القانون في ضوء فلسفة الصراع

أ. محمد بن سعيد الفطيسي

" الصراع بين الفرد والمجتمع " (1)

 ان الصراع الذي يحدث في المجتمع بين فردانية الفرد واجتماعيته، ينعكس على طبيعة الحكم الذي يحكم المجتمع، فضلا عن تأثيره في الأفكار والأيديولوجيات السائدة،....... ارسطوطاليس

 ولد الإنسان وهو يعايش صراع مرير بين نزعته الفردية والفطرية " الأنا " التي تدفعه لرفض كل أشكال القيود الاجتماعية والنفسية والفكرية، وحاجته للمجتمع والاختلاط به، وبالتالي التخلي عن تلك النزعة الفردية لصالح الجماعة، فالرغبة في الحرية المطلقة لدى الذات المتفردة، تقابلها حرية مشروطة في القالب الاجتماعي، ورفضه لكل أشكال القيود والتنظيم في النزعة الفردية والفطرية، تقابلها القوانين والتنظيمات والتشريعات التي تقيد وتمنع وتكبح جماح تلك النزعة في البيئة الاجتماعية وإطار الدولة.

 وبما ان الإنسان يولد في نظام اجتماعي،- أي – ان كل كائن بشري في كل مرحلة من مراحل التاريخ او حتى ما قبل التاريخ قد ولد في مجتمع – ونقصد به – الأسرة -، فهو اقرب الى ثقافة قبول التنظيم والمشاركة والاندماج منه الى الفوضى والهمجية، في المقابل وبالرغم من انه تربى على قبول القوانين والتنظيمات الاجتماعية منذ صغره، يمكننا التأكيد على ان تأثير النزعة الفردية " الأنا " المتمردة واللااجتماعية تطغى عليه في كثير من الأحيان نتيجة العديد من العوامل المؤثرة في تفكير وثقافة الفرد، ولان الميول الغرائزية لدى الإنسان أقوى بكثير من الميول العقلانية الواعية والاجتماعية.

 وبالتالي فان الحقيقة التاريخية تؤكد بانه لا توجد هناك حرية طبيعية في الأصل الفطري، (فالحرية بوصفها مثلا أعلى لما هو أصلي وطبيعي لا توجد كشيء طبيعي او أصلي، بل ينبغي السعي للحصول عليها ونيلها، وذلك بعد عملية تهذيب وترويض هائلة للقوة الأخلاقية والعقلية (بالرغم من ان الحالة الطبيعية للنفس البشرية وليس النشأة الإنسانية هي في أصلها نزعة نحو الفردية والغرائزية أكثر منها نزعة الى التنظيم الاجتماعي، وبالتالي فان النفس الدنيا تنزع الى رفض كل أشكال القيود والتنظيمات في مقابل رغبتها النفسية الى كل ما من شانه سبيل الى إرضاء الغرائز الطبيعية.

 وهكذا يمكن التأكيد على ان الإنسان اجتماعي في أصله ونشأته ولكنه فوضوي غرائزي في طبيعته ونفسيته، وبالتالي لا يستطيع ان يعزل نفسه عن المجتمع ولا يمكنه دون ذلك المجتمع من التغلب على تلك النزعة نحو الفردانية والغرائزية، وهكذا فان على المجتمع ان يجعله أليفا وان يساعده بقدر المستطاع على توفير البيئة والوسائل السليمة والمناسبة لإشباع دوافعه البيولوجية ومن ثم التي لا يمكن استئصالها.

 فالإنسان في حاجة ماسة الى الجماعة والمشاركة والاندماج والاختلاط، (ليس لكي يعيش في أمان فقط، ولكن لكي يثقف نفسه ويصل الى منطق الروح العليا، والواقع ان الجماعة قادرة دوما على إظهار قوة يعجز عنها الفرد منعزلا) ومن هذا المنطلق فانه يلزم باحترام الجماعة والتنظيم والتشريعات المنبثقة عنها وحمايتها كضرورة لكرامة الجميع وسعادتهم، و- بمعنى آخر – ان ذلك الفرد وبدخوله الى الجماعة وخروجه عن الحالة الطبيعية والغرائزية – أي – سعيه للتخلص من " الانا "، وتكوينه للشخصية الاجتماعية نتيجة حاجته لذلك فانه يقبل طوعا او مرغما لقوانينها وضوابطها وتشريعاتها.

 وطبعا فانه بذلك سيواجه التهديدات الاجتماعية التي تفرض باسم الجماعة والتي ستحرمه من العديد من الرغبات الشخصية والأهواء الفردية والتوجهات الذاتية، (لذلك نجد انه يعمل ويكافح من اجل استعادة بعض تلك الحقوق والحريات التي سلبت منه باسم المجتمع في كثير من الأوقات، وهذا النضال يولد ولادة وعيه الذي يتغير ويتطور وفق الظروف الاجتماعية).

 وهنا نشير ونؤكد الى ان ذلك القبول الثنائي بين الفرد والمجتمع، والذي يفرض ويحتم على قوة الجماعة ان تنمي وتحمي كرامة الفرد باحترامها إياه، والذي يفرض بدوره إدانة كل تطرف في عقيدة الجماعة، نجد – وللأسف الشديد - في العديد من الأوقات والأماكن ما يخالف هذه الضرورة المنطقية والحتمية الواعية من خلال انتشار ما يمكن ان نطلق عليه بقمع فردية الإنسان، وهو ما وجدناه في العديد من المجتمعات والدول المعاصرة، وخصوصا تلك التي تتسلط فيها قوة الجماعة على الفرد من خلال العنصرية والمذهبية والشعوبية، وتتسلط فيها الدول المحكومة دكتاتوريا على إرادة المجتمع ومؤسسات المجتمع المدني.

 وبصورة عامة نستطيع ان نقول بان هناك علاقة ترابط وتبادل وتأثير وتأثر بين الفرد والمجتمع، فمن غير المقبول ان تطغى الأنا والغرائز والشهوات الفردية على إرادة الجماعة، فنجد ان رغبات وشهوات الفرد تتمرد وتخالف إرادة المجتمع ورؤيته للشكل ومضمون الفكرية والثقافية والاجتماعية التي يسعى لتحقيقها، كما انه ومن غير المقبول استغلال الجماعة لحاجات الفرد الاجتماعية للاندماج والمشاركة من خلال حرمانه الكلي من حاجاته ورغباته الفردية والغرائزية تحت شعارات المصالح العليا للمجتمع.

 وبالرجوع الى التاريخ نجد ان العامل الأساسي لانهيار المجتمعات والدول والأفكار وقيام الثورات وحركات التحرر هو التعسف والدكتاتورية وقمع فردية الإنسان، كما جرى على سبيل المثال لا الحصر مع الفكر الشمولي السوفيتي في أواخر القرن العشرين، لذلك وجب ان يكون هناك توازن في العلاقة الجدلية بين فردية الفرد واجتماعيته، والعناية بإيجاد نوع من التوازن في العلاقة بين الذات الإنسانية الغريزية النازعة الى الفردية والأنانية، والبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها بالذات، - أي – بين النظام الطبيعي ألغرائزي والنظام الاجتماعي العقلاني، وهذا الأمر لا يمكن ان يتحقق سوى من خلال سلطة ضبط تمارس باسم الجماعة والمجتمع والدول، وهذه السلطة هي ما يطلق عليها تسمية " القانون "، فالقانون هو " سلطة وقوة تمارس باسم الجماعة لعقلنه التصرفات وضبط الغريزة الفطرية للأفراد، فالقانون بصورة عامة هو العقل البشري للأمة والحضارة (لأنه يحكم شعوب الأرض قاطبة، وليست قوانين امة من الأمم إلا حالات خاصة لتطبيق هذا العقل البشري).

 وباختصار وكما يؤكد ذلك سبينوزا، فان (غريزة السيطرة وإخضاع الآخرين ضرورية لنشوء الحضارة واستقرارها، ولكن وفي نفس الوقت فان التفريط فيها يؤدي الى انهيار تلك الحضارة، وهذه الحالة كحالة الترف عند ابن خلدون، فكما يرى ابن خلدون الحضارة لا تنشأ بدون ترف، ولكن الترف الزائد يؤدي الى انهيار وسقوط الحضارة).

 لذلك فانه ما من وسيلة مناسبة لعقلنه تلك الحالة الطبيعية وذلك الصراع بين فردانية الإنسان وشهواته وحاجته الى المشاركة الاجتماعية وبالتالي فقدانه للكثير من طبيعته الغرائزية بحكم ذلك الاندماج وانصياعه لطبيعة التوجه الاجتماعي وحكم القوانين التي فرضتها الجماعة، سوى وجود قوانين وأنظمة دستورية وإنسانية تنظم وتحكم تلك العلاقة الحتمية، و- بمعنى آخر - فانه ولكي يعيش الناس في أمان واستقرار وحرية، وعلى أفضل نحو ممكن للتقدم والبناء وعمران الحضارة يجب عليهم ان يسعوا الى التوحد في نظام واحد تحت مظلة القانون (ونتيجة ذلك ان الحق الذي كان لدى كل منهم بحكم الطبيعة على الأشياء جميعا، أصبح ينتمي الى الجماعة، ولم تعد تتحكم فيه قوته او شهوته، بل قوة الجميع وإرادتهم، على انه كان لابد لمحاولتهم هذه ان تفشل لو كان الناس قد أصروا على إتباع الشهوات – والتمرد على الجماعة والمجتمع -......

 وإذن كان لزاما عليهم ان يتفقوا فيما بينهم عن طريق تنظيم حاسم على إخضاع كل شيء لتوجيهات العقل وحده، وعلى كبح جماح الشهوة بقدر ما تسبب أضرارا للآخرين، وعلى معاملة الناس بمثل ما يحبون ان يعاملوا به، وأخيرا على المحافظة على حق الآخرين كما لو كانوا يحافظون على حقهم الخاص، ولكي يكون هذا التحالف متينا ومضمونا وجب إبرامه بشروط معينة، انه لقانون شامل للطبيعة، ان أحدا لا يترك ما يعتقد انه خير إلا أملا في خير أعظم، او خوفا من ضرر اكبر، ولا يقبل شرا إلا تجنبا لشر أعظم منه، او أملا في خير اكبر، - وبعبارة أخرى – يختار كل فرد ما يبدو له أعظم الخيرين واهون الشرين).

 وكما هو معلوم فان المشكلة الكبرى التي واجهت التنوع الإنساني منذ القديم، والتي أرغمته الطبيعة على ان يجد لها حلا هو الوصول الى تكوين مجتمع مدني يحكمه قانون عام، ولما كان في المجتمع وحده – كما يقول كانت – تحقق اكبر قدر من الحرية، ففيه يتحقق أدق تعيين وتامين لحدود تلك الحرية والعدالة والمساواة التي يمكن بلوغ غرض الطبيعة منها: - أي – نماء كل استعداداتها في الإنسانية، (إذن فلابد ان يكون ثمة مجتمع ترتبط فيه الحرية، في نطاق القوانين الخارجية الى اعلي درجة ممكنة، وبقوة لا تقهر، - اعني – دستورا كاملا عادلا للمواطنين، فهذا هو أعلى واجب على الطبيعة نحو بني الإنسان، لان الطبيعة لا تستطيع ان تحقق سائر أغراضها من النوع الإنساني إلا عن طريق حل تلك المشكلة وتحقيق ذلك المجتمع).

" الصراع بين المجتمع والدولة " (2)

 ان تحقيق التوازن بين النظام الطبيعي والنظام الاجتماعي لا يتحقق كما سبق واشرنا سوى من خلال وجود قوانين وأنظمة وتشريعات دستورية وإنسانية تنظم وتهذب تلك العلاقة الحتمية، وانطلاقا من كل ما سبق ذكره يمكننا التأكيد على ان المجتمعات والأفراد الذين لا تحكمهم قوانين تنظم سلوكياتهم وتصرفاتهم ورغباتهم وشهواتهم ونزعاتهم الفردية والغرائزية، سوف يعانون من الفوضى والانحلال والتفكك، وسوف تنتشر فيهم الجريمة والأوبئة الاجتماعية والثقافية، ويسود بينهم قانون الغاب، كما انه ومن جانب آخر، ونتيجة لازدياد ضغط الجانب الاجتماعي – أي – انتهاك فردية الفرد من الجماعة، او تحت ستار المصلحة المجتمعية يحاول الفرد إنقاذ فرديته، وفي هذه الحالة يتمرد على الواقع ويقوم بالتمرد والثورة لإرجاع استقلاليته وحريته الفردية.

 وهنا يأتي دور القوانين، (فالقانون بوصفه شعورا ملائما، هو سبب صحيح للتوافق مع الطبيعة – وليس مخالفا لها -، وانه ينتشر من خلال كل التجمعات الإنسانية، وهو يخاطب الناس بصورة أبدية، وغير متغيرة للقيام بواجبهم، وذلك عن طريق أمرهم وردعهم من القيام بالأعمال غير الصحيحة وتحريم – وتجريم - هذه الأعمال)، فالتنظيم والقانون هو الخطوة الأولى من اجل تكوين إنسانية الإنسان، والقواعد القانونية في الأصل تسن للحفاظ على مصلحة الجماعة ككل، وصيانة والحفاظ على الحقوق الأساسية التي دفعت الإنسان في مرحلة ما ولحاجة ما بالتضحية بالعديد من حرياته لأجلها بمجرد قبوله الانضواء تحت مظلة الجماعة والمجتمع والدولة.

 اذا فالقوانين لا تناقض الطبيعة الإنسانية او تلغي فردية الذات البشرية الغرائزية بل هي تنظمها وتزكيها وتهذبها لما فيه مصلحتها، (فالقوانين الصحيحة لا تحكم الناس – او تتحكم بهم كما يصورها البعض من الفوضويين والانحلاليين – القوانين الصحيحة تعمل على تغذية نسيج المسلمات والسلوكيات المنضبطة، التي يحكم الناس بها أنفسهم، وتدمر الديموقراطية نفسها اذا دمرت عادت ضبط النفس، ونكران الذات او الروح العامة).

 وبالخروج من الحالة الفردية الى الحالة الاجتماعية – أي – تكوين الشخصية الاجتماعية وطبيعة الصراع الذي ينتج عن تلك الحالة، يبرز لنا صراع تعددي اكبر، وهو صراع يتجاوز في طبيعته الانا ورغباتها ونزعاتها الفطرية والغرائزية وحاجتها الى الإشباع النفسي، وما يمكن ان تتسبب به تلك النزعة الفردية تجاه المجتمع الصغير من خلل في النظام الاجتماعي، لينتقل الى صراع اعم واشمل وأكثر خطورة، وهو صراع تفرضه طبيعة التوسع في الغرائز والنزاعات الاجتماعية بين عدد اكبر من الأفراد والمجتمعات الصغيرة، وهنا تبرز الحاجة الى سلطة قانونية اكبر تحتوي السلطة والنزعة الاجتماعية اللاواعية لتلك التجمعات الصغيرة.

 فالتاريخ الحضاري هو حصيلة التأثير المتبادل بين الفرد والمجتمع، والمجتمع والدولة، والدولة وبقية دول المنظومة الكونية، لذلك وعندما تتجه الظروف الاجتماعية الى التعدد، وتتجه الحاجات الى ان تتفرع وتتشعب على نحو لا حد له، وكذلك الوسائل والاستماع، عندها يظهر الحاجة الى قوة اكبر من المجتمع لفرض سلطته عليه، فليس بمقدور المجتمعات الصغيرة ان تحتوي رغباتها وشهواتها ونزعاتها دون قوة يد أعلى منها، وهنا تبرز الحاجة الى سلطة الدولة.

 وتبرز لنا هنا إشكالية معينة من خلال المفاهيم السابقة، وهي ان سلطة الدولة وقوانينها على المجتمع، ليست هي تلك السلطة والقوانين التي فرضها المجتمع على الفرد، ونقول بان هذا الفهم هو فهم قاصر وان كان صحيحا من جهة ما، فسلطة المجتمع على الفرد تستمد من أمرين، وهما: الأعراف والتقاليد، ومن قوة الدولة وقوانينها، أما الدولة فتستمد قوتها من القوانين التي يفرضها ويؤسسها ويصوغها أفراد المجتمع في المجتمع الأعلى – أي – مؤسسات المجتمع المدني بقصد تنظيمه وتهذيب أفعاله، مع ضرورة ربطها بالتشريعات والأنظمة والقوانين الدولية والأممية – أي - عولمة القوانين -، وهنا نقول: بان الدولة التي تصوغ قوانينها وتنظيماتها وتشريعاتها من خلال المجتمع والقانون الدولي هي دولة " القانون العالمية ".

 وعلى ذلك نجد بان التوصيف الأقرب لدولة القانون المنشودة هنا: هي تلك الدولة التي تؤسس قوانينها وشرائعها وتنظيماتها من خلال مشاركة المجتمع بمختلف مؤسساته وفئاته، مع مراعاة عولمتها من خلال سلطة المجتمع الدولي والقوانين والأنظمة والشرائع الدولية، وبالطبع ضرورة مراعاة الخصوصية الداخلية لطبيعة الأمة والمجتمع نفسه، وبالتالي فهي دولة تراعي أهمية التوازن بين تحرر المجتمع المدني نسبيا من الدولة، وضرورة وجود هيبة للدولة كأعلى سلطة على الأفراد والتجمعات، ولكن ليس سيطرتها وسطوتها عليه فيما يطلق عليه بالدولة الشمولية، ومن ثم مراعاة الخصوصية الثقافية والاجتماعية من خلال تلك الدولة.

 من خلال ذلك نستطيع ان نتصور بان الشكل المستقبلي لطبيعة العلاقة بين الأفراد والمجتمع والدولة من خلال دولة القانون العالمية، وان كانت تأسس لمؤسسات حرة نسبيا، يؤكد على (المجتمع المدني لا يتحقق إلا عبر الدولة التي يجب ان تضطلع بمسؤولية المساعدة على حل تناقضاته الداخلية – التي ستبرز من خلال الحرية النسبية التي نالها -، وتتوقع منه إدراك واجبه بالخضوع لسلطتها، و- بعبارة أخرى – فان هذا المجتمع ليس الدولة ولا يحل محلها، ولكنه لا يمكن ان يتمظهر إلا من خلالها).

 وهكذا لا يمكن بحال من الأحوال ان ينظر الى تلك الدولة على أنها دولة دكتاتورية او شمولية كون قوانينها وسلطتها وسلطانها وسطوتها تنبع من المجتمع الذي اختار بنفسه القوانين والشرائع التي تحكمه وتدير شؤون حياته، فكيف يختار المجتمع ما يمكن يهدد حريته ويسئ إليها؟ - ونقصد بالمجتمع هنا – هو مؤسسات المجتمع المدني التي تتشارك في بناء وتأسيس القوانين التي تضمن حسن الإدارة الوطنية والتنظيم لمصالحها وثروات الوطن، فالقواعد القانونية التي تؤسس بمشاركة المجتمع تسن من اجل الحفاظ على مصلحة الجماعة ككل، وبالطبع فان خروج او تمرد فرد او تجمع كالقبيلة او مؤسسة بعينها او مجموعة أفراد بعد ذلك على تلك القوانين يعد اعتداء على سلطة المجتمع وهيبة الدولة.

 - وبمعنى آخر – بانه ولكي يعيش الناس في أمان وسلام وتعم العدالة والحرية وينال الفرد كرامته وإنسانيته والمجتمع استقراره والدولة هيبتها أمام العالم، لابد ان يتوحد الكل في نظام واحد وتحت مظلة دستور واحد، فالتنظيم هو الخطوة الأولى من اجل تكوين وبناء إنسانية الإنسان، وتحطيم أنانيته وفردانيته واحتواء غرائزه وشهواته، كما ان المجتمع ومن خلال هذا المنطلق الشامل والعام، وبخضوعه لسلطة الدولة فانه لا يفقد حريته، وكذلك الدولة والأنظمة السياسية حين تنطلق من سلطة الجماعة فانه لا يمكن ان تسقط يوما او تنهار او تعاني من التمرد والعصيان الاجتماعي.

 فالمجتمع في الأصل (لا يخضع للتنظيم وينصب على نفسه حكاما ويطيع هؤلاء الحكام إلا من اجل سعادته، ويترتب على ذلك أنهم يجب ان لا ينصبوا على أنفسهم حكاما إلا ليوفروا المزيد من الضمانات لسعادتهم، لذلك فالناس هم الذين عليهم صيانة القوانين، وان أقدموا على انتهاكها فانه بذلك يكونون أعداء لأنفسهم، وكما قيل فانه" بئسا للملك الذي يزدري من القانون، وبئسا للشعب الذي سكت عن ازدراء القانون).

 اذا وكما أكدنا سلفا على ضرورة وجود توازن بين النظام الطبيعي للفرد والنظام الاجتماعي، ووجدنا ان ذلك التوازن لا يتحقق سوى من خلال قانون المجتمع – أي – الخضوع لسلطان الجماعة، فان الجماعة نفسها، او التجمعات والمؤسسات المدنية بحاجة الى سلطة قانون من نوع آخر وسلطة اكبر ونظام أوسع واشمل يحقق لها ذلك التوازن، وهو ما لا يمكن ان يتحقق سوى من خلال سلطة الدولة وقوانينها المنظمة لشؤونها العامة والخاصة وطبيعة التعامل بين الفرد والمؤسسات والحكومة.

 وفي نهاية المطاف لا يمكن تحقيق التوازن العام بين – الفرد والمجتمع والدولة – والوصول في نهاية الى العدالة والحرية الحقيقية للجميع سوى من خلال قوة اشمل واعم – ونقصد – بها الدستور، فالدستور هو عقل الأمة وقانونها وموجهها ومنظم حياتها وسبب قوتها وبقاءها، وان إقامة الحكم على أسس دستورية ترتضيها الأمة ويلتزم بها الحاكم ضرورة حيوية لتأطير العلاقات السياسية والاجتماعية، - وباختصار – وكما يخضع الفرد لسلطة الجماعة، وتخضع المؤسسات والتجمعات لسلطة الدولة، فان الجميع في نهاية المطاف يخضع لعقل الأمة – أي – الدستور.

* رئيس تحرير مجلة السياسي، المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

azzammohd@hotmail.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 4/آذار/2012 - 10/ربيع الثاني/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م