يعكف القادة السياسيون ومن فوقهم كمظلة راعية فخامة رئيس الجمهورية
جلال الطالباني على تهيئة الأجواء المناسبة لعقد المؤتمر الوطني الذي
تحدثوا عنه ـ بتسميات متعددة آخرها الإجتماع الوطني ـ أكثر مما سيتمخض
عنه من نتائج..
وبغض النظر عن التكهن بأسباب نجاح هذا المؤتمر من عدمه لا سمح الله
فإن المؤتمر وهو في قيد التحضير حُمِّل ما لا يحتمل من أسباب الإثقال
والترهل بالطروحات المتيبسة والمطالب المستهلكة إعلاميا وموضوعيا ومن
قبل الكتل الرئيسة الثلاث جميعها..
حينما نكون أمام فسحة لتبادل الآراء والتوجهات والإقتراحات التي
تخرج البلد من نفق الظلامية التي يعيشها لا بد أن يستعد كل طرف من
الأطراف المتصارعة إلى أن يتزود بزاد التقوى ويستعد لسفر الجهاد
والتحمل والتنازل، لا أن يحزم أربطة المطالب العالية ويرزم حقائب
الإمتيازات التي يريد انتزاعها من المقابل بموجب هذه الصفقة السياسية
والوظيفية أو تلك حسب منطق المحاصصة الذي هوى بالعراق الى هذه الهاوية
البغيضة.
إننا أمام واحد من المنعطفات الكثيرة التي تم تكبيل الشعب بتحدياتها،
تبرز لنا كلما تحلحلت مشاكل السياسيين مع بعضهم وكلما غادروا أزمة غير
آبهين بنتائجها الكارثية على حياة المواطن البسيط ومستقبله.. وحين يوصف
المؤتمر الوطني الجديد بانه منعطف فبماذا سيأتي مختلفا عن المنعطفات
التي سبقته.؟ إن مسلسل الأزمات المفتعلة والمنعطفات المصطنعة ما هي إلا
سياسة عابثة تهدد العملية السياسية برمتها وكثيرا ما يشعل فتيلها
سياسيون غير فاعلين في المجتمع والدولة ومن كثيري الغياب عن جلسات مجلس
النواب وبعضهم لا يعرف أين يقع مقعده المخصص له في قاعة صناعة القوانين
ومراقبة أداء الحكومة، وقد شهد العام الفارض 2011 سلسلة من الأزمات
أسدلت ستار الغشاوة على أعين وبصائر المتصدين والمراقبين على السواء.
ماذا جنى المواطن العراقي من السجال التهديدي المستمر بين القائمة
العراقية ودولة القانون؟.. وماذا جنى المواطن من إنسحابات القائمة
العراقية من جلسات مجلس النواب ومجلس الوزراء.. ثم ماذا جنى من عودتها
التي لايَعرفُ لها هدفاً أصلا بعد أن لم يُعرَفْ قبلُ هدف الإنسحاب
بالأصل؟؟..وخصوصا حين يصرح ناطق باسم العراقية بأن عودة ميمونة ستقوم
بها العراقية الى جلسات مجلس النواب وبشائر الفرحة بادية على محياه، ثم
يخرج علينا في نفس اليوم ناطق آخر من العراقية نفسها ويقول أن العودة
الميمونة هي عودة جزئية لإكمال نصاب والتصويت على الموازنة فقط نعود
بعدها الى المقاطعة، ثم يخرج آخر ويقول ( ماعليكم بهذا يحجي بكيفه )..
ولم نجنِ نحن البسطاء من المواطنين ربحاً لا من خروج أحد ولا من عودته.
أما الطرف الآخر فأنه يمد السجال ببعض التصريحات الإستفزازية ويسخّر
الناطقين باسمه ليقولوا أن انسحاب العراقية عن جلسات مجلس النواب لم
يعرقل المجلس عن أداء واجباته التشريعية والرقابية وكأنه يعطيهم
الذريعة الباهتة التي يتذرعون بها بأنهم هامشيون أو مهمشون.
ولم يخطر في بال كلا الطرفين أن يتلمس مطالب الطرف الآخر ويؤثر
مصالح البلد العليا على رؤيته الضيقة تجاه الآخر ويديم الحوارات
المباشرة التي لا تحتاج الى وساطات.. من هو أياد علاوي ومن هو نوري
المالكي.. أليس هما راكبان في مركب واحد تتقاذفه رياح الإرهاب والجريمة
والفقر والتدخلات الخارجية والتحديات الداخلية التي أقلها التآمر على
نظامه السياسي الجديد الذي بني بالتضحيات المادية والدموية
والمعنوية.؟.. الوساطة الوحيدة المطلوبة في الوقت الحاضر ـ مع جل
تقديرنا للسيد رئيس الجمهورية ـ هي صحوة الضمير الوطني المتغيب عن
الحضور والإحتكام الى الدستور.. وإذا قرئ الدستور من زوايا متعددة
مختلفة فهذا ليس عيبا.. فدستورنا بحاجة الى إنضاج وتعديلات قانونية
لكنه على وضعه الحالي يصلح بل يجب أن يكون هو الحاكم والحكيم.. ولا ضير
في الذهاب الى مرجعياته القضائية العليا الراعية للدستور والمفسرة
لأحكامه الملتبسة.
يبدو لي وأنا أتابع المسيرة المتعثرة للمصالحة الوطنية أنني أمام
استحقاق جديد في العملية السياسية اسمه (الصدق) في التعامل.. نحن بحاجة
الى إصداق شعبنا بنوايانا الحقيقية ومن يعجز عن التعاطي مع شعبه
بشفافية وصراحة سوف لن يبقى ناخبوه داعمين له طول الخط الى ما لا
نهاية..الثقة بين الجمهور وقياداته السياسية تصدعت كثيرا وآفاق الأمل
بالإصلاح تتلاشى تدريجيا بعد أن ترك السياسيون مصالح البلاد والعباد
وإتجهوا لمصالح الشيطان المُغوي بالفرقة والتشتت.
إنني بكل تواضع أدعو قادة البلاد السياسيين الى إعمال المصلحة
العامة على الخاصة والإحتكام الى الدستور وترك الخصومات الفارغة التي
تتكئ مرة على اتفاقيات هلامية وإيفاءات منقوصة لتنفيذها ومرة تتكئ على
سقوف عالية للمطالب غير الواقعية.، الأمر الذي يستدعي الجلوس الى طاولة
حوار واحدة إما تحت قبة البرلمان وإما في قعر دار الحكومة ودوائرها
المعنية وليستظلوا بالدستور العراقي النافذ ومبدين مزيدا من التفهم
والتفاهم وليرسل أحد الطرفين رسائل ودية لتطييب الخواطر الأخوية الى
الطرف الآخر دون الإضطرار الى مؤتمرات لاتجدي نفعا واضحاً دون أن تستل
تلك الأطراف سيوف التهديدات والحملات الإعلامية التي ينساق وراءها
الجهال من الرعاع وليرسل كل رسولا مؤثرا بالقصد والفعل لغرض رص الصف
ليس إلا.. قال الشاعر:
رسولك سيفٌ في يمينك فاستجدْ
حساما ولا تضرب به قبلَ صقلِهِ
فمَنْ يَكُ ذا سيفٍ كهامٍ فضُرُّهُ
يعودُ على المعنيِّ منهُ بجهلِهِ
ورب قول أنفذ من صول
* ناصرية دورتموند ـ ألمانيا |