التنمية القضائية

القاضي سالم روضان الموسوي

القضاء حاجة الناس وحق الإنسان وأوكلت مهمته إلى العاملين فيه لتلبية الحاجة الإنسانية، وتطور الحياة وإيقاعها السريع صاحبته الحاجة إلى تطوير العمل القضائي، فما كان مادة العمل القضائي قبل قرن من الزمان لم يعد وحده في ساحة العمل القضائي، إذ افرز التطور الحياتي مصالح وعلاقات باليات حديثة تدخلت في الحياة العامة والخاصة وأثرت فيها مما خلق تشابك وتنازع بين المصالح اقتضى أن تعرض على القضاء للفصل فيها.

 وفي قرار استئناف بابل الاتحادية العدد 120/جزائية/2011 في 28/4/ 2011 الذي لم يجرم فعل يتعلق بسرقة الرقم السري للبريد للالكتروني واستخدامه دون علم وموافقة صاحب البريد الالكتروني لان القانون العراقي العقابي لم يوصف هذا الفعل على انه جريمة والقاعدة الدستورية تمنع معاقبة أي شخص إلا بموجب قانون او بناء عليه (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) حيث لم يرد في المنظومة القانونية نص يتعلق بالشبكة الدولية (الانترنيت) والمستخرجات الالكترونية وهو قصور تشريعي دليل على الحاجة إلى مواكبة التطور، واليات العمل القضائي تعمل في عدد من المحاور منها القانون (التشريع) والموارد البشرية ( قضاة،محققين وموظفين) وبنى تحتية (مباني وأدوات ومكائن وتقنيات)، ويكون هدف التطوير ينصب تجاه هذه الوسائل ويعد من أبرزها وأهمها تطوير الموارد البشرية بالاتجاهين النوعي والكمي.

 فمن حيث الكم لابد وان نوصل العدالة إلى الجميع في عموم الرقعة الجغرافية للبلاد وان نوفر الكوادر القضائية لها، ومن حيث النوع لابد من إعداد هذه الكوادر جيدا باتجاه تقديم الخدمة القضائية الأفضل وتبدأ من مرحلة الإعداد الأولي مرورا بمرحلة التدريب وحتى المباشرة في العمل، وهو ما يسمى بالتنمية القضائية التي نقصد بها التنمية البشرية والتنمية المستدامة لها، التي عرفها ذوو الاختصاص بأنها نهضة في جميع مناحي الحياة من اجل رفاهية الإنسان، وجعلوا ميدانها متواصل فأطلق عليه التنمية المستدامة ومعناها تنمية لا تكتفي بتوليد النمو وحسب، بل توزع عائداته بشكل عادل أيضا، ومن هذا الباب انطلقت المؤسسة القضائية في العراق مثلما في جميع البلدان التي تؤمن بالإنسان باعتباره القيمة الأولى والمحور الذي تدور حوله الأعمال والمنجزات وتتعلق بكرامته ورفاهيته، وبادرت السلطة القضائية إلى النهوض بالجانب التنموي في العمل القضائي، لان القضاء إذا ما صلح وواكب التطور الحياتي سيؤدي إلى إصلاح وصلاح المجتمع.

 واقتبس لتأكيد هذا المعنى وصية الإمام علي بن أبي طالب (ع) إلى عامله على مصر مالك الأشتر حينما أوصاه بأعمار الأرض وتحسين الخراج إذ قال (إصلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم و لا صلاح لمن سواهم إلا بهم ) وبذلك فان إصلاح القضاء وصلاح القضاة بتطوير قابليتهم وتنمية مواردهم الفكرية والمادية سيؤدي إلى صلاح سواهم من سياسيين وغيرهم.

 وكان للسلطة القضائية انجازات في هذا الباب منها ابتعاث القضاة إلى الدول المتقدمة في ميدان العلوم القانونية وإقامة الدورات والندوات وورش العمل التطويرية للقضاة والكوادر الساندة لهم وفي شتى المجالات بإشراف مختصين في القضاء وفي العلوم الأخرى من داخل وخارج العراق، وتوج هذا العمل بتأسيس معهد التطوير القضائي ليكون المنطلق نحو تحقيق هذا الهدف وعقدت فيه اغلب تلك الورش والندوات.

 إلا إن ما تقدم لا يلبي الطموح لان انقطاع العراق عن العالم الخارجي نتيجة لسياسات الأنظمة السابقة وتبعية القضاء إلى السلطة التنفيذية شكل فجوة كبيرة بين ما موجود من تقدم في الميدان القانوني وما موجود في العراق، فكان للسلطة القضائية أن عمدت إلى إتباع وسائل متعددة منها تكليف القضاة بإعداد البحوث الرصينة التي تكون واحدة من مستلزمات الترقية من صنف إلى آخر وأثمر ذلك الجهد عن وجود عشرات البحوث التي ترتقي إلى مستوى ما نطمح إليه في وجود فكر قانوني محلي يحاكي الفكر الإنساني في الجانب القضائي.

 كما سعت السلطة القضائية إلى تشجيع القضاة والعاملين في أروقة العدالة إلى إصدار المؤلفات القيمة ذات البعد التحليلي والنتاج التشخيصي للمعالجة، مثلما سعت رئاسات المناطق الاستئنافية إلى عقد ورش العمل والندوات الشهرية التي أصبحت تقليد قضائي لمناقشة الواقع العملي للعمل اليومي للقضاء وتشخيص مواطن الخلل ومعالجة ما يمكن ضمن الصلاحيات والإمكانيات المتاحة، وهذه الخطوات بمجملها تعد وسائل وآليات تنفيذ خطة التنمية القضائية بالجانب الفكري للقاضي فضلا عن الخطوات العديدة التي ناشرتها السلطة القضائية في الجانب المادي التقني مثل الأتمتة والمعدات والبنى التحتية الأخرى.

 وبما أن العمل القضائي خراجه ونتاجه هو الحكم القضائي فانه يعد من الناتج الفكري غير المرئي الذي يستدل عليه بالقرار القضائي المكتوب، فأرى أن تكون التنمية بهذا الاتجاه هي الأولى ذات الأولوية بين كل ما تقدم ذكره لان الحكم القضائي مثلما يعرفه فقهاء القانون وأهل القضاء ومنهم القاضي ضياء شيت خطاب بان العمل القضائي (مقياس منطقي، مقدمته الكبرى النص التشريعي ومقدمته الصغرى الواقعة محل الخصومة والنزاع، ونتيجة الحكم الذي يصدره القاضي) فهذه المعادلة الثلاثية التركيب للوظيفة القضائية توضح بجلاء أن من أهم أركانها النص التشريعي، لذلك فان القانون واحد من أهم الأهداف المستهدفة في التنمية القضائية، لان مادة القضاء هي القانون، فلا يحكم القاضي بغير القانون وبذلك تطور العمل القضائي فيه جانب كبير من تطور القانون، الذي يكون قابل للتعديل أو الإلغاء بين الحين والآخر من اجل مواكبة تلك الحاجة أو الموائمة بينه وبين الأفكار والنظريات التي تستجد في علم القانون.

 لكن مثلما أشرت في مقال سابق يعتوان (دور القاضي في تطوير النص القانوني) كيف يتطور النص النافذ والواجب التطبيق تجاه الحاجات التي تكن لها ضرورة استمرار المجتمع في مسيرته وهو يتصف بالجمود ووجدت بان المهمة ستكون موكله حصرا للقضاء لأنه سيعمل على تطوير روح النص وليس النص بذاته لان العبرة بالأحكام التي يسعى إلى تحقيقها النص القانوني معبرا عن فلسفة المشرع، وكان هذا إلزام على القاضي بمراعاة التفسير المتطور للقانون الذي يكون بإتباع آليات ووسائل اجتهاد ذلت بعد حداثوي متطور وليس على وفق الآليات التقليدية، ونحتاج لذلك أن نطلع على تجارب الآخرين ممن سبقونا في هذا المجال وان ننتفع مما ليديهم وان لا نخشى ثقافاتهم تحت وازع الخصوصية الشرقية أو العربية للمجتمع العراقي، لان الانغلاق والانزواء عن الآخرين لا يمنع من نفاذ الآخر إليك في ظل التطور الهائل في منظومات الاتصال الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي، ولمسنا في الأيام الحالية كيف كان تأثيرها كبير وصل حد تغيير أنظمة عاتية شمولية تحكم بالحديد والنار فاقتلعتها وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي من جذورها على الرغم مما تلك من أدوات وماكنة حربية، وسنرى في قادم الأيام آثار لها في بلدان أخرى وحتى على المستوى الداخلي.

 فلا بد من تعزيز ثقافة الانفتاح على الآخر سيكون الأسلوب الأمثل للتطوير، فالحضارة لم تبنى إلا بالحوار والتلاقح في الأفكار، ومن ذلك لابد من تطوير الفكر القانوني على وفق ما وصل إليه النتاج الإنساني ممثلا بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية وان يتمثلها القاضي عند تصديه للعمل القضائي، لسببين الأول على وفق ما ذكرت سلفا بأنها نتاج فكر إنساني والثاني لان بعضها أصبح قانون وطني بعد المصادقة عليه من السلطات التشريعية مثل اتفاقية الطفل واتفاقية (سيداو) والعهدين الدوليين للحقوق السياسية والمدنية وغير ذلك، والفت عناية من يتخوف من هذا الانفتاح بالقول المأثور للمهاتما غاندي (إنني لا أريد أن ترتفع الجدران من كل جانب حول بيتي، ولا أن يُحكم إغلاق نوافذي، إنني أريد أن تهب ثقافة كل أرض حول بيتي بأقصى قدر من الحرية، لكنني أرفض أن تقتلعني ريح أي منها من جذوري).

 وفي الختام أرى إن التنمية القضائية ضرورة أساسية لتنمية المجتمعات ولابد أن نلتفت إليها ليس على مستوى المؤسسة القضائية وإنما على المدخلات الأخرى للعمل القضائي منها السلطة التشريعية في دورها التشريعي والسلطة التنفيذية بوصفها المنفذ للحكم القضائي والمجتمع الذي دائما ما يكون محل هذه التطبيقات ولابد إن يكون لمؤسسات المجتمع المدني دور بارز في عملية التنمية القضائية بعد أن لمسنا نتائج مهمة لبعض هذه المنظمات في المشاركة بتطوير العمل القضائي من خلال التعاون في مجال بث ثقافة استقلال القضاء وحقوق الإنسان.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 19/آذار/2012 - 25/ربيع الثاني/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م