الثقافة والصراع الحضاري

محمد محفوظ

لعل من الطبيعي القول ان الخلفية الدينية والحضارية، لها التأثير العميق، في عمليات الحراك الاجتماعي بجانبيها السلبي والإيجابي..

ولكن إرجاع كل الظواهر الصراعية إلى العامل الحضاري، يعد تحليلا تعسفيا بحق التاريخ وأحداث الراهن.. إذ أن العامل الحضاري يؤثر بعمق في رؤية المجتمع إلى قيمه ومصالحه الآنية والبعيدة.. ولكن هذه الرؤية والمصالح لا تتشكل فقط من العامل الحضاري، بل يشترك مع هذا العامل الكثير من العوامل السياسية والاقتصادية والمجتمعية.. فالعديد من الصراعات المعاصرة، ترجع أسبابها إلى تلك العوامل.. دون أن يعني هذا إغفالا لدور العامل الحضاري في تشكيل الوقائع..

وبطبيعة الحال وباعتبار أن الحضارات كيانات ثقافية، وتتحدد هذه الكيانات بالعناصر الموضوعية المشتركة مثل اللغة والدين والتاريخ والعادات والمؤسسات، وبالتحديد الذاتي، الذي يقوم به الشعب لنفسه.. ولكن تمايز الحضارات الديني واللغوي والتاريخي والثقافي، لا يؤدي إلى الصدام والصراع.. وإنما الذي يؤدي إلى الصدام والصراع هو المصالح السياسية والاقتصادية والإستراتيجية العليا، التي تقوم بتوظيف هذه التمايزات في اتجاهين أساسين :

اتجاه لتبرير الصدام والصراع الذي ستقوم به تلك النخبة، صاحبة المصلحة السياسية والاقتصادية، تجاه المجتمعات والشعوب الأخرى، من أجل أن تضمن هذه النخبة، تعبئة نشطة وفعالة، وتحت عناوين ومسميات تؤثر في المخيال الغربي..

واتجاه تغطية الأطماع التوسعية والاستعمارية، برداء التمايز الحضاري، الذي يدفع إلى ضرورة الغلبة الحضارية لأحد الأطراف.. وبما أن الحضارة الغربية اليوم، هي التي تمتلك أسباب القوة والمنعة، فتكون هذه المقولة، بمثابة المبرر النظري – التاريخي، لنمط الهيمنة والغطرسة، التي تباشره قوى الحضارة الغربية اليوم تجاه الشعوب والأمم الأخرى..

وإننا نرى أن الحضارات تتمايز في مرجعياتها العقدية والفكرية والتاريخية، ولكن هذا التمايز لا يؤدي في حدوده الطبيعية إلى الصدام.. وإنما نحن نرى هذا التمايز سبيلا إلى الاقتناع التام بضرورة التعدد الحضاري في الكيان الإنساني العام..

ولعل في توجه العوالم اللاغربية في تشكيل العالم بطرائق غير غربية، ليس حافزا ودليلا للصدام الحضاري.. وإنما هي ظاهرة جد طبيعية لمقولة التمايز الحضاري في العناصر الموضوعية الأساسية.. فلا شك أن تمايز آراء الحضارات في العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الله والإنسان، والمواطن والدولة، والآباء والأبناء، والزوج وزوجته.. كل هذه التمايزات تدفع كل كيان حضاري، إلى أن يشكل واقعه وفق تلك الطرائق السائدة لديه..

وليس من المعقول أن نعترف بهذا التمايز، ومن ثم نرى في عودة المجتمعات الأخرى إلى جذورها الحضارية دليلا على أن الصدام بين الحضارات هو النمط المقبل للنزاع في العالم..

ولعل في مطالبة " هنتغتون " الأمم الأخرى بتشكيل نمط حياتها وحضارتها وفق النمط الغربي.. مؤشر صريح على عقلية التمركز الغربي التي لا ترى في الوجود الحضاري " التاريخي والمعاصر " إلا الغرب وحضارته.. وبون شاسع كما يبدو بين عقلية التمركز الغربي وتداعياتها الإستراتيجية والحضارية، وبين مقولة أن التمايز الحضاري الموجود في العالم سيؤدي لا محالة إلى الصدام الحضاري.. فالحضارات الإنسانية بإمكانها أن تتعايش وتتفاعل مع بعضها البعض، لو تخلى الغرب اليوم عن نمط الاقتصاد والنفي لكل الحضارات الأخرى.. وإن الوعي بالحضارة لو أحسنا توظيفه، وتعاملنا معه بروح وعقلية متفاعلة.. فإنه " الوعي بالحضارة " سيسهم بشكل جمعي في تطوير الإنسان فردا وجماعة.. وإن ( هذا التعدد يبقى أشكالا من التماثلات والرؤى والتحليلات الذهنية التي لا علاقة لها بصدام أو صراع فيما بينها.. انها تعبير – وفي الحالات التي تعرض لها – عن سياقات في تحول العقليات الغربية ومن داخل معايشة أزمة الحضارة الغربية نفسها.. أما أهل هذه الثقافة أو تلك، فلا يصادمون بعضهم بعضا بسبب اختلاف ثقافتهم وحضارتهم وتصورهم للحياة والكون.. وليس صحيحا أن ثقافة أو حضارة ما تحمل في داخلها عنفا أو عدوانية كثقافة أو حضارة لجماعة من البشر، اللهم إلا إذا تلبست هذه الحضارة أو هذه الثقافة دولا وإمبراطوريات وسياسات توسعية أو أنها شكلت، في المقابل، إطار حماية وممانعة في وجه سيطرة استتباع أو اقتلاع أو إفقار وتجويع أو اضطراب اجتماعي (راجع صدام حضارات، أم إدارة أزمات – الدكتور وجيه كوثراني)..

لهذا فإننا نرى أن الخيار البديل إلى صدام الحضارات، هو أن تتفاعل الحضارات الإنسانية مع بعضها البعض، بما يعود على الإنسان والبشرية جمعاء بالخير والفائدة..

وحين نقرأ تاريخ التطور التاريخي للحضارة المعاصرة نكتشف أن هذه الحضارة بمكوناتها المتعددة، هي من صنع البشرية جمعاء.. بحيث ان عملية التراكم على مستوى الحضارات، هي التي أوصلت البشرية إلى هذا المستوى العلمي والحضاري المعاصر..

فالحضارة الحديثة ليست من صنع الغرب وحده.. بل هي من صنع جميع الأمم والحضارات، أوليست الحضارة تواصلا إنسانيا من جيل لآخر.. لذلك فليس من المعقول أن يكون القدر المحتوم هو الصدام والصراع.. وإن الموقف المنطقي الذي ينبغي أن يسود العلاقة بين الحضارات، هو موقف التفاعل.. لأن الشراكة الحضارية تقتضي اتخاذ هذا الموقف لا موقف الصدام والصراع..

ونحن حينما نرى أن الخيار الإستراتيجي الذي ينبغي، أن يحكم علاقات الكيانات الحضارية، هو خيار التفاعل.. لا نلغي بذلك جدلية الصراع والمدافعة الاجتماعية والحضارية.. وإنما نحن نؤكد على هذه الجدلية من خلال مقولة التفاعل، لأن التفاعل بين الحضارات، لا يعني الجمود والتكلس والرتابة والأفق الواحد في العلاقات.. وإنما هو يعني المزيد من التنافس وإثبات الجدارة الذاتية لكل كيان ومدرسة حضارية..

ولكنه إثبات في سبيل البناء والتطوير..

فالتفاعل عملية صراعية، ولكنها متجهة نحو البناء والاستجابة الحضارية لتحديات الراهن.. عكس مقولة صدام الحضارات، التي هي مقولة صراعية تدفع الغرب بإمكاناته العلمية والمادية لممارسة الهيمنة ونفي الآخر والسيطرة على مقدراته وثرواته، تحت دعوى وتبرير أن نزاعات العالم القادمة سيتحكم فيها العامل الحضاري..

ولا بد في هذا الإطار من إدراك حقيقة أساسية، وهي أنه لا يوجد كيان حضاري يمثل الخير المطلق أو الشر المطلق.. وإنما هي كيانات إنسانية تتضمن الخير وتنشده، كما أنها تمارس الشر بقصد أو بدون قصد..

والتفاعل بين الحضارات وحده هو الذي يجعل الإنسانية جمعاء، تستفيد من محاسن الحضارات ومنجزاتها الصالحة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 8/شباط/2012 - 15/ربيع الأول/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م