العنف: لماذا يظل؟

تحسين يقين

ذكرتني "لماذا" محررة صوت النساء الزميلة لبنى الأشقر ب"لماذا" طفلي أحمد ابن الصف الثالث.. جاءت لماذا الزميلة لبنى في سياق حديثها معي حول موضوع ومضمون هذا المقال: لماذا يستمر العنف رغم الجهود المبذولة تربويا وتعليميا؟ أما "لماذا" أحمد فقد جاءت مكررة أربعين مرة، حينما كانت أمه تطلب منه إنجاز الواجبات المدرسية، وحين أرادت الاطلاع على ما أنجز وجدته يكرر كتابتها..

كان فعله رغم براءته فعلا ساخرا تمرد من خلاله على النظام التربوي التلقيني الذي يقوم على النسخ كواجب بيتي..

لماذا؟ لماذا؟ وإلى آخر ما كرره أحمد من تساؤلات ربما تكون محزنة كون التعليم في بلادنا لا يؤدي إلى السرور والفرح بل إلى الكآبة والهم والحزن والغضب..

المعلم الجيد هو من يسأل طالبه كيف حالك اليوم..؟ مبسوط؟ والمعلم التقليدي فهو كرجل الدين والحاكم يسأل عن الواجبات مذكرا بالوعيد والتهديد بالعقاب..

خلاصة نقاشي مع مدير مدرسة أنه مقتنع بممارسة العقاب المادي كوسيلة ضبط للطلبة لأنهم اعتادوا على ذلك..

في حين أن التعليم أصل من أصول التغيير الاجتماعي، سواء أكان تعليما عاما (المدارس) أو تعليما عاليا (المعاهد والجامعات)..وسنعود إلى نقد أساليب الضبط!

لقد ركزت جهود مجال مناهضة العنف، على الحديث الجزئي عن العنف أكثر منها على توجيه التدريب للتغير الاجتماعي، لذلك ينبغي العمل على جعل مناهضة العنف تربويا كجزء من عملية التغيير الاجتماعي..

عملية التغيير الاجتماعي تحتاج إلى تضافر مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني وليس فقط المؤسسات النسوية والحقوقية فقط، في سياق إجراء التغييرات التشريعية والقانونية والمجتمعية المطلوبة لتخليص المجتمع من العنف. وهذا يجب أن يكون خلال تحولات عامة تصيب الفكر والسلوك السائدين واللذين يلجآن إلى العنف كاسلوب لحل المشكلات. ومنها مشكلة ضبط الصف والمدرسة!

العنف في المدارس والمجتمع: ارتباط عضوي

لا يستطيع الباحث أن يعزل أية ظاهرة اجتماعية كانت أو سياسية أو اقتصادية أو فكرية عن الظواهر الأخرى في المجتمع كثوابت ومتغيرات، إضافة إلى ما يضطرب من أحداث أو أفكار في المجتمعات القريبة والبعيدة.

ليس من الصعب معرفة أن هذه الظاهرة هي من نتاج تراكم معرفي وثقافي منذ أمد طويل أصاب المجتمع والمدرس، إن هذه المشكلة قائمة على بقاء أنواع من العلاقات العنيفة داخل مدارسنا، وهي ليست ظاهرة محلية بل هي ظاهرة عالمية أصابت المدرسة في غير بلاد واحدة، لذلك حين نحلل هذه المشكلة ونناقشها لا نكون في مجال الجلد الذاتي، بل نحن في مجال عالمي يناقش قضية إنسانية تهم ملايين البشر، تلك الأسرة التربوية التي تشكل معظم أفراد الشعوب.

 لقد نشأت المشكلة منذ أزمان طويلة، وهي ليست نتاج اللحظة، وقد تشربت مشكلة العنف من أصل تصادم الآراء والأحكام والنظرة إلى السلطة والقوة، ولذلك علاقة بأسلوب الحكم والحياة المعيشية الاجتماعية في الأسرة والشارع والسوق والمؤسسات. ولما كان التربويون جزءا من هذه الحياة، فقد اكتسبوا عادات العنف من أصل حياتهم وفروعها الأخرى في المجالات التي اضطربوا فيها حينما كانوا أطفالاً قبل المدرسة، وطلبة ودارسين وباحثين ومعلمين ومديري مدارس وقائمين على مؤسسة التربية والتعليم.

حين انتقد د. هشام شرابي هذا الأسلوب في كتابه "مقدمات لدراسة المجتمع العربي، القدس، منشورات صلاح الدين، 1975، ص 47-50) أشار إلى سلبيات التعليم "إن التعليم كما يجري في إطار العائلة وخارجها، يتميز بصفتين رئيسيتين، فهو من جهة يقلل من أهمية الإقناع والمكافأة، ومن جهة أخرى يزيد من أهمية العقاب الجسدي والتلقين".

كما أن المجتمع الفلسطيني كمجتمع عربي ما زال متأثرا بأساليب التربية الدينية التقليدية التي تميل إلى التهديد والوعيد. إن الخطاب الديني في عديد من الدول العربية يميل إلى التهديد والوعيد أكثر مما يدعو إلى العقيدة المركزة والإقناع الرشيد، ويؤول في آخر الأمر إلى التوقف عند تصنيف الأمور بصورة مبسطة حق وباطل، حلال وحرام، سواد وبياض، وبذلك فهو يفتح الباب على مصراعيه للتطرف الديني الذي يشكل رجماً لملكة الإنسان في التفكير والاجتهاد، وكفراً بحكمة الله ونعمته". فإذا ربطنا أسلوب التربية التي يقوم بها رجال الدين (والتعليم أيضاً) بأسلوب التربية في البيت، لوجدنا أن هناك انسجاماً بينهما خصوصاً أن سلطة الأب مطلقة في الأسرة العربية، بل أن مجتمعنا هو مجتمع أبوي كما نعيشه وكما تراه دراسات المجتمع العربي التي تناولت الحياة العربية الاجتماعية.

ومن ينظر إلى حاشية الحاكم العربي المستبد سيجد فيها علماء الدين جنبا إلى جنب مع المسؤولين عن التعليم والأمن العام وأمن الدولة!

وما دمنا في الحالة العربية لمجتمعنا الفلسطيني، فلنا أن نربط بين مناهج الحكم ومناهج التعليم، ..ويحضرني هنا ما ذكره د. رجال بهلول في كتابه (التربية والديمقراطية،، ص90، سلسلة ركائز الديمقراطية، مؤسسة مواطن لدراسة الديمقراطية، 1997.) حين تحدث في هذه العلاقة بشكل نقدي "دور الدولة في التعليم في البلدان العربية يتجاوز دور التنسيق بكثير، فهي بادئ ذي بدء تقوم بالإشراف على كتابة المناهج، وهي لا تتورع عن كتابة المناهج ذات العلاقة الوثيقة بالمسائل السياسية مثل الدين والتاريخ وغيرها، بطريقة تأمل من ورائها اكتساب الشرعية السياسية في نظر الشعب الذي لم تلجأ إليه أبداً للحصول على الشرعية، وأحياناً تلقي الأنظمة السياسية جانباً بكل مظاهر احترام الاستقلال الأكاديمي، حيث تنصّ قوانين الجامعات صراحة على تحقيق الانسجام والتكامل بين أهداف التعليم العالي ومخططات الدولة"..

من هنا فإن الوضع التربوي ليس مسؤولية قطاع التربية والتعليم وحده، لذلك فإن وضع (جزيئية العنف في المدارس) ليس مسؤولية المعلمين والمعلمات، بل أنها مسؤولية مشتركة مجتمعية، لا بد من جميع القطاعات أن تدلو بدلوها من أجل تكامل الرؤية وتنفيذ الحلول لتخفيف حدة الظاهرة والحد منها نهائياً عن أمكن "إن قضية العنف في المدرسة ليس مصدرها الوحيد هو المعلم وإنما نتعامل بأن المعلم في النهاية هو المسؤول الأول عن هذه العملية التربوية المعقدة بكل معانيها ثقافياً وحضارياً، إضافة إلى اكتساب الطلاب العادات الفكرية والوجدانية وأنماط السلوك السليمة وكيفية التفكير حتى يكون دور المعلم مساعداً ودليلاً وداعماً للطالب بحيث تصل مستوى العلاقة بين المعلم والطالب إلى درجة مجسدة بالتعاون والتكامل..

وفي هذا السياق أراني أعود إلى مسأل العنف كأسلوب ضبط!

والحقيقة أن أكثر المعلمين والمعلمات المتجهمين والعنيفين إنما يلجأون إلى استخدام العنف اللفظي والمادي في التعامل مع الطلبة نتيجة قصور في شخصياتهم (النفسية والتعليمية)، وأزعم أن عدم سيطرة المعلم على إدارة المعلومات داخل الغرفة الصفية وضعفه التربوي في خلق الوسائل التربوية والأساليب في تقديم المعلومات وضعفها يؤدي إلى عدم تحمل ميل الطلبة الحيوي في التفكير والنقاش، كما أن الطلبة يملكون القوة كمتعلمين في تقييم المعلم/ة، فإذا كان هناك ضعف ما في شخصية المعلم فإنه سيلجأ إلى العنف كمنقذ له ومهرب في آن واحد، فالمعلم الذي لا يستطيع جذب انتباه الطلبة وتركيزهم من خلال المعلومات وطرق تقديمها سيلجأ إلى العصا كمخلصة له من هذا الموقف المحرج، لذلك ليس غريباً أن نرى معلمي الرياضيات واللغة الإنجليزية ينتمون إلى هذه الفئة لأسباب موضوعية تتعلق بهذين المبحثين وأسباب ذاتية تتعلق بهما في هضم تلك المواد وجذب الأطفال إليها.

 لذلك لجأ د. مصطفى حجازي في كتابه (التخلف الاجتماعي، ص73) إلى تفسير العنف لدى الإنسان بالمقهور كوجه آخر للقهر والإرهاب الذي يعيشه الإنسان في المجتمع المتخلف، إذ يتحول العنف إلى وسيلة أخيرة في يد الإنسان للإفلات من مأزقه ومن خطر الاندثار الداخلي الذي يتضمنه هذا المأزق إلى سلاح أخير لإعادة سيء من الاعتبار المفقود إلى الذات من خلال التصدي مباشرة أو مداورة للعوامل التي يعتبرها مسؤولة عن ذلك التبخيس الوجودي الذي حل به. العنف هو لغة التخاطب الأخيرة الممكنة مع الواقع ومع الآخرين حين يحس المرء بالعجز عن إيصال صوته بوسائل الحوار العادي وحين تترسخ القناعة لديه بالفشل في إقناعهم بالاعتراف بكيانه وقيمته".

ولما كانت العلاقة بين الطالب والعلم قائمة على الاتصال المباشر، فإن حسن الاتصال القائم على الحوار والمشاركة من قبل الطلبة في التعلم واعتبار (الطالب) محور العملية التعليمية (حقيقة لا شعار) سيخفف من حدة أي عنف محتمل. وسعنا دائرة (المعلم – الطالب) إلى (الإنسان – الآخر) فسنجد أن العنف أو النزاع أو تصادم الإرادات المحتمل هو وليد هذه العلاقة بين الأنا والآخر.

 وأحب أن أشير إلى أحد تفسيرات علم النفس للعنف من خلال مدرسة وجهة النظر الظواهرية التي تحدث عنها د. مصطفى حجازي حين قال "أن العنف كغيره من أشكال السلوك هو نتاج علائقي، أو بكلمة أكثر دقة، نتاج مأزق علائقي. أما التدمير والقتل هفو كارثة علائقية تصيب الذات في الوقت نفسه الذي تنصب فيه على الآخر وتبيده. إن العدوانية هي طريقة معينة للدخول في علاقة مع الآخر".

أليس ذلك دليلاً على أسلوب المعلمين في بداية متجهمة عدوانية في الحصص الأولى في المدرسة التي يعملون فيها أول مرة؟ إن ذلك بلا شك أسلوب إنساني تقليدي قائم على الخوف على الذات من أن ينكرها الآخر، والمعلم يريد أن يضمن خوف الطلبة منه واحترامهم القائم على الخوف ومن ثم يبدأ بالتراخي قليلاً سواء في سحنة الوجه المتجهمة أو الضرب والألفاظ القاسية لأنه فاز في الجولة الأولى معهم، وعليه الآن أن يظهر بريق أسنانه قليلاً.

وما يندرج على المدرسة يندرج على المؤسسات الأمنية التي أثبتت فشلها، في حين صار مطلوبا من المؤسسة الدينية أن تستقل عن السلطة وتغير أسلوبها.

واليوم لا بدّ أن تشمل عملية التحول الديمقراطي عمليات التربية والتعليم في فلسطين كأساس ومنطلق لتربية ديمقراطية تنبذ العنف بكافة أشكاله، وكنتيجة للتحول الديمقراطي أيضا، الذي من المفترض أن يصيب مجتمعنا الفلسطيني أكثر فأكثر، وهذا يعني إعادة تشكيل المؤسسة التربوية من منطلق ديمقراطي وتربوي ووطني وإنساني.

وأخيرا فإن التربية على اللاعنف تنجح إذا جاءت في سياق التربية على القدوة، فكيف نحارب عنف الأطفال في المدرسة والمعلمون يمارسونه عليهم؟ وكيف نحارب عنف المعلمين ومديرو المدارس يمارسونه عليهم؟ وكيف وكيف وصولا إلى رأس الهرم التربوي المستبد الذي يمارس الديمقراطية شكلا لا مضمونا، حيث تتم القرارات وتقرّ السياسات (إن وجدت) بطرق غير ديمقراطية، حيث يتعرض المجتمع التربوي لعمليات تلقين لا تقتصر على الطلبة!

إنها ثقافة الخوف التي يجب فورا أن تنتهي، والتفصيل فيها سيكون في مقال قادم..إن شجعتني محررة "صوت النساء" على ذلك.

Ytahseen2001@yahoo.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 26/شباط/2012 - 3/ربيع الثاني/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م