تطور المجتمعات وانتقالها من مجتمعات بدائية إلى مدنية أدى إلى ظهور
علاقات جديد بين الأفراد تتعلق بتنظيم الحياة بكافة صورها، وأصبحت
الحاجة إلى خلق نظم تناسب وحجم تلك العلاقات وتشعبها، مما دعا المفكر
الإنساني لإيجاد وسائل تنظم الإدارة وتشرف على شؤون الأفراد وكانت تلك
النظم بصيغ مختلفة من مجتمع لآخر تتحكم بتشكيلها طبيعية الأفراد
والمجتمعات وعوامل عديدة منها المنظومة القيمية والعقائدية وسواها.
وأصبح ذلك محل الاهتمام لعدد من الباحثين الذين أطلقوا له عنوان (النظم
الدستورية) وكانت التوصيفات متعددة، منها الملكي والاستبدادي والثوري
والملكي الدستوري والبرلماني الاتحادية وغيرها من الأشكال الدستورية
المنظمة لعمل مؤسسات الحكم، وأحيانا تجد أكثر من نوع في بلد واحد،
والعراق في ظل دستور عام 2005 جعل من نظام الحكم في العراق برلماني
اتحادي لا مركزي، وهذا فيه تفصيل كثير يصل إلى حد التقاطع في الرؤى بين
الباحثين.
إلا أن الثابت وجود صلاحيات موزعه على مؤسسات الدولة العراقية منها
للحكومة الاتحادية المشار إليها في حكم المادة (110) من الدستور وما
تبقى للمحافظات والأقاليم على وفق حكم المادة (115) من الدستور.ثم صدر
قانون قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم 21 لسنة 2008 المعدل
الذي حدد عدد الصلاحيات الممنوحة للمحافظات ونوعها، وفي ظل هذه
الصلاحيات التي وجدت أصلا لتسهيل آلية تقديم الخدمات للمواطن سواء في
المركز أو المحافظات ومنها النهوض بعملية الأعمار والبناء في كل مناحي
الحياة.
إلا أن التعثر واضح في هذا المسار سواء على مستوى أداء الحكومة
الاتحادية أو الحكومات المحلية ويصاحب ذلك التعثر استشراء حالة الفساد
الإداري والمالي لدى الجهتين الاتحادية والمحلية وعلى وفق الإحصائيات
التي نشرتها هيئة النزاهة العامة والمنظمات الدولية والوطنية ذات الصلة
بموضوع مكافحة الفساد، والمراقب لهذا النشاط يجد تعدد الأجهزة الرقابية
لغرض تفعيل دورها في الحد من ظاهرة الفساد، مثلما يجد إن الأحكام
القضائية التي تصدرها المحاكم متواصلة بإدانة الذين ثبت بحقهم الاتهام
بجرائم الفساد، ومع ذلك نجد إن الظاهرة لم تتوقف مثلما لم تتناقص بل
إنها في بعض المفاصل ما زالت في توسع مستمر, وتم طرح العديد من
المعالجات والمبادرات للمكافحة لكن من دون جدوى.
ومن ذلك كان لابد من الوقوف على أسباب هذه الظاهرة، فكتب المختصون
فيها أبحاث وحددوا أسبابها بأوصاف متعددة منها سياسية ,اقتصادية ,اجتماعية...الخ،
وارى بان عنصر الرقابة بشكليها السابقة واللاحقة يعد الأفضل في مكافحة
هذه الظاهر، لأنها تتعامل بشكل مباشر مع واقع المشاريع أو الجهات التي
أصابها داء الفساد.
وعندما تكون الصلاحيات في تنفيذ المشاريع الخدمية ذات الصلة
المباشرة بالمواطن بيد المركز ممثلة بالوزارات والهيئات الاتحادية فان
عنصر الرقابة الشعبية يكاد ينعدم تجاه تشخيص مواطن الخلل وعوامل الفساد
لأسباب منها الآتي:ـ
1. بعد المركز عن المواطن جغرافيا لان جميع الوزارات والأغلب الأعم
من الهيئات الحكومية مقرها بغداد ويكون المواطن في المحافظات غير قادر
على الوصول إلى الموظف المختص لمعالجة الظاهرة أو قد لا يتمكن من
الاتصال بالرئيس الأعلى لتلك المؤسسة لوجود الآليات البيروقراطية
والروتين المعطل لمسيرة الحياة العامة. وتبقى هذه البؤر المفسدة في
المشاريع بمنأى عن الملاحقة ولا تراها عين الرقيب. كما إن تلك المشاريع
وفسادها لا تؤثر في المستقبل الوظيفي للعاملين في هذه المؤسسات لان
مراكزهم القانونية محفوظة بموجب قوانين الخدمة المدنية وغيرها وجميع
العاملين في السلطة التنفيذية باستثناء المواقع السياسية من درجة وزير
فما فوق تتعرض إلى التغيير تبعا لتغير مواقع القوى في الحياة السياسية،
أما الحكومات المحلية إذا ما تولت تنفيذ المشاريع أو إدارة المفاصل
الخدمية في محافظاتهم فإنها ستكون تحت عين الرقيب الشعبي لأنه سيحاسبها
على قصورها في الأداء عند الانتخابات التي تجري لاختيار أعضاء مجالس
المحافظات فضلا عن قرب المنفذ من المواطن سواء في مكتبة أو في موقع
العمل وعادة يكون الشخص المعني بالتنفيذ من المعروفين في مناطقهم وعلى
صلة بالمواطن ويصعب عليه تمرير حالات الفساد في الأعمال ذات الصلة
المباشرة بالمواطن.
2. سيكون للمواطن دور اكبر في المتابعة لإيمانه بان هذا المشروع أو
المفصل الذي يدار من أبناء محافظة تعود ملكيته وفوائده إليه وتعزز عنده
روح المواطنة ويزداد حرصه على إدامة وصيانة تلك المشاريع بعد تنفيذها.
3. تشخيص الأخطاء الفنية في الأداء وسرعة معالجتها لاختصار الزمن
والروتين في التعامل معها.
4. تحديد أولويات الحاجة للمشاريع ذات الصلة المباشرة بالمواطن
والتي تعطي نتائج سريعة يلمسها بعد انجاز المشروع.
5. وضع أعضاء مجالس المحافظات أمام مسؤولياتهم التي تعهدوا بها عند
عرض برامجهم الانتخابية لجمهور الناخبين، لان الوضع الحالي يوفر غطاء
لتقاعس البعض عن أداء نلك المهام بسبب حجب الصلاحيات عنهم وحصرها في
المركز مما يخلق لهؤلاء الذريعة بأنهم لم يعملوا بسبب عدم تمكنهم من
الحصول على الصلاحيات الكافية.
6. في الحال التي عليها المحافظات الآن نجد أن جهد الأعضاء في
المجالس والحكومات المحلية ينصب على المطالبة في الحصول على الصلاحيات،
مما ابعدهم عن دورهم الحقيقي في تنفيذ واجباتهم تجاه المواطن، وهذا
الجهد يكلف ميزانية الدول مبالغ طائلة تنفق على الاجتماعات المكتبية
وورش العمل الروتينية واللقاءات الودية التي تتسم بالمجاملات غير
الفاعلة في تنشيط الأداء التنفيذي.
7. توزيع الصلاحيات على المحافظات سيؤدي إلى ضغط النفقات التي تصرف
على الأجهزة الرقابية التي يكون عملها مكتبي أكثر مما يكون ميداني في
الكثير من الأحايين.
8. عدم تأثر النشاط الرقابي في حال توزيع الصلاحيات لان الأجهزة
الرقابية في الوقت الحاضر تتعامل مع أبناء المحافظات عند فتح مكاتب لها
في تلك المحافظات، وبإمكان هؤلاء أن يمارسوا ذات المهام السابقة.
9. إزالة شبهة انعدام التوازن في التعيينات في الوظائف الحكومية لان
الذين ينافسون عليها في المحافظة الواحدة هم أبناء تلك المحافظة ذات
اللون والطيف الواحد أو المتقارب.
10. تنشيط جهد الكفاءات المحلية في المحافظات التي ستجد لها مجالا
واسعا للإبداع وخلق الانجاز ذو النفع المباشر للمواطن المحلي من خلال
توظيف الإمكانيات المتاحة والموارد المتيسرة في المحافظات، مثلما يثمر
التعاون مع المراكز البحثية في المحافظات عن نتائج أكثر فاعلية لأنها
تلامس الحاجة اليومية للمواطن.
لذلك أرى إن العمل باتجاه توزيع الصلاحيات ونقلها إلى الحكومات
المحلية سيسهم كثيرا في السيطرة على ظاهرة الفساد الإداري والمالي وما
ذكرت من أسباب في أعلاه تعد منافذ للفساد من الممكن سدها بالإجراءات
المنوه عنها أعلاه. |