شبكة النبأ: "ما أحسن منظرك وأطيب
قعرك، اللهم اجعل قبري بها"، هذه التمنيات لم تختص بالمسلمين، وانما
المسيحيين أيضا كانوا يشاركونا بقدسية الأرض. فالتنقيبات الأثرية،
أثبتت وجود اكبر مقبرة مسيحية في العراق، في محافظة النجف الاشرف، فليس
غريبا على النجف إن تكون مدينة المقابر التاريخية، بعد أناحتلت وبجدارة
الترتيب رقم (1) كونها مقبرة عالمية متلونة تضم قبور فرثية ومسيحية
وإسلامية تعود إلى ألاف السنين، فمقبرة وادي السلام ذات الطابع
الإسلامي كانت ثاني اكبر وأقدم مقابر العالم بعد مقبرة الفاتيكان
المسيحية، فالنجف وان غمضت بين ربوعها جفون الأنبياء والرسل والزعماء
والمصلحين والعلماء والمفكرين والأدباء وعامة الناس، وتوسدت ملايين
الأجساد، بين رمالها، علها تنجو بفضل قدسيتها في الحياة الآخرة إلا إن
سيد النجاة وأقدس من فيها وجود الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام).
وثمة تساؤلات كشيرة يطرحها الناس اليس من الغريب ان تكتشف مقابر
النصارى فمتى اصبحت النجف مسيحية؟ ولماذا اعتنق الناس المذهب النسطوري؟
ومن منقبوا القبور؟ وماذا وجدوا؟ وكيف اثبتوا مسيحية القبور؟ وماهي
اللقى المكتشفة؟ ومن هم اشهر العلماء والملوك النصارى في النجف؟... الخ،
هذه التسؤلات يجيبها المختصين من الباحثين في مجال التأريخ والاثار.
النجف اكبر مقبرة مسيحية
يقول محمد بدن الميالي مدير مفتشية آاثار محافظة النجف الاشرف"ان
التنقيبات التي اجريناها منذ سنوات ولازلنا، حول المقابر تؤكد ان النجف
الاشرف تحوي اكبر مقبرة مسيحية في العراق، مساحتها 1416 دونم تسمى (ام
خشم)، وهذه المقبرة لها امتداد واسع من محافظة النجف الى المناذرة
وصولاً الى منطقة الحصية، على طريق نجف غماس فهي مقبرة كبيرة جداً وهذا
هو موقع واحد ولازلنا مستمرين بالتنقيبات".
ويضيف الميالي "عثرنا على دلالات موجودة على القبور المسيحية متمثلة
بعلامة الصليب، كما عثرنا على قطعة حجرية كتبت عليها (عبد المسيح) وهو
شخصية مسيحية معروفة ما قبل الاسلام، في مدينة الحيرة وعثرنا على لقى
اثرية تعود الى الفترة الفرثية والفترة الساسانية وفترة ما قبل الاسلام".
وبين محمد، "ان القبور المكتشفة في موقع ام خشم هي خمس انواع: اولاً،
القبور المغطاة بالجرار الفخارية اذ يختلف عددها من قبر الى اخر واقل
عدد هو 6 جرار (فيها ستة موتى)، اما النوع الثاني مغطاة بنوع من الحجر،
والنوع الثالث من القبور مغطاة بطبقة من الطين، والنواع الرابع مغطى
بطبقة من الفرثي، اما النوع الخامس وهي قبور نادرة عبارة عن تابوت
فخاري على شكل جملوني، ومن هذا النوع ايضاً تابوت فخاري جملوني صغير
لدفن الاطفال بقياس كل شخص".
وحول المكتشفات الاثرية اكد الميالي، "تم اكتشاف قناني زجاجية
تستخدم لحفظ العطور وتختلف انواعها من حيث صنعها ففيها انواع نادرة
وبعضها كؤوس، اذ تشتهر الحيرة بصناعة الزجاج في تلك الفترة،وتنفرد بهذه
الصناعة، وتختلف اللقى الاثرية في القبور من ميت الى اخر، حسب منزلة
الميت الاجتماعية والاقتصادية فضلاً عن مهنته، فاللقى المكتشفة في
القبر تدل على ان الميت رجلاً او امرأة، من خلال الحلي وانواعها، واغلب
المكتشفات هي القناني الزجاجية والقلائد من خرز العقيق وجرار فخارية
صغيرة الحجم وكبيرة، واختام عليها رسوم حيوانية، واواني عليها كتابات
قديمة، وان اغلب الجرار عليها علامة الصليب، وهذا دليل على اعتناقهم
الديانة المسيحية وبعض المكتشفات عليها كتابات يهودية، حتى بعد الفترة
الاسلامية، بقيت هناك مناطق مسيحية ومناطق يهودية وهذا يدل على التعايش
الديني،الذي يقودنا الى اهتمام علماء الاثار الغربيين بموقع الحيرة منذ
عام 1932 اذ نقبت اول بعثة المانية الموقع الأثري".
وزاد الميالي "ان القبور المكتشفة في بحر النجف والمناذرة متشابهة
وتعتبر منطقة الدكاكين او عين الشايع_ كما يسمحونها في منخفض بحر النجف
اقدم منطقة وتعود الى في فترة الساسانيين، أي الى ما يقارب 2000 سنة".
وحول كيفية دفن الموتى ومواد الدفن يوضح، "تختلف المواد المستخدمة
وشكل القبر في الدفن واغلب القبور تعود الى الفترة الفرثية التي تحوي
توابيت فخارية كبيرة، اذ يكون القبر جملوني الحجم بينما القبور
الساسانية تكون على شكل جرار فخارية، متعددة واقل قبر يحتوي 6 جرار (أي
ستة موتى).
وعن اهمية التنوع في الدفن يؤكد، "ان التنوع في الدفن في منطقة ام
خشم اكثر من تنوع الدفن في مقبرة المناذرة، لوجود تعاقب في الدفن في
منطقة ام خشم فالدفن يكون فرشي ساساني، اما في المناذرة فيعود للفترة
الساسانية، وسبب اهمية منطقة ام خشم الاثارية لكونها تقع على ضفاف نهر
الفرات وتابعة ادارياً القضاء المشخاب حالياً.
فالمناطق القريبة من الانهار الاكثر دفناً لقدسيتها، حسب اعتقادهم
الديني آنذاك، كما ان العلامات الموجودة على الجرار تختلف، فبعضها
موجود عليها علامة الصليب، والبعض الاخر يكون الصليب معقوفا، فضلا عن
وجود حروف مختلفة، ويعتقد الباحثون ان سبب اختلاف العلامات والحروف على
القبور هو رمز العائلة التي ينتمي اليها الميت".
واشار الميالي الى مستوى حفر القبور "ان مستوى حفر القبور في ام خشم
والمناذرة يتراوح من 115 سم الى 150 سم، أي بصل الى متر ونصف، وقد عثرت
بعثة يابانية في عين شايع على انواعاً من القبور، ويبدو ان القبور في
بحر النجف والمناذرة وام خشم والحصية هي للدفن، اما الحيرة القديمة فهي
للسكن وممارسة العبادات والتي توجد فيها الكنائس والاديرة والسكان
المسيحيين، وقد عثرنا على وثيقة مهمة تؤكد ان الدير المكتشف حالياً
يعود الى عبد المسيح بن بقيلة من خلال عثورنا على حجراً بالخط القديم
وهذا دليل مادي مهم".
أكثر من 33 ديراً في النجف الاشرف
اما مؤرخ النجف الاشرف المعاصر وأستاذ التاريخ، الدكتور حسن عيسى
الحكيم يؤكد "ان المقابر كانت تصطحب الأديرة، فكثيرا من الناس كانوا
يدفنون موتاهم في جزء من الدير لأكتساب قدسية المكان، فأين ما نعثر على
مقابر، فهذا يدل على وجود كنيسة أو دير قربها، وقد عثر في منطقة أم خشم،
بالقرب من منطقة أبو صخير على مقبرة كبيرة مازالت دائرة الآثار تعمل
فيها".
واضاف الحكيم "إن منطقة بحر النجف تحوي أكثر من مقبرة، لو اجري
تنقيب لها بصورة سليمة وصحيحة يمكن ان يكتشفوا آثار "شيا" التي لم يكشف
النقاب عنها بعد، وهي لا تبعد عن النجف سوى 10 كم باتجاه الطارات على
طريق نجف كربلاء، وعندما تقف على آثار( شيا) فأنك تشاهد المرقد الشريف
للأمام علي (ع)، وهذه المنطقة فيها تلال قائمة، تعود الى عهد المناذرة،
وتحتاج المنطقة الى مسح ميداني، واملنا كبير بمديرية اثار المحافظة ان
تقوم بهذه المهمة، وبطبيعة الحال ان انتشار الاديرة في اماكن متعددة
تكون موضع للدفن، ووجود اكثر من 33 ديراً، معناه مقابر كثيرة للمسيحيين
في النجف الاشرف".
وتحدث المنقب الآثاري باسم كاظم عبود "بخصوص المقابر ان "مقبرة
النجف الاشرف كبيرة جداً تبدأ من منطقة ام خشم والمناذرة وحتى مقبرة
وادي السلام، فاذا اردنا حساب المساحة الكلية لمقبرة النجف دون تحديد
العامل الديني فهي اكبر من حجمها الحالي بكثير، اذ توجد قبور المسيحين،
وقبور فرثية قبل الديانة المسيحية تعود الى ما قبل الميلاد".
ويضيف باسم "عثرنا على بعض اللقى المسيحية والصلبان والهدايا التي
تدفن مع الموتى،كما توجد مقبرة مسيحية في منطقة ابو صخير، وقلاع كقلعة
الذرب، التي تعود للفترة العثمانية هذه القلاع تحتها احد المقابر
القديمة التي تعود الى ما قبل الميلاد والفترة الفرثية".
ويصف باسم ما يوضع مع الموتى "توضع مع الميت قناني زجاجية صغيرة
فيها بعض العطور واخرى فيها زيوت مقدسة تدفن مع الميت، كما يوضع صليب،
فضلا عن بعض الامور الحياتية من ملابس ومصوغات حسب اعتقادهم، انها
ستنفع الميت في العالم السفلي، كما عثرنا خلال فتح بعض المقابر على
رقيم طيني في عصور ما قبل الاسلام، يوضع مع الميت، يبين ان الميت عبد
ام آمه، وقائد ام حر كما توضع معه عقود المشتريات خلال فترة حياته، او
قائمة ببيعه املاكه، مكتوبة على الطين في الفترات البابلية الحديثة،
وهذه المقابر منتشرة في اطراف مدينة النجف".
النصارى وقدسية الدفن في ارض الحيرة
تقول الباحثة سلمى حسين ان "الديانة المسيحة انتشرت في الحيرة، احدى
اقضية محافظة النجف اليوم، واعتنق الناس المذهب النسطوري، في القرن
السابع الميلادي أي ما يقارب عام 400 مواول ملك اعتنق المسيحية هو
النعمان الاكبر سنة 420 م، المعروف بالسائح الاعور".
وتؤكد سلمى ان "الموتى من علماء المسيح كانوا يدفنون في الحيرة، اذ
تنقل لنا الروايات المعتبرة، ان هند اخت النعمان قامت بدفن البطريك
(ايشوع بابا لارزني) في ديرها المعروف بدير هند الصغرى، اذ كان النصارى
يعتقدون بقدسية الدفن في ارض الحيرة ومنهم البطريك داديشوغ 456 م،
واقاق 496 م، والبطريك بابوي الذي صلبه هورمزد الثالث قيرو، ودفن سنة
481 م فيدير ساليق، ثم قام قيور تلميذه بقل جثمانه فيما بعد الى
الحيرة، كما مدفون فيها البطريك حزقيال جرجيس، واحودمة الذي اغتيل بأمر
من كسرى انوشروان في 2 اب سنة 575 م، وكذلك عبد المسيح بن بقيلة الذي
كان من اعيان النصارى، لذا تشير بعض النصوص انه كان معمرا وبقى على
نصرانيته بعد الاسلام وعقد صلحا مع خالد بن الوليد، اذ جاء الاسلام في
سنة 14هجرية".
تقول الاميرة الراهبة هند الصغرى اخت ملك الحيرة "ليس من قوم في
ميسرة، إلا والدهر يعقبهم حسرة، حتى يأتي أمر الله على الفريقين" وتحقق
نبأ الأميرة، فتلك الأطلال تحكي للأجيال مجدها الغابر، وهذه القبور
المسيحية لابد أن تروي حكايات لتأريخ النجف الاشرف، تأريخ اعتناق
المسيحية، ولابد للدولة العراقية أن تهتم كثيرا، وهي دعوة لها لان تنهض
بآثارنا وتحميها وتعيدها، بعد أن باتت نهبا للسراق الدوليين، الذين
أرادوا أن ينهبوا حضارتنا، ويعبثوا بأمجاد مدينتنا... وعلى الحكومة أن
تعتني بالقبور المسيحية التي ستتحدث للعالم باسمنا، اننا (شعب حضارة). |