الحوار الوطني: أبعاده ومعطياته

صادق جواد سليمان

عنوان هذا الحديث هو "الحوار الوطني: أبعاده ومعطياته". بالأبعاد أقصد كافة مساحات الشأن الوطني، وبالمعطيات أقصد ما تحقق من معطى تنموي مشهود في وطننا حتى اليوم، ومن بعد ذلك، انطلاقا من هذا الذي تحقق، ما نطمح إلى تحقيقه استطرادا لهذا العهد الميمون: كل ذلك مع بقاء منهاجنا في العمل الوطني قائما أبدا على التحاور والتعاون، وموصولا أبدا بصميم الحرص على الحفاظ على الأمن والاستقرار وسلامة المنجزات الوطنية، وعلى توطيد الوئام الاجتماعي في رحاب المواطنة المساوية بين الجميع.

الحوار – كما تعلمون – أضحى مصطلحا محوريا في عصرنا هذا الذي ازدادت فيه قضايا الشأن الإنساني تعقدا وتشعبا عبر العالم: من هذه القضايا ما هي تخص كل دولة بمفردها، مثلا: كمستوى المعيشة فيها، وكنمط توزع المورد الاقتصادي بين مواطنيها، ومنها ما هي مشتركة الاهتمام بين الدول، مثلا: كتأثيرات البيئة الطبيعية التي لا تحدها الجغرافية السياسية، وكاستتباب السلم العالمي الذي يستفيد منه الجميع. ولأن الآراءَ والرؤى، وأيضا الميولَ والنوازعَ الشخصيةَ والفئوية، تتعارض كأمر معتاد في عملية صياغة المعالجات وتلمس الحلول، بين أهل الوطن الواحد كما بين الدول، ولأن التخاصم المزمن معيق للتقدم، وطنيا وعالميا، بل جارٌ مرارا إلى تصادم عنفي، فإن الحوارَ يبقى وحدَه الوسيلة المحوريةَ لتجنب مغبة ذلك، أو على الأقل للتخفيف من وخيم تداعياته، ومن ثم لتعزيز التعاون الموصل إلى معالجات ناجعة وحلول عامة النفع قدر المستطاع.

ولعلي ألاحظ هنا أن الحوار، بهذا المعنى، هو أفتح وأفلح صيغة للتحادث بين أشخاص أو بين دول: يُدخَل فيه بدون سابق تشبث برأي أو موقف معين، أي أنه يمارَس بانفتاح على أيما نتيجة يُتوصل إليها حواريا عن طريق الاحتكام إلى المعرفة القابلة للتحقق من قبل المتحاورين، مردفةً بالمنطق العقلي المشترك بينهم، ومع التزام الجميع، كشرط أساس، بالضابط الخُلقي الذي لا يجيز غبنا أو إجحافا بحق أي طرف، كما لا يجيز إضرارا بالصالح العام.

أيضا: في معرض التحاور حول الشأن الوطني هناك مصطلحات تستدعي استيعاب مدلولاتها المدنية المعاصرة بدقة ووضوح، منها مصطلحات محورية، كالوطن، الدولة، الوطنية، المواطنة، الحكومة، المجتمع المدني. كتعريفات وجيزة، يمكن القول أن الوطن هو المستقر الأصل، كونُهُ الوعاءَ الآويَ لنا جميعا أيا كانت مواقعنا في المجتمع... أن الدولة هي الإطار المنظم للشأن الوطني، لذا وجب أن يكون لها دستور ومؤسسات وقوانين منظمة لمختلف نشاطات المجتمع، وتكونَ لها سياسات تهدف إلى بناء علاقات تعاونية مع الدول الأخرى... أن الوطنية هي الشعور الإيجابي الفاعل تجاه الوطن، وأهم معاييرها الولاء والوفاء والإخلاص... أن المواطنة هي المشاركة في الانتماء للوطن الواحد، وقوامها العقد الاجتماعي الذي يساوي بين المواطنين كافة أمام القانون، غير مجيز أيما امتيازات بناؤها حسب أو نسب أو جاه اجتماعي أو موقع سلطوي... أن الحكومة هي المديرة لشؤون الدولة، وقوامها حسن الأداء بمعيار الكفاءة والأمانة معا في خدمة الوطن والدولة والمواطنين... وأخيرا، أن المجتمع المدني هو المواطنون أنفسهم بما يقومون تطوعيا من نشاطات حميدة متنوعة، غيرِ ربحية وغيرِ حكومية، لأجل إنماء الصالح العام.

أخيرا، أتوقف قليلا عند مفهوم المواطنة تحديدا، وما يترتب ضمنها من حقوق واستحقاقات وواجبات للمواطنين كافة، دون أيما تمييز محابٍ أو مؤثرٍ لبعض منهم فيما هم جميعا فيه سواء. في إطار المواطنة، الحقوق لا تتفاوت، أما الاستحقاقات، فلكونها تنبني على الاستئهال، فإنها قد تتفاوت، لكنه تفاوت موضوعي لاينطوي على غبن أو إجحاف. الواجبات بدورها تتفاوت حسب الاستطاعة، إذ لا تكلف نفس إلا وسعها. في مجمل هذا النسق، المواطنة صميما تعنى المواطنة المتساوية بين المواطنين كافة، رجالٍ ونساء، وحقوقها، بذلك، تتوازى مع حقوق الإنسان المفصلة والمعترف بها عالميا. بتعبير آخر: حيثما تضمن حقوق المواطنة المتساوية على نحو غير منقوص تضمن أيضا حقوق الإنسان. وكما نعلم، فإن مدى الوفاء بحقوق الإنسان أضحى اليوم المسطرة الرئيسة التي تقاس عليها جدارة الدول عالميا، وضمن الدول تقاس بها جدارة الحكومات.

حراكنا الوطني العُماني:

بعد هذه التوطئة الشارحة بإيجاز بعض أهم مفاهيم البناء الوطني، والمؤكدة بإيجاز أهمية الحوار في بلورة استيعاب هذه المفاهيم في الوعي الوطني، دعنا نتساءل: تُرى أين نحن اليوم في حراكنا الوطني؟ على هذا أجيب: بنظري، تطور هام قد حدث على صعيدين خلال العام المنصرم: تطور في مضامين حوارنا الوطني، وتطور في مضامين الخطاب الرسمي متصاحبا ومتناسقا مع التطلعات المعبر عنها ضمن الحوار الوطني.

على ما ألمس، حوارنا الوطني اتسع مدىً وتبلور نوعا وتوضح معنىً عما كان عليه من قبل. مثلا: في حواراتنا اليوم، جانبية خاصة كانت أو عامة علنية، من جل ما أستمع استخلص أنه ما عاد يعنينا زخرف المظهر بقدر ما تعنينا سلامة الجوهر. ما عادت تعنينا عبارات التفخيم والتبجيل لمواقع السلطة بقدر ما يعنينا ضمان الكفاءة والأمانة في أداء تلك المواقع. ما عادت تعنينا العناوين المرسومة بالخط العريض بقدر ما تعنينا المتون الموضوعية المكتوبة بالحرف الصغير. ما عدنا نرضى بالمحاباة والمحسوبية، بل صرنا نؤكد تساوي الجميع أمام القانون. مبادئ وقيم، أكثر من عادات وتقاليد، تحدونا اليوم على مسار استكمال معالم الدولة العصرية التي نرغب فيها وتعهد بتحقيقها سلطان البلاد تحقيقا حداثيا وحضاريا معا في ترادف.

على صعيد الخطاب الرسمي، قراءة متمعنة في النطق السامي بمناسبة افتتاح الدورة الخامسة لمجلس عمان تبدي بجلاء تناسقا في المفاهيم وتماثلا في وجهة التطور. هنا نقرأ رؤية رائدة شاملة، مترابطة منطقيا، ومتماسكة في عناصرها النهضوية... رؤية بانية للحاضر وممهدة للمستقل، رؤية ترسم توجها واضحا نحو استكمال عناصر الدولة العصرية. الدولة العصرية هي غير الدولة المعاصرة التي تعيش في العصر حداثيا لكنها لا تُعنى كثيرا باستحقاقاته الحضارية. خلاف ذلك، الدولة العصرية تسعى دأبا لتحقيق ذاتها وفق أرقى استحقاقات العصر الحداثية والحضارية معا. على رأس تلك الاستحقاقات، تُعنى الدولة العصرية بحوكمة رشيدة، باقتصاد منتج ومنصف، بتنمية إنسانية مستدامة، بتنام معرفي مطرد،، باحترام حقوق الإنسان، ودوما بالتثبت في مكارم الأخلاق.

لفظ " الاستكمال " الذي نعت به سلطاننا مسعانا الوطني لبناء الدولة العصرية دقيق في دلالته، كونَ مسار التقدم الحداثي مفتوحَ المدى، وكونَ أفق الارتقاء الحضاري لا يحده سقف. المسار الحداثي هو ذلك الذي نواكب عليه العالم عمرانيا، وباقتناء واستخدام عموم مبتكرات العصر من منتجات تكنولوجية ونظم إدارية ووسائل تيسيرية تلبي عمليا الاحتياجات الحياتية. أما المسار الحضاري فهو ذلك الذي نستكمل عليه استحقاقات المواطنة المتساوية القائمة على التكافؤ في الحقوق وعلى التناسب في الاستحقاقات والواجبات، تحت حوكمة رشيدة، وفق ما استقر عليه الاجتهاد الإنساني العالمي المستنير.

هنا دعنا نقف قليلا لنتساءل: ترى ما الذي مكن من تطور حوارنا الوطني على نحو ما وصفت؟ ما الذي أخرج حوارنا من إسرار إلى إفصاح، من غموض إلى وضوح؟ بنظري الفضل يعود للاعتصامات التي عقدت بدءا من مثل هذا الوقت في العام الماضي واستمرت لشهور. إنها انطلقت من صفوف الشباب، احتجاجا على استشراء العطالة في وسطهم، وبعد أن كان العديد منهم قد كلّ بحثا عن العمل دون طائل. ثم إذ لم تلق شكاويهم آذانا صاغية، ولم يبادَر إلى معالجة مشكلة العطالة بينهم بشكل جاد وناجع، لمس الشباب لدى الحكومة تناقصَ الاكتراث وتزايدَ الإجحاف، فتفاقم شعورهم بالحيف، وتراجعت ثقتهم بالمسؤولين، فلم يسعهم غيرُ اللجوء للاعتصام كوسيلة مشروعة للاحتجاج. نعم، يؤسف له جدا أن ارتفقت الاعتصامات في عدد من ساحاتها الرئيسة ببعض صخب وشغب، بأعمال تخريب وتعطيل ما كان ينبغي أن تحدث، وأرجو أن لا تحدث، وأن لا يستجد مبرر لحدوثها مستقبلا أبدا. لكن، كأمر واقعي، تُرى هل نجد احتجاجات شبابية في أيما مجتمع تخلو تماما من مثل هذه السلبية عندما لا يُحسَن التعامل مع المشاكل مثار الاحتجاج، عندما لا يُتفهم على بواعثها، عندما لا يُعتَرف إزاءها بالتقصير، وعندما لا يبادَر إلى اتخاذ إجراءات عملية مقنعة وعاجلة لتصحيح الأخطاء وتحسين الأوضاع دون مكابرة أو إلقاء أعذار؟

نتساءل أيضا: تُرى كيف غفلت الحكومة عن مشكلة تراكم العطالة بين الشباب، وضمن الحكومة وزارة موكول لها إدارة الاقتصاد الوطني، وأخرى مسؤولة عن التعمين، وكلتاهما تمتلك إحصاءات دقيقة عن وضع العمالة في البلاد، وكلتاهما معنية، كأمر أساس، بزيادة فرص العمل للعمانيين على نحو مستطرد متصاعد؟ كيف لم يُلتَفت إلى سياق تناقضي ظل يتعاظم على مدى السنوات الأخيرة بالأخص، حيث أعداد العمالة الوافدة كانت في ازدياد ملحوظ، وأعداد العمالة الوطنية نسبيا في تناقص؟ بنظري، أقرب ما يمكن أن يفسر تراكم هذا الخلل الخطير الذي تباعا أدى إلى لجوء الشباب إلى الاعتصام، كتعبير صارم للاحتجاج، عواملٌ ثلاثة: خبط في الأولويات قدم المهم على الأهم، تغليب الاهتمام بالانتفاع الخاص على الاعتناء بتحقيق الصالح العام، وانصراف إلى تنمية اقتصادية غير موصولة تماما بمقاصد التنمية الإنسانية. هذه العوامل الثلاثة، بشتى تفريعاتها، أمست تباعا جزأ من حوارنا الوطني، وهي لا تزال.

الحديث عن التنمية الإقتصادية ليس تماما كالحديث عن التنمية الإنسانية. معايير التنمية الإنسانية تتجاوز مجرد الكم والحجم بالقياس الرقمي، تتجاوزها إلى إحداث نقلة حضارية مجتمعية شاملة. طبعا التنمية الاقتصادية هي الأساس الممهد بحكم ما توفر من عناصر ممكنة من إطلاق التنمية الإنسانية، عناصرَ كالصحة والتعليم والسكن اللائق، ويسر المعاش، وسوى ذلك من احتياجات الحياة المعاصرة. لكن التنمية الإنسانية لا تنطلق بمجرد توفير هذه العناصر: ما يلزم أيضا هو أرادة مستنيرة هادفة تدفع نحو استكمال كافة استحقاقات الحياة الحضارية: سياسية، مدنية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، معرفية. ما يلزم هو استبصار يتبنى نموا موسِعا في توفير فرص العمل، نموا مرتبطا عضويا بتحقيق عدالة توزع الناتج الاقتصادي، نموا موصولا بضمان حقوق المشاركة السياسية واحترام الحريات الأساسية، نموا مؤصلا ومعززا للهوية الثقافية، نموا رصينا غير مبدد للموارد في مظاهر بذخ أو إشباع رغبات مكلفة لاهية.

شؤون أيما دولة – كما أسلفت – تديرها حكومة الدولة، إذن قمين أن يمارس المجتمع الوطني أقصى الحصافة إزاء تركيبة الحكومة، نظام عملها، واختيار من يؤتمن ضمنها على مواقع المسؤولية، المسؤولية في المستويات العليا بالأخص. مجتمعنا يشهد حراكا بينا نحو الإصلاح والتطوير، لذا وجب أن نظل على رصد مستدام للكيفية التي يدار وفقها الشأن الوطني، لأجل أن تُتدارك الأخطاء قبل أن تتفاقم، لأجل أن يُرفَع من مستوى الأداء، لأجل أن يُحال دون الترهل والتواكل، ولأجل أن يُمنع تسرب الفساد. هنا لعلي أستعرض بإيجاز الهيكلية الدستورية التي استقرت عليها معظم دول العالم لضمان سلامة الاجتهاد في الشأن الوطني، ومن ثم حسنِ تدبير الأمور.

عندما ينظَم الشأن الوطني في إطار دولة، ينظَم وفق دستور يولى الدولة كامل السلطة لأدارة الشأن العام. تباعا، تفرع الدولة وفق دستورها السلطة العامة في ثلاث: سلطة تشريعية، سلطة تنفيذية، سلطة قضائية. وفق دستورها أيضا، تنظم الدولة العلاقة بين السلطات الثلاث على مبدأ الفصل ومبدأ التعاون، معا في ترادف. مبدأ الفصل يحول دون تفرد أية سلطة بصنع القرار الوطني. مبدأ التعاون يلزم السلطات الثلاث بصياغة القرار الوطني بمنهجية الشراكة المؤسسية ما بينها وفق ما ينص عليه الدستور. بالمبدأين معا يتحقق مطلب ممارسة الاجتهاد المتكامل في الشأن الوطني من جانب، ومن الجانب الاخر، يُتغلب على أي تعمد قد يلجأ له في الإعاقة والتعطيل. من الدساتير العالمية ما يعلي نسبيا مبدأ الفصل بين السلطات على مبدأ التعاون ما بينها، كما مثلا دستور الولايات المتحدة الأمريكية، ومنها ما يعلي نسبيا مبدأ التعاون على مبدأ الفصل، كما مثلا دستور جمهورية الهند. لكن السائد عالميا هو تبني المبدأين معا في ترادف، لأجل إيجاد التوازن وتباعا ضمان سلامة سير الأمور.

عموما تعتبر السلطات الثلاث متكافئة، إلا أن السلطة التشريعية ترتب الأولى دستوريا لكونها الجهة المشرعة لكل ما يتصل بالشأن الوطني، وكونها أيضا مصدر تجويز التمويل وتحديده لكل ما يشرع وتباعا يفوض للتنفيذ من قبل السلطة التنفيذية. السلطة التنفيذية هي التي تتشكل ضمنها الوزارات تحت مجلس الوزراء الذي يعمل بمسؤولية تضامنية. الوزارات وسائر الأجهزة التنفيذية في الدولة تخضع لمراقبة ومساءلة مستدامة من قبل السلطة التشريعية. أما السلطة القضائية فمجالها المستقل هو ضمان تطبيق العدالة بين الناس، النظر والحكم في دستورية القوانين، وتفسير منطوق الدستور في أيما نزاع يقع حول ذلك بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. يمارس هذا كله عبر محاكم متدرجة المراتب، تنتهي صعودا عند محكمة دستورية عليا لا يقبل حكمها نقضا أو طعنا من أي من السلطتين التشريعة والتنفيذية، أو حتى منهما معا في تآزر.

ألاحظ أيضا أن الديمقراطية بمعنى اعتماد المرجعية الشعبية في النظر والتقرير، ومن ثم لزوم المشاركة العامة في صنع القرار العام عن طريق العملية الانتخابية والممارسة البرلمانية، مع كونها – أي الديمقراطية - نظاما سليما لإدارة الشأن الوطني، إلا أنها لا تفي جذريا بالمطلب الحضاري إذا لم تؤصَل في مبادئ أخلاقية ثابتة واضحة – تحديدا إذا لم تؤصل في مبادئ العدل والمساواة وكرامة الإنسان. من هذه المبادئ الثلاثة تتفرع جميع حقوق الإنسان، وتباعا جميع حقوق المواطنة المتساوية. إدراكا لصميم أهمية هذا التأصيل الأخلاقي لنظام الدولة وأداء الحكومة في الإطار الديمقراطي نجد أن الدساتير المعاصرة تُستهل بديباجة تلزم الدولة والحكومة بالتثبت في هذه المبادئ. بمعنى آخر: إنها تلزمهما بإخضاع النظام الديمقراطي الممارس دوما لخدمة هذه المبادئ، وتمنعهما مطلقا من التنكر لها أو تجاهلها.

استكمال عناصر الدولة العصرية المنشودة لتنظيم شأن الوطن على وجه مثيل، وبذلك تحقيق ما أشار إليه جلالة السلطان في موقع آخر من خطابه التاريخي بمواكبة التقدم الحضاري في جميع الميادين، بنظري بالضرورة يتطلب استقرار نهجنا الوطني في نظام ديمقراطي راسٍ – كما أسلفت - في مبادئ العدل والمساواة وكرامة الإنسان. هذه المبادئ المقوّمة والمثرية للخبرة الإنسانية في كل زمان ومكان ليست مستجدة في وعينا، ليست طارئة في خبرتنا، ليست مقتبسة من آخرين. إنها سابقة، شرحا وتأكيدا، جملة وتفصيلا، في تراثنا الحميد. إنها مؤصلة في القرآن المجيد.

في مقدمة موسوعته الثرة "قصة الحضارة" يشخص ويل دورانت، وهو من أبرز مؤرخي تاريخ الحضارات منذ باكورة الحراك الحضاري في أرض الرافدين وفي الهند ومصر والصين... يشخص أربع مؤشرات يمكن أن يستدل بها على مسعى أيما مجتمع على المسار الحضاري. أولا: كيف يحكم المجتمع: أي هل يحكم بسلطة منبثقة من القاعدة، أم بسلطة تملى من القمة. ثانيا: هل هو مجتمع منتج، بمعنى موجد للقيمة الاقتصادية بجهده ومهارته، أم أنه يعيش من مورد طبيعي يأتيه رغدا دون كد. ثالثا: ما وضع المجتمع بالمعيار المعرفي، بمعنى هل هو يستنبط المعرفة العلمية وينميها ذاتيا، أم أنه يعمل بمعارف يقتبسها من اجتهاد آخرين. رابعا وأخيرا: ما وضع المجتمع أخلاقيا: أي هل هو مجتمع تسود فيه مبادئ العدل والمساواة وكرامة الإنسان، والقيم المتلازمة مع هذه المبادئ، أم أنه، مع عدم نكرانه وجوب سيادة هذه المبادئ والقيم في الحكم والحياة، لا يحفل بها كثيرا في التطبيق.

أرجو، بل أثق، أننا في هذا الوطن سائرون على الدرب حثيثا في استيفاء جميع هذه المعايير الحضارية بالإيجاب. نحن وطن عريق موصول بحضارة وعت، منذ المبعث قبل أربعة عشر قرنا، مركزية هذه المبادئ والقيم في تقويم شأن المجتمعات وإرساء أمرها على وجه مثيل. ثم بنشر الإسلام عالميا غرست حضارتنا وعيا بهذه المبادئ، وبالقيم المتلازمة معها، في خبرة عديد من الأمم. نعم ركدنا طويلا فتخلفنا، وقد كنا من قبل، في العصر الذهبي، في القرون الهجرية الأولى، رواد المعرفة والمبادرة بامتياز. حتى إذا بزغ هذا العهد الميمون في النصف الثاني من القرن الأخير، من بعد برزخ تخلف مديد، أولانا بزوغُه فرصة جديدة طالما انتظرناها للحاق، بل للتفوق على المسار الحداثي والحضاري معا في ترادف. فعسى أن يكون لنا ذلك بتوفيق بالله، وبهمة فينا وفي أجيالنا الصاعدة تقوى مع الأيام ولا تخور ولا تفتر.

* سفير عُماني سابق، وحالياً رئيس مجلس إدارة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء

ورئيس المجلس الاستشاري لمركز الحوار العربي الأمريكي

** محاضرة ضمن ندوة حول "مفهوم الحوار ودوره في الحراك الوطني العُماني"

أقامتها تعاونيا ثلاثة مراكز ثقافية بمدينة صلالة، سلطنة عُمان، الجمعة 10 فبراير 2012

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 22/شباط/2012 - 29/ربيع الأول/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م