" إن السيطرة على الهند هي رهن التعاون الهندي لا الإكراه
البريطاني"
" يجب أن لا نكره البريطانيين، فهم لم يأخذوا الأرض منا، نحن الذين
أعطيناهم إياها"
" إن الرفض اللاعنفي للتعاون مع الظلم هو السبيل للتغلب عليه".
بهذه الكلمات وأمثالها استطاع غاندي بعد عودته إلى الهند في العام
1915 م أن يعيد صياغة طريقة التفكير في الذهنية العامة للشعب الهندي.
فبدلا من أن يلقي كل فرد مسؤولية الاستعمار والأوضاع الفاسدة على
الاستعمار نفسه والظروف الخارجية الأخرى، قام غاندي بالتركيز على دائرة
التأثير والنفوذ، أو "Circle of Influence" كما يطلق عليها ستيفن كوفي
في مقابل دائرة الهموم "Circle of Concern" .
دائرة التأثير والنفوذ هي دائرة الداخل، أي ما نستطيع فعله، أي
مسؤوليتنا نحن. بكلمات أخرى يجب أن نبحث عن مسؤوليتنا فيما حدث ويحدث
لنا إذا كنا جادين في البحث عن مخرج أو خلاص. من السهل جدا والمريح
أيضا أن نلقي باللائمة على ما هو خارجنا، فنحيل الأسباب في تخلفنا مثلا
إلى مؤامرات الأعداء أو بحسب المصطلح الشائع اليوم " أجندات خارجية"،
أما الأمر الصعب فهو مواجهة الحقيقة باتهام الذات أولا والتفتيش عن
مسؤوليتها.
يحضرني في هذا الصدد أحد الخطابات التي ألقاها أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب عليه السلام إذ يقول:
"أيها الناس! لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهين
الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقوَ من قوي عليكم، لكنكم
تُهْتُم متاه بني إسرائيل". وكذلك قول الإمام الصادق عليه السلام:
" لَولا أَنَّ بَني أُمَيَّةَ وَجَدوا مَنْ يَكْتُبُ لَهُمْ
وَيَجْبي لَهُمُ الْفَيْءَ ويُقَاتلُ عَنْهُمْ وَيَشْهَدُ جَمَاعَتَهُمْ
لَمَا سَلَبونَا حَقَّنَا، وَلَو تَرَكَهُمُ النَّاسُ وَمَا في
أَيْديهمْ مَا وَجَدوا شَيْئاً إِلا مَا وَقَعَ في أَيْديهمْ."
وهذا بالضبط ما فهمه وفعله غاندي حين أعلن استراتيجيته النضالية
التي تركز على عدم التعاون مع المستعمر، فقال: سنتوقف عما يريدنا
البريطانيون أن نفعله. تلك إذن الساتياغراها التي تعني التمسك بالحق
والإصرار على الحقيقة ومواجهة الآخر بأسلحة الإرادة الصلبة التي لا
قِبل له بها.
لقد تساءل غاندي: كيف يمكن لمائة ألف جندي بريطاني أن يهزموا 350
مليون هم مجموع شعب الهند آنذاك؟ وكان الجواب هو أن هذه الملايين غفلت
عن طاقاتها وقدراتها المكنونة، أو عن العملاق الذي بداخلها، والذي يمكن
أن يتحدى التاج البريطاني.
لسنا في معرض ذكر تفاصيل سيرة غاندي، فهذه يمكن الرجوع إليها في
مظانها، ولكننا بصدد استخلاص الدروس والعبر التي يمكن بها أن نجتاز إلى
شاطئ آخر. ولذا سنقف عند بعض المحطات:
المحطة الأولى: في 13 نيسان عام 1919 اجتمع عشرات الألوف من الهنود
رجالا ونساء وأطفالاً في مكان يدعى (جاليونا لألا باغ) فهاجمهم الجنرال
(داير) الإنكليزي وفتح عليهم النار فقتل منهم ستمائة وجرح الآلاف كما
أرسل طائراته لتقصف الجماهير من الجو وساق ألوف الرجال إلى السجون.
عندئذ أعلن غاندي يومذاك خطة اللاتعاون مع الإنكليز حتى يرضخوا ويعيدوا
إلى الهند حقها. تكونت الخطة من النقاط التالية:
1- التخلي عن الألقاب ورتب الشرف.
2- رفض شراء سندات القروض التي تعقدها الحكومة.
3- إضراب المحاكم ورجال القانون عن العمل.
4- فصل الخصومات بالتحكيم الأهلي.
5- رفض المناصب المدنية والعسكرية.
6- الدعوة إلى الاستقلال الاقتصادي للهند.
7- مقاطعة مدارس الحكومة والوظائف على اختلاف مراتبها.
استجاب الشعب لرؤية قائده، فاستقال الموظفون وأضرب الطلاب وهجر
المتقاضون المحاكم وبدأ غاندي ينظم الحركات الشعبية متنقلا من منطقة
إلى منطقة وكان همه الأكبر أن يظل الشعب هادئاً فلا يحدث انفجار يبرر
لجوء الإنكليز إلى السلاح، مما أربك الحياة العامة وأظهر للشعب قبل
المستعمر قوته الذاتية. كان غاندي يشرح لشعبه قوة المقاومة اللاعنفية
ويطلب من المسؤولين الاستقالة لأن البريطانيين لن يتمكنوا من فعل شيء
إن رفض الجميع التعاون.
المحطة الثانية: رأى غاندي أن بريطانيا تحتكر شراء القطن الهندي
بأبخس ثمن لتعود الهند فتشتريه قماشا بأثمان باهظة فدعا مواطنيه إلى
مقاطعة البضائع الإنكليزية، وأوجد البديل لذلك من خلال حث الشعب الهندي
على ارتداء ملابس مصنوعة من الـ«كادي»، كي يوفروا لأنفسهم فرص عمل،
ويعززوا اعتمادهم على الذات، الأمر الذي جعل هذا القماش جزءا من الواقع
الهندي، ورمزا لحركة التحرر الهندية.
كان يغزل القطن ساعتين يوميا ليظهر لشعبه ملايين الوظائف التي فقدت
نتيجة استيراد القماش البريطاني. وكان يردد " إذا قام كل هندي بالغزل
في وقت واحد، فإن أغنية الغزل ستكون أغنية الحرية".
انتشرت هذه الفكرة بسرعة مذهلة فراح مئات الألوف من السكان يحرقون
الأقمشة الإنكليزية ويعتبرونها رمزاً للعبودية والاستعمار، وتأثرت بذلك
مصانع القطن البريطانية بشكل كبير.
المحطة الثالثة: وقف بقوة مع أكثر الطوائف تهميشا، وهي طائفة
المنبوذين أو "الداليت". الداليت عانوا المذلة والتمييز والقمع لآلاف
السنين، وهم يشغلون على نحو غير متناسب المناصب المتدنية ذات الأجور
المتدنية؛ ومستواهم التعليمي أقل من الطبقات العليا، ويشكلون اليوم 15%
تقريبا من سكان الهند.
طالب غاندي في تلك الأثناء بإعادة الاعتبار للمنبوذين، فلقي منهم
تجاوباً عظيماً وأعلن أمام الجماهير قائلاً :
"خير لي أن أقطع إرباً من أن أنكر إخواني من الطبقات المدحورة وإذا
قدر لي أن أبعث حياً بعد موتي فأقصى مناي أن أكون من هؤلاء (الأنجاس)
لأشاطرهم ما يتلقون من إهانات وأعمل على إنقاذهم".
لقد كان من نتائج ذلك على المستوى البعيد أن ك. ر. نارايانان ، الذي
ولِد لأسرة فقيرة من الداليت، خدم كرئيس للبلاد، وهو أعلى منصب رسمي في
الهند، أثناء الفترة من العام 1997 إلى العام 2002.
المحطة الرابعة: كانت بريطانيا، وتطبيقا لسياسة "فرق تسد"، تبذل
قصارى جهدها لبث الفرقة بين المسلمين والهندوس، ولكن غاندي واجه ذلك
بكل قوة. فعندما قامت السلطة الحاكمة باعتقال الزعيمين المسلمين
الأخوين محمد علي وشوكت علي، أعلن تضامنه التام مع المسلمين، وأذاع
بيانا وقع عليه خمسون من أعضاء المؤتمر الوطني حظر فيه على الهندوس
الخدمة المدنية والعسكرية مع السلطة.
غاندي ومسيرة الملح
الإنسان إرادة، والإرادة لا تقاس بحجم الأجسام، بل بقوة العزيمة
والهمة التي يحملها. كان غاندي شخصا هزيل البنية نحيل الجسم، ولكنه كان
يمتلك إرادة فولاذية تستطيع هزيمة أعتى الإمبراطوريات.
بعد أسابيع من اعتزاله للتأمل، خرج غاندي بفكرة سيكون ما بعدها غير
ما قبلها. وكما اختار في محطة سابقة القطن ليكون رمزا لمقاطعة ومقاومة
المستعمر، وتحقيق الاستقلال الاقتصادي عنه؛ اختار هذه المرة الملح رمزا
لتحدي الاحتكار البريطاني لهذه السلعة الأساسية التي لا يستغني عنها
أحد.
كانت بريطانيا قد أصدرت قانونا يخولها احتكار صناعة وبيع الملح في
الهند، وتضمن القانون عقوبة بالسجن ستة أشهر على كل من يصنع ملحا، حتى
في حال ضبطه يجمع حجارة ملح من شاطئ البحر، كما قامت بفرض ضريبة على
الملح. وفي عام 1923 م قامت بمضاعفة الضريبة مما أثقل كاهل الشعب
الهندي بشكل كبير.
من هنا رأى غاندي أن الملح هو الرمز الأقوى الذي سيشعر به الجميع،
والذي يستطيع جمع الناس حوله. فقرر أن يبدأ مسيرة سلمية تمتد 240 ميلا
من أحمد أباد وسط الهند إلى داندي على الساحل الغربي حيث مصانع الملح.
بدأت المسيرة يوم 12 مارس 1930 واستمرت 24 يوما حيث وصلت إلى داندي يوم
6 أبريل. كانت البداية متواضعة جدا، حيث تكونت من 80 شخصا، ثم التحق
بها الآلاف من المدن والقرى التي كانت تمر بها.
عندما سأله الصحفي الأمريكي ويليام شايرار: لماذا يتبعك عشرات
الآلاف أينما تذهب؟ أجابه غاندي: لأني نصف عريان مثلهم لكني أقدر على
مقابلة أهم رجل ابيض في الهند، ونقل مشاكلهم إليه.
لم يكن غاندي يكذب على شعبه، ويوزع عليهم وعودا فارغة، بل أوضح منذ
البداية أن الطريق يحتاج إلى تضحيات، ولكن نهايته ستكون في صالح الهند.
قال في الخطاب الأول للمسيرة: نقسم بأننا إما سننال استقلال الهند، أو
ندخل السجون. ونقسم أن استقلال الهند سيتحقق بدون عنف.
وحين وصل الشاطئ حمل حفنة من الملح في يده معلنا من هناك نهاية
الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. قال للآلاف من حوله: احملوا
الملح بين أيديكم وفكروا بأنه يساوي 60 مليون روبية. هذا ما كانت تأخذه
الحكومة منا عبر احتكار الملح.
بهذا الفعل تم خرق القانون الجائر، مما أحدث صعقة في كافة أنحاء
البلاد، فهرع الآلاف من كل مكان للسواحل ليمارسوا الخرق ذاته، مما أسقط
هيبة القانون والدولة، وكسر حاجز الخوف.
كعادة المستبدين على مر التاريخ، لم تلتقط بريطانيا هذه اللحظة
جيدا، ولم تُعِرها آذانا صاغية، بل قامت باعتقال الآلاف من الهنود ومن
بينهم غاندي الذين كانوا قد وطنوا أنفسهم واستعدوا لدفع الثمن، كما
قامت بقتل المئات أيضا. وهاجمت الصحف المؤيدة لحزب المحافظين غاندي
واتهمته بالعمل وفق أجندة خارجية مع الشيوعيين الروس لنشر الشيوعية في
الهند، واستهزأت به وبحركته مشككة في جدواها، حيث لا يمكن- كما يقول
المشككون - الإطاحة بالحكومة عبر غلي ماء البحر في إبريق.
غير أن كل ذلك لم يُثنِ غاندي عن مواصلة مسيرته النضالية حتى رضخت
بريطانيا العظمى ودعته إلى مفاوضات في لندن. هناك سأله موظف الجمارك عن
الأشياء التي معه، فكتب: «ست عجلات نسيج، وثلاثة صحون للأكل منذ أيام
السجن، وثلاث علب فيها لبن ماعز، وستة سراويل طويلة، وسمعتي التي لا
تساوي كثيرا». ثم رفض النزول في قصر ضيافة وفرته له الحكومة
البريطانية، ونزل مع الفقراء في حي كنغزلي هول في شرق لندن.
بالطبع لم تكن مسيرة الملح سوى بداية لمرحلة جديدة من العصيان
المدني والمقاومة اللاعنفية، حيث استمر فرض ضريبة الملح حتى أكتوبر
1946 م. وفي هذا درس بليغ للساعين للتغيير إذ عليهم أن يدركوا أن
النجاح التام يتحقق عبر سلسلة من النجاحات التراكمية والإخفاقات أيضا؛
فمقاومو التغيير لن يسمحوا له بالمرور بسهولة. وهذا ما كان يدركه جيدا
غاندي فقد أعلن أن أحد أهداف العصيان المدني الرئيسية هو إقناع الشعب
البريطاني بالعصيان المدني بعد أن يتضح لهم الظلم الذي يلحق بالشعب
الهندي. لقد نجح غاندي في أن يكشف للعالم أنياب الحكومة البريطانية بكل
شراستها وقبحها.
مسيرة الملح أعقبتها 17 سنة هي فترة الحمل الفاصلة بين مسيرة الملح
وولادة استقلال الهند عام 1947 م.
elaphblog.com/bshabib |