد الخيارات السليمة نهجا قويما
لضمان تحرير العقل العربي من مختلف العقد والرواسب في السلوك والتفكير.
أيام قليلة تفصلنا عن افتتاح قمة بغداد ونحن نتطلع إلى موقف عربي
متوازن يتجاوز التوجهات العقيمة التي تعود بنا إلى صلات مع تاريخ ضارب
بخفايا الفرقة والنزاعات والاتهام بالمؤامرات وغيرها من النشاطات التي
تسببت في إباحة الدم الفلسطيني والمتاجرة بالقدس الشريف والتراب
الفلسطيني، فضلا عن الإضرار بوعي العرب لدورهم الإنساني والحضاري.
ترى هل سينجح القادة العرب في الاتفاق على إعادة اللحمة العربية
وإحلال مصالح بلدانهم محل مصالحهم الشخصية ؛ من اجل صياغة توصيات تغاير
بمضمونها نتاج القمم السابقة، وتخفف من هموم الإنسان العربي المثقل
بجراحات الماضي ؟ وهل سنشهد بادرة تثلج صدر المواطن العربي وتزيح عنه
ما علق به من ركام آثام السياسة ومكابداتها ؟.
إنها أمانة في أعناق القادة العرب، تستلزم صيانتها صدق النوايا
والحرص على استقلالية القرار الوطني، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
* باحث وكاتب صحفي
haylatif@yahoo.com |