ان احياء ذكرى حلبجة، تلك المدينة الكردية التي تعرضت للقصف بالسلاح
الكيمياوي المحرم دوليا من قبل نظام الطاغية الذليل صدام حسين في 16
آذار 1988، ياتي للتذكير بتلك الجرائم البشعة التي ارتكبها النظام
البائد من اجل توكيد قرار العراقيين الرامي الى اجتثاث (حزب البعث) من
الحياة السياسية والذي ورد في المادة (7) من الدستور العراقي الذي
اختاره العراقيون عندما صوتوا عليه باغلبية ساحقة.
ان اقامة مثل هذه الاحتفالية في العاصمة الاميركية والتي يقيمها
المركز الثقافي العراقي بالتعاون مع ممثلة حكومة اقليم كردستان، تحديدا
يبعث برسالة هامة جدا الى الراي العام العالمي وتحديدا الاميركي،
مفادها ان ما اختاره العراقيون من قرار يقضي باجتثاث (البعث) من الحياة
السياسية له ما يبرره قانونيا ووطنيا وشرعيا واخلاقيا وكذلك على صعيد
القانون الدولي، فان جرائم بحجم (حلبجة) لا يمكن ان تسمح مرة اخرى لمثل
هذا الحزب ان يعود الى الحياة السياسية ليمارس دوره في الحياة العامة
ابدا، ما سيدفع بمن يفكر باعادته الى الحياة السياسية مرة اخرى بشتى
الطرق الى ان يعيد النظر في تفكيره فلا يظل يلوم العراقيين او يظل يبرر
للبعثيين جرائمهم او يدعو العراقيين الى نسيان الماضي وتجاوزه فهو في
هذه الحالة يدعو الى نسيان الجرائم التي ارتكبوها والى نسيان دماء
الشهداء وتضحيات العراقيين، ما سيشجعهم وغيرهم على تكرار الماضي وان
كان باسماء ومسميات وازياء اخرى.
لماذا قرر العالم اجتثاث النازية ليس من المانيا فحسب وانما من كل
العالم بسبب جرائم ارتكبها النازيون ابان الحرب العالمية الثانية،
ارتقت الى مستوى (جرائم حرب ضد الانسانية) لدرجة ان المتقدم بطلب
التجنس في الولايات المتحدة الاميركية يسال اليوم، وبعد مرور اكثر من
60 عاما على جرائم النازية، ما اذا كان في يوم من الايام قد ايد، وليس
تعامل فقط، النازية او احدى تنظيماتها او رموزها او مؤسساتها؟ فاذا كان
قد فعل ذلك فانه يحرم من حق التجنس والى الابد، فيما لا زال البعض من
المغفلين او ممن لا يريدون الخير بالعراق وشعبه يدعو الى نسيان الماضي
وتجاوز مآسيه وكل ذلك من اجل اعادة (البعثيين) الى الحياة السياسية؟ هل
يعقل ذلك؟ وهل يجوز ذلك حتى من الناحية الاخلاقية، فضلا عن الدستورية
والقانونية والوطنية؟.
ان عودة او اعادة المجرم ورموزه الى الحياة العامة، يعد جريمة بحق
كرامة الانسان العراقي وهي بمثابة استحقار لذاكرة المواطن، واستخفاف
بكل التضحيات التي قدمها العراقيون على مدى سلطة حزب البعث التي دامت
نيف وثلاثين عاما، كما انها تعد بمثابة القنبلة الموقوتة التي قد تفجر
العملية السياسية والتجربة الديمقراطية من قواعدها، ولذلك فان الحريص
على حاضر ومستقل العراق لا يفعل مثل هذا الامر ابدا.
من جانب آخر، فان استذكار مثل هذه الجرائم انما هو من اجل ان تشخص
دائما امام اعين العراقيين لتبقى حية في ذاكرتهم من اجل ان يبذلوا كل
ما في وسعهم لعدم تكرار مثل هذه الجرائم البشعة وعلى يد اي كان، وذلك
من خلال التصدي لاية محاولة يلمسها من اي كان، حزبا كان ام شخصا، تيارا
كان ام حركة، تسعى للاستفراد بالسلطة، وكذلك العمل على التصدي لكل
انواع التشدد والتزمت والتطرف وثقافة الاقصاء والغاء الاخر، الديني منه
وغير الديني، فان مثل هذه الثقافات المريضة هي التي تنتج الاستبداد
والذي ينتج بدوره حلبجة واخواتها.
ان على العراقيين ان يستذكروا دائما تلك الجرائم البشعة التي
ارتكبها نظام الطاغية الذليل صدام حسين بحق الشعب العراقي وشعوب
المنطقة، وبكل الطرق والوسائل الممكنة، كالافلام الوثائقية والنصب
التذكارية والمهرجانات والاحتفاليات والصور والبوسترات والشعر والمسرح
والقصة والكتب والمجلات وكل شئ، من اجل ان تظل الذكرى تعيش في ذاكرتهم
ووجدانهم فيحذروا كل ما من شانه تكرارها، ومن اجل ان يتفهم الراي
العام، خاصة العربي منه الذي لا زال يحن الى زمن الطاغية ويبرر له
جرائمه ويمجد كل ما يتعلق به، عسى ان يهتز ضميرهم في لحظة وعي حقيقية
وانتباه وجداني صادق، ليكفوا عن لوم العراقيين.
كما ان علينا ان ندون ونوثق تلك الجرائم وضحاياها بشكل دقيق لتبقى
في متناول الباحثين عن الحقيقة، فكم من رسالة ماجستير ودكتوراه كتبت عن
جرائم النازية؟ الا اننا لم نسمع لحد الان عن رسالة واحدة من هذا النوع
كتبت عن جرائم نظام الطاغية، على الرغم من ان جرائمه لا تقل بشاعة
وخطورة عن جرائم النازيين، فلماذا كل هذا التناسي او التجاهل او
التغاضي عن ذلك؟ لماذا لم ننتج لحد الان فيلما عالميا عن تلك الجرائم؟
لماذا لم ننتج عملا دراميا واحدا عنها؟ ام اننا ننوي تكرارها فنسعى، من
اجل تحقيق ذلك، الى طمس ذكراها لينساها العراقيون فنمحوها من ذاكرتهم
اولا؟.
لقد اقام اليهود متحفا خاصا لجرائم النازية بحقهم في قلب العاصمة
الاميركية واشنطن، فلماذا لا نقيم متحفا مشابها لجرائم الطاغية ونظامه
وحزبه بحق شعبنا ليعرف العالم ماذا حصل لنا وكيف ولماذا؟ وليتلمس حجم
المآسي والمعاناة التي تحملها العراقيون على يد هذا الحزب اللعين، فان
ذلك سيساعدنا في انجاز مهمتنا الرامية الى خلق عراق جديد خال من
الاستبداد والديكتاتورية والفكر الشمولي الاقصائي.
ان (البعث) لا يمكن ان يغير شيئا من جوهره ولذلك رايناه، ولا نزال،
يحرض ويدعم ويقود الارهاب في العراق وبالتحالف مع جماعات العنف
والارهاب التكفيرية التي يدعمها نظام القبيلة المتخلف الحاكم في دول
الخليج خاصة الحجاز وقطر، فاذا صادف في يوم من الايام ان نسي
العراقيون، ضحايا النظام البائد، جرائمه وحاولوا ان يطووا صفحة الماضي
بكل مآسيه من خلال تناسي تلك الجرائم، فان (البعثيين) انفسهم سوف لن
ينسوا ماضيهم الاسود بل سيظلوا يحاولون العودة بالعراق الى ذلك الماضي
تحكمه نظرية الحزب القائد والقائد الضرورة، التي تعتمد سياسات الاقصاء
والسحق المنظم لكل من يختلف معهم.
تأسيسا على هذه الحقيقة، ينبغي على العراقيين استحضار الماضي من
اجل حاضر احسن ومستقبل افضل، فمن يريد ان لا يتكرر معه الماضي الاسود
يجب عليه ان يتذكره دائما، ولا اقول ان يعيشه، انما يتذكره ليستخلص منه
العبر والدروس دائما، وهذا هو الفرق بين من يعيش الماضي وبين من
يتذكره، فبينما يقتل الاول نفسه لانه سيتقمص الماضي في شخصيته ما
يشرنقه ويمنعه من الانطلاق بشكل جديد، ترى الثاني يتعلم من ماضيه كل ما
من شانه ان يساعده الى الانطلاق بشكل ايجابي وصحيح، بمعنى آخر، ان
الاول يعيش في الماضي من اجل الماضي، فيما يستذكر الثاني الماضي ليعيش
مستقبله، والاول يتكرر عنده الماضي، بينما لا يحدث مثل ذلك للثاني،
ولذلك فعندما يتذكر اليهود ويذكرون الراي العام بجرائم النازية ضدهم،
فهم لا يعيشون في داخل المأساة والا لما نجحوا في حكم العالم اليوم،
وانما يجعلون من الذكرى منطلقا لحياة افضل خالية من الجريمة ضدهم وبحق
انفسهم.
ولذلك قال احد المفكرين (لو كان عندنا الحسين عليه السلام لاقمنا
له في كل نقطة في هذا العالم علما ندعو به الناس الى المسيحية) لما
تحمل ذكرى عاشوراء من رسالة عظيمة تجلت في انتصار الدم على السيف، ولما
تحمل من ظلامة عظيمة قادرة على دعوة الناس الى دين الحسين عليه السلام
وقيمه وافكاره واخلاقياته وكل ما يحمل من قيم نبيلة، وهذا ما يجب ان
يحققه من يبذل الغالي والنفيس من اجل احياء ذكرى الحسين عليه السلام،
فالحسين (ع) ليس من اجل الماضي وانما من اجل الحاضر والمستقبل، اما
اولئك الذين يتعاملون معه كماضي وتراث وتاريخ انقضى فانهم يشرنقونه
وثورته وقيمه النبيلة فيعزلونه عن الحاضر والمستقبل، ولذلك نرى الذكرى
عند امثال هؤلاء لا تؤثر في حياتهم ولا تغير من سلوكياتهم ابدا، لانها
ماض فحسب وليست حاضرا ومستقبلا.
ان علينا، ونحن نعيش هذه الايام ذكرى عدد من جرائم النظام البائد
التي ارتكبها بحق العراقيين الابرياء، منها حلبجة والمقابر الجماعية
وجريمة التهجير البشعة وجريمة قتل الشهيد المرجع والمفكر السيد محمد
باقر الصدر واغتيال المفكر الشهيد السيد حسن الشيرازي في بيروت، وغيرها
من الجرائم البشعة التي يندى لها جبين الانسانية، علينا ان نحيي ذكرى
هذه الجرائم ليعرف الجيل الجديد ماذا فعل الطاغية ونظامه وحزبه الفاسد
من جرائم ضد الجيل الذي سبقه، خاصة وان الكثير من العراقيين لم يعيشوا
تلك الجرائم وربما لم يسمعوا بها لان الجيل الذي عاشها لم يسع لقص
رواياتها عليه، وليعرف كيف ولماذا ارتكب النظام كل تلك الجرائم؟ وكيف
وصل الحال في العراق الى ما هو عليه اليوم؟ من اجل ان يجد وبطريقة
جديدة تحول دون تكرار الماضي ودون تكرار تلك الجرائم، ولنتذكر جميعا
بان (البعث) ليس افرادا او جماعة قد تنتهي وتنقرض وانما هو فكر وثقافة
ومبادئ قد تتقمصها اية جماعة اخرى او شخص آخر فيرتكب نفس الجرائم
ويمارس نفس السياسات، ولذلك فان علينا ان نعمل معا من اجل اجتثاث هذا
النوع من الفكر والثقافة من حياتنا، وقبل ذلك من نفوس كل واحد منا، فلا
نبرر الجريمة اذا صدرت من زيد ونستنكرها من عبيد، ابدا، فالجريمة واحدة
ونتيجتها واحدة، امن عمامة صدرت ام من افندي، من عسكري صدرت ام من
مدني، من كبير صدرت ام من صغير، من اسلامي صدرت ام من علماني، من كردي
صدرت ام من عربي، وخيرا فعل المشرع عندما نص في دستورنا في المادة (7)
المتعلقة بموضوع اجتثاث البعث، على الفكر الذي ينتج الجريمة وليس على
الاسماء والمسميات فحسب، فقال (اولاً: يحظر كل كيانٍ او نهجٍ يتبنى
العنصرية او الارهاب او التكفير أو التطهير الطائفي، او يحرض أو يمهد
أو يمجد او يروج أو يبرر له، وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه،
وتحت أي مسمىً كان، ولا يجوز ان يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في
العراق، وينظم ذلك بقانون).
علينا ان نجتث الثقافات التي تنتج الجريمة، وان واحدة من اخطرها هي
ثقافة عبادة الشخصية وصناعة الطاغوت، والتي تنتجها ثقافة صناعة هالة
القدسية للزعيم والقائد والمسؤول، فان مثل هذه الثقافة هي التي تبرر
الجريمة، لانها تحرض صاحبها على ان يحب ويكره ليس بعقله وبمنطق سليم
وانما بعواطفه، والعواطف التي لا يضبطها عقل متنور ومنطق سليم تنفلت من
عقالها فتدمر بعد ان تبرر الجريمة.
لنتعاون جميعا من اجل اجتثاث كل الثقافات السلبية والعادات السيئة
من مجتمعنا، فنجتثها من البيت والمدرسة والمحلة والمعمل مرورا بالعملية
السياسية والحياة العامة، لننتج مجتمعا ايجابيا متعاونا وسليما معافى
من كل الثقافات التي تنتج الجريمة وبكل اشكالها.
ان ثقافة التقديس هي التي تمنع صاحبها من نقد الخطأ واستهجان
الانحراف بل وحتى مناقشة (الزعيم) ففي ظل مثل هذه الثقافة يتحول المرء
الى امعة يصدق كل ما يقوله الزعيم بلا تفكير وميزان ويدافع عن مواقفه
بلا نقاش ويعمل ويصوت ويقبل بطريقة التحكم عن بعد كما هو الحال بالنسبة
الى الكثير من اعضاء مجلس النواب العراقي الذين يتبعون زعيم الكتلة بلا
وعي وبطريقة الطاعة العمياء لانهم مدينون له، وليس للشعب، بالجوس تحت
قبة البرلمان.
اخيرا، فان استحضار ذكرى الضحايا انما لتنبيه المسؤول الذي ورث
السلطة في بغداد عن النظام البائد، الى حقيقة في غاية الاهمية وهي، انه
انما وصل الى موقع المسؤولية بسبب تضحيات اولئك الابطال الذين فقدوا
حياتهم من اجل حياة افضل لشعبهم والاجيال القادمة، ولذلك فان على
المسؤول:
اولا: ان يقدر تلك التضحيات وان يتذكر دائما بانه مدين لها في
تسنمه موقع المسؤولية.
ثانيا: ان يعطي لتلك التضحيات حقها من الجهد والعمل الدؤوب
والمثابرة ليحقق ما كانت تصبو اليه تلك الارواح الطاهرة عندما ضحت، الا
وهو الحياة الحرة الكريمة، والتي لا تتحقق الا بالانجاز والانجاز وحده.
ثالثا: رعاية اسر الضحايا ماديا ومعنويا، فلها شرف الصبر وتحمل
المصيبة من اجل تحقيق اهداف الضحايا في الحياة الحرة والكريمة.
ان مما يؤسف له حقا هو ان الكثير من المسؤولين تناسوا الضحايا
بمجرد اعتلائهم سدة الحكم والمسؤولية، وان مثل هؤلاء عليهم ان يعرفوا
جيدا بان دماء الضحايا حارة وساخنة تحرق من يتنكر لها ولو بعد حين،
لانه وامثاله ما كان له ان يعتلي سدة الموقع لولا تلك التضحيات الجسام،
فهل يظن انه سيحتفظ بموقعه بتناسيه لها؟ ابدا.
* مدير مركز الاعلام العراقي في واشنطن |