دولة المدينة.. مدنية

نـزار حيدر

مثلت هجرة رسول الله (ص) من مكة المكرمة الى المدينة المنورة (ربيع الاول عام 14 للبعثة) منعطفا استراتيجيا مهما في حياة المسلمين، وكذلك في مسيرة الاسلام كدين سماوي هو خاتم الاديان.

 انها الايذان بتأسيس (دولة المدينة) التي قامت على اساس الحق والعدل والمساواة بعيدا عن كل انواع التمييز وهضم الحقوق.

 ولأهمية هذا المنعطف، فقد اتخذه المسلمون بعد رحلة الرسول الكريم (ص) تاريخا لهم، ولذلك حق علينا ان نحتفي براس السنة الهجرية من كل عام (الاول من ربيع الاول) والذي يمثل الهجرة النبوية الشريفة، لنقف عند تلك المحطات الاساسية والمعاني السامية التي مثلها هذا الحدث التاريخي الهام.

 وان اول ما يتبادر الى الاذهان، ونحن نستذكر حدث الهجرة النبوية الشريفة، هو طبيعة (الدولة) التي اقامها رسول الله (ص) في يثرب، وهي المدينة التي هاجر اليها رسول الله (ص) وبقية المسلمين، والتي سميت فيما بعد بالمدينة المنورة، تيمنا باختيار الرسول الكريم لها لتكون محطته التاريخية لإقامة دولة الحق والعدل، لينطلق منها نور الاسلام ليشع على البشرية كلها.

 وبكلمة واحدة يمكننا القول بان (دولة المدينة) قامت على اساس الآية الكريمة التي وصف فيها رب العزة رسوله الكريم بقوله عز من قائل {وانك لعلى خلق عظيم} وبالتأسيس على قوله (ص) {انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق} اي ان هذه الدولة قامت على اساس (الاخلاق) التي تأدب بها رسول الله (ص) بقوله {ادبني ربي فاحسن تأديبي} وهو الشيء الذي امرنا رسول الله (ص) ان نمتثل اليه كما في قوله (ص) {تخلقوا بأخلاق الله} وقوله {ان المؤمن يأخذ بأدب الله}.

 ولقد غطت اخلاق الرسول الكريم كل مناحي الحياة، السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية وغيرها.

 ولو تصفحنا اوراق التاريخ المتعلق بـ (دولة المدينة) لرأيناها انها قامت على منظومة من هذه الاخلاق التي تحدث عنها القرآن الكريم ورسول الله (ص) والتي تقف على راسها:

 اولا: العلم، فهي دولة علمية تعتمد العلم في التخطيط والتنفيذ والتطوير على مختلف الاصعدة، السياسية والعمرانية والادارية والاقتصادية وغيرها، كما انها تعتمد العلم في وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وتعتمد العلم في الاستفادة من تجارب الانسانية، ولذلك قال (ص) {اطلبوا العلم ولو بالصين}.

 انها دولة اعتمدت العلم كأساس، فرفضت الجهل والتجهيل والتضليل، كما انها رفضت الخرافات والخزعبلات وثقافة الاحلام وغير ذلك من الامور التي تبقي المجتمع جاهلا لا يفقه او يفهم شيئا.

 ولقد وردت العديد من آيات القرآن الكريم تتحدث عن البعد العلمي في الرسالة المحمدية كما في قوله تعالى {ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} وقوله {واتقوا الله ويعلمكم الله} وقوله {ويعلمك من تأويل الاحاديث} وقوله {ن والقلم وما يسطرون} وهو قسم بأقدس ادوات العلم.

 اما رسول الله (ص) فقد قال بهذا الصدد {طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة} وقوله (ص) {انما يدرك الخير كله بالعقل ولا دين من لا عقل له} وبه قرن بين الدين والعقل، اي بين الدين والعلم، ليكون العلم وتنشيط العقل والتفكر صنو الدين، فمن لا علم وعقل له لا دين له، لانه بذلك سيعبد الله على سبعين حرفا.

 ثانيا: الصدق والاخلاص، فبالصدق يعبد الانسان ربه وبالإخلاص يصدق مع ربه ونفسه والناس جميعا، ولذلك فليس غريبا ان كان عرب الجاهلية ينعتون رسول الله (ص) قبل البعثة بـ {الصادق الامين} لشدة صدقه واخلاصه فيما ينجز، ليس مع الله فحسب، وانما حتى مع غير المسلم.

 ان (دولة المدينة) قامت على اساس الصدق، الذي يعني ان يتعامل الحاكم بوضوح وشفافية واخلاص مع كل رعايا الدولة، بغض النظر عن دينهم واثنيتهم واصلهم، فلا يؤثر نفسه على الاخرين ولا يميز اقاربه عن الباقين من الناس، ولا يقدم شرار خلقه على خيار خلق آخرين، وهو لا يكذب عليهم ولا يغشهم، فلقد اخرج الرسول الكريم (ص) (المسلم) الذي يغش الناس في معاملاته من ملة المسلمين بقوله {من غش ليس منا}.

 لقد تحدث القرآن الكريم عن الصدق والاخلاص في اكثر من آية كريمة، كما في قوله تعالى {وجعلوا لله مما ذرا من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل الى الله وما كان لله فهو يصل الى شركائهم ساء ما يحكمون}.

 اما رسول الله (ص) فقد قال بهذا الصدد { لا تعمل شيئا من الخير رئاءا، ولا تدعه حياء}.

 ان المجتمع الصادق والمخلص يكون قريبا من اقامة سلطة الحق والعدل، والعكس هو الصحيح، فالمجتمع الذي يغرق في الكذب والدجل والتزوير والغش والفساد يفشل في تحقيق العدل حتى بابسط صور ه.

 ثالثا: حق الناس اولا، ففي (دولة المدينة) لكل امرء حق فيها، بغض النظر عن دينه ومذهبه واثنيته، فحقوق الرعية واجبة على الراعي، كائنا من كانت الرعية، ولا يطمئن الناس على حقوقهم الا اذا عمل الحاكم على تطبيق القانون على نفسه اولا، وعلى الاقربين منه، والا فما فائدة ان يطبق الحاكم القانون على الناس، الفقراء والبسطاء والضعفاء، فيما يفلت الاقوياء من جماعته من سلطة القانون؟ لذلك حرص رسول الله (ص) على ان يطبق القانون، الشريعة هنا، على نفسه اولا، ولعل في الرواية التاريخية المؤكدة ما يدلل على ذلك، تقول الرواية:

 خرج النبي (ص) اثناء مرضه الاخير بين الفضل بن العباس وعلي بن ابي طالب حتى جلس على المنبر ثم قال:

 ايها الناس من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه، ومن اخذت له مالا فهذا مالي فلياخذ منه، ولا يخشى الشحناء من قبلي فانها ليست من شأني، الا ان احبكم الي من اخذ مني حقا ان كان له او حللني فلقيت ربي وانا طيب النفس.

 ولقد كان رسول الله (ص) يرفض الشفاعة في تنفيذ القانون للصالح العام، فلقد جيء اليه بالمرأة المخزومية التي سرقت ليقيم عليها الحد، فاراد بعض الصحابة ان يشفعوا لها لانها حديثة عهد بالإسلام، وارسلوا اليه اسامة بن زيد في ذلك فغضب النبي (ص) وقال له:

 انما اهلك الذين قبلكم انهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه، واذا سرق فيهم الضعيف اقاموا عليه الحد، وايم الله لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.

 لقد فسدت مجتمعاتنا (الاسلامية) لان الحاكم وزبانيته وقبيلته ومحازبيه فوق القانون، فيما يسحق هذا القانون الضعفاء والمساكين اذا سرق احدهم لقمة اراد ان يطعم بها صغاره الذين يتضورون جوعا كل ليلة قبل ان يخلدوا الى النوم، فاي حق يقيمه مثل هذا المجتمع؟ واي عدل؟.

 رابعا: التسامح، ونبذ العنف والارهاب وسياسات الفرض والاكراه والجبر، فالرسول الكريم (ص) مذكرا من قبل الله تعالى وليس مسيطرا، اولم يقل رب العزة في كتابه الكريم {انما انت مذكر * لست عليهم بمسيطر}؟ لان السيطرة خلاف الحرية، وان العبودية خلاف المسؤولية، ولذلك لم يجبر رسول الله (ص) احدا على الاسلام طوال حياته، كما يذكر ذلك المرجع المحقق آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي، دام ظله الوارف.

 وتتعزز اهمية وضرورة التسامح عند الاختلاف، ومن اجل ان نتجاوز حالات الاحتقان والاقتتال والفرقة عند الاختلاف، يتعين علينا ان نعمق من مفهوم التسامح في المجتمع، ولا يتحقق ذلك الا بتبني المبادئ التالية:

 الف: عدم احتكار الحقيقة، والذي نقراه في آيات عديدة منها قوله تعالى {وانا او اياكم لعلى هدى او في ضلال مبين} وكذلك في قوله تعالى {ولا تبخسوا الناس اشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين} وفي قول رسول الله (ص) {من لا انصاف له لا دين له}.

 فاذا كان كل فرد في المجتمع يتصور انه صاحب الحق المطلق وانه دون الاخرين يمتلك ناصية الحقيقة، فان اي اختلاف في وجهات النظر لا يمكن ان نتصور له نهاية الا بالاقتتال الفوضوي والعبثي.

 باء: فن الاصغاء، والذي يشرعنه قول الله عز وجل في كتابه العزيز {الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولوا الالباب} فالى متى نظل نثرثر في الكلام من دون ان نحدث انفسنا ان نتعلم فن الاصغاء للأخرين ولو لمرة واحدة؟ يجب ان يكون الكلام والاصغاء متساويان في حياتنا لنحقق مبدا الحوار البناء، والا فالحديث فقط الذي يشبه الثرثرة لا ينتج عدلا او حقا.

 جيم: احترام الاخر، كما في قوله تعالى {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل امة عملهم ثم الى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون} وكذلك في قوله عز وجل {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم}.

 اما رسول الله (ص) فقد قال {انكم لن تسعوا الناس باموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق} وكذلك قوله (ص) يوصي بغير المسلم {من آذى ذميا فقد آذاني} وقوله (ص) {من آذى ذميا فانا خصيمه يوم القيامة} وقوله (ص) { امرت بمداراة الناس كما امرت بتبليغ الرسالة}.

 ان اشاعة ظاهرة الاحترام في المجتمع هو الذي يزرع الثقة في النفوس فتعبر عن رايها بحرية، وبالتالي تحول دون صناعة الديكتاتور في المجتمع والتي ابتليت بها مجتمعاتنا، بسبب ان المواطن لا يتحدث الا وهو متعتع خائف، فكيف تريده ان يعبر عن رايه الحقيقي، خاصة اذا ما كان يخالف راي (الحكومة)؟.

 دال: الاذعان للتنوع، ورفض نظرية (التميز النوعي) او (شعب الله المختار) التي تذهب اليها بعض الجماعات البشرية، فان في مثل هذه النظرية احتقار للجنس البشري وتعدي على عدالة الله عز وجل الذي خلق الناس كلهم من آدم وآدم من تراب، فساوى بينهم في الخلقة ولم يميز احدا على احد فيها، ولذلك قال تعالى مشيرا الى حقيقة التنوع {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} وقوله {واختلاف السنتكم والوانكم ان في ذلك لايات للعالمين}.

 هاء: ادب الحوار والاختلاف، كما في قوله تعالى {ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن} وقوله {ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كانه ولي حميم}.

 خامسا: التعايش، فمع الاذعان للتنوع والتعدد والخلاف في وجهات النظر والوعي والرؤية، لا يمكن ان تستقيم الحياة في مثل هذا المجتمع، اي مجتمع، الا بالتعايش الذي يعني ترويض النفس على قبول العيش المشترك مع الاخر مهما تعددت المشارب، ولذلك وردت الكثير جدا من الاحاديث الشريفة عن رسول الله (ص) تتحدث عن هذا المفهوم كحجر زاوية في العيش المشترك، كما في النصوص التالية:

 {حسن الخلق يثبت المودة} {حسن البشر يذهب بالسخيمة} {خياركم احسنكم اخلاقا الذين يألفون ويؤلفون} {الا اخبركم باشبهكم بي اخلاقا؟ قالوا: بلى يا رسول الله. فقال: احسنكم اخلاقا واعظمكم حلما وابركم بقرابته

واشدكم انصافا من نفسه في الغضب والرضا} {حوائج الناس لديكم من نعم الله عليكم} {ان الله جعل قلوب عباده على حب من احسن اليها وبغض من اساء اليها}.

 سادسا: المسؤولية، واساسها التوازن، كما في قوله تعالى في محكم كتابه الكريم {ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا} وكذلك في احاديثه (ص) {كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته} {ملعون ملعون من ضيع من يعول} {خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي} {صلوا ارحامكم ولو بالسلام} {للكسلان ثلاث علامات: يتوانى حتى يفرط ويفرط حتى يضيع ويضيع حتى يأثم}.

 سابعا: واخيرا، الرحمة، بما تعني من العطف والابوة والمحبة والاخوة والتعاون، ولقد وصف القرآن الكريم بعثه النبي (ص) بقوله {وما ارسلناك الا رحمة للعالمين} وهو الذي قال عن نفسه (ص) {انما انا الرحمة المهداة} كما ان من ابرز صفات المؤمنين هي انهم {رحماء بينهم} ولقد اعتبر القرآن الكريم سر نجاح الرسول في تبليغ الرسالة، كونه رحيما بالمؤمنين كما في قوله تعالى {فبما رحمة من الله لنت لهم}.

 مما تقدم نفهم بان (دولة المدينة) التي اسسها الرسول الكريم (ص) بعد هجرته كانت دولة مدنية، فلا هي عسكرية ولا هي دينية، بكل معاني الدولة الدينية، اساسها حق الناس اولا، والعدل والمساواة من خلال ترسيخ قاعدة (القانون فوق الجميع) وهي تعتمد الحريات المدنية بكل تفاصيلها، فضلا عن التنوع.

 ولقد كثر اليوم الحديث عن (الدولة) التي يسعى (الاسلاميون) لإقامتها في بعض البلاد اثر فوزهم بالانتخابات، فما هي ملامح هذه الدولة؟ اهي (دولة المدينة) المدنية؟ ام انها (دينية) يجتهد فيها من يجتهد؟.

 برايي، فان اية دولة يؤسسها (الاسلاميون) لا تخضع لمقاييس (دولة المدينة) لتكون دولة مدنية بكل تفاصيلها، فهي لا اسلامية ولا يحق للاسلاميين ان يربطونها بالدين باي شكل من الاشكال، فدولة (الاسلاميين) اما ان تكون كدولة الرسول (مدنية) بكل معنى الكلمة، وبالصفات التي ذكرناها للتو في هذا المقال، او انها لا تمثل من الاسلام شيئا ابدا.

 وان من ابرز مصاديق (الدولة المدنية) هو ان يكون شان السلطة بيد الناس حصرا، فالشعب هو مصدر السلطات، وهو من يحق له اختيار الحاكم بلا فرض او اكراه او جبروت، عبر صندوق الاقتراع.

 ولقد استدل علماء المسلمين وفقهاؤهم على تنوع طريقة اعتلاء سدة الخلافة بعد رسول الله (ص) في العهد الذي يطلق عليه المؤرخون بعهد (الخلفاء الراشدين) الذي استمر (30) عاما، وهي المدة الزمنية التي نبه واشار اليها رسول الله (ص) في حديثه المشهور والمتواتر على اختلاف التعابير { الخلافة ثلاثون سنة ثم تكون ملكا} او {الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضا} والتي بدأت بخلافة الاول لتنتهي بخلافة السبط الامام الحسن بن علي المجتبى عليه السلام، وكذلك كون عملية نقل السلطة لم تكن دائما على نسق واحد، استدلوا بذلك على كون السلطة شان الناس حصرا.

 الا ان المشكلة بدأت عندما حول الحزب الاموي الخلافة الى ملك عضوض، فالغى بذلك كل معايير (دولة المدينة) المدنية العنوان والمعنى والجوهر.

 ولقد تكرست وتراكمت المشكلة عندما ترك المسلمون، بمرور الزمن، معالم (دولة المدينة) ليتشبثوا بمعالم (دولة الملك) التي اسسها ونظر لها الامويون، ما عقد مشاكل المسلمين منذ ذلك اليوم والى الان.

 يقول الكاتب السلفي الكويتي المعروف عبد الله فهد النفيسي في كراسه الموسوم (عندما يحكم الاسلام) بهذا الصدد:

 لكن هذا النسق المتقدم، اي نسق نقل السلطة بالرضا والاختيار والبيعة والمشورة وصفقة اليد وثمرة القلب، على حد وصفه، لم يقدر له عمرا طويلا (11 للهجرة الى 40 للهجرة) اي ما يقارب الثلاثين عاما، تبع ذلك نسق آخر في نقل السلطة يختلف، شكلا وموضوعا، عن النسق الاول الذي ساد في فترة الخلافة الراشدة، وقد بدا هذا معاوية مؤسس الدولة الاموية التي استمرت لمدة اطول بكثير من دولة الخلافة الراشدة، اي ما بين (40 للهجرة الى 127 للهجرة) اي ما يقرب (87) عاما، ساد خلال الفترة الاموية اسلوب جديد لنقل السلطة، اسلوب لا يخلو من الجبر والقهر والاستلاب والعسف افرز حكما عائليا صرفا ابتعد شيئا فشيئا عن حوزة العقيدة السماوية والمنهج العقائدي والدعوة الى الله وتحقيق القسط بين الناس كما علمنا القرآن، ودخل شيئا فشيئا الى عالم الدولة السياسية القومية العنصرية وعمليات الاستدعاء السياسي للقبيلة وتكريس التفاوت المعيشي بين الناس وبروز الاقطاع السياسي كقوة ارتدادية جديدة، وحملت هذه الدولة، منذ نشأتها، كل الجراثيم التي ادت، في النهاية، الى انهيارها.

 اذن، نحن اليوم امام لحظة اختيار تاريخية ازاء تجربة اقامة (الدولة) من قبل (الاسلاميين) فهل سيختارون نموذج (دولة المدينة) المدنية العادلة التي اسسها الرسول على قاعدة القرآن الكريم، ام سنختار النموذج الاموي الذي اسسه معاوية والذي قام على اساس العنف والارهاب والظلم والتوريث والتمييز؟.

 سيحق لنا ان نسم (دولة الاسلاميين) بالعدل سلفا اذا ما اختاروا النموذج الاول، اما اذا اختاروا النموذج الثاني ونعتوه بالنموذج الاسلامي، فعلى الاسلام السلام، انهم سيظلمون الاسلام اولا، ونموذج (دولة المدينة) ثانيا، وانفسهم ثالثا، والناس اجمعين رابعا.

 ان من المعيب جدا ان يطلق على (دولة) كالتي اقامتها اسرة (آل سعود) الفاسدة والتي تعتمد التكفير الديني والتطهير المذهبي وقمع الحريات وهضم الحقوق، خاصة حقوق المرأة، ان يطلق على مثل هذه الدولة بانها تلتزم بالشريعة الاسلامية، الا ان لا يكون المقصود بذلك شريعة محمد (ص) وانما شريعة فصلها فقهاء البلاط على مقاسات اسيادهم من ملوك وامراء الاسرة الفاسدة.

 يقول السلفي الانف الذكر في كراسه المذكور:

 وحكم العائلة سواء كانت العائلة الاموية او العباسية او الفاطمية او الحمدانية او العثمانية او اية عائلة حاكمة في عالمنا الاسلامي اليوم، هو اخطر انحراف وقع في التاريخ الاسلامي.

 والشيء بالشيء يذكر، فهو يورد هذا النص في كراسه من دون ان يسوق المبرر العقلي لتوليه الاسر الفاسدة الحاكمة في دول الخليج، كما انه لم يفسر لنا، لحد الان على الاقل، سبب عدائه لثورة الشعب في البحرين الرامية الى الاصلاح وانهاء حكم القبيلة، وهو الذي يقول في مكان آخر من كراسه ما نصه:

 وحكم كهذا يحول، بالضرورة، العائلة الحاكمة الى مؤسسة تآمرية: التآمر على الامة كيف تبقى خاضعة، ويضيف: ان حكم العائلة هو مستنقع لكل الطموحات غير الشرعية التي يحفل بها تاريخه، عالمنا الاسلامي، وهو الذي ادى الى كل الانهيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها الامة الاسلامية في وقتنا الحاضر: التجزئة السياسية والتبعية الاقتصادية والتخلف الاجتماعي والضعف والخور والدنية والهون في كل مؤسساتنا وبناياتنا، ويختم بالقول: هذه طبيعة المسالة ولا داعي للحومان حولها، اي اللف والدوران.

 فهل سيكرس (الاسلاميون) كل هذا التخلف في (دولتهم) المرتقبة باختيار النموذج الاموي بكل آثامه وجراثيمه؟ ام انهم سيضربون عنه صفحا، وبشجاعة، فيتجاوزون (1400) عام من (الدولة الدينية) القاهرة والظالمة ليصلوا الى نموذج (دولة المدينة) المدنية العادلة؟.

 كذا الحال بالنسبة الى اية دولة ينوي اقامتها (الاسلاميون) خاصة من يطلقون على انفسهم اسم (السلفيون) وهي برايي تسمية خاطئة من الاساس، فهم اذا ارادوا ان يعيدوا امجاد الاسلام فعليهم ان يقيموا نظام (دولة المدينة) الذي اساسه الحق والعدل والمساواة، وان يكون معيار الرعية (المواطنة) فقط وفقط، وليس الدين او الالتزام الديني او الاثنية او ما اشبه، فالراي العام هو الذي سيحكم على تسمية دولة الاسلاميين المرتقبة، وليس الاسلاميون انفسهم، ولقد قيل قديما (يدوم الملك مع الكفر ولا يدوم مع الظلم) فالراي العام ينتظر اقامة العدل في المجتمع وليس اي شيء آخر، وهو الجوهر الذي خلق الله تعالى البشر من اجل تحقيقه على وجه هذه البسيطة، فان ما يهم الشعوب هو ان تعيش في ظل نظام عادل فحسب بغض النظر عن هويته وزي رجالاته، فالهوية ليست مهمة اذا ما قورن بهدف اقامة العدل، والزي ليس ذي معنى اذا ما قورن بالعدل، ولا يتجلى العدل الا بالقيم والاسس والاخلاق التي بنى على اساسها الرسول (ص) دولته في المدينة.

 ان (الاسلاميين) بحاجة الى ان يقرأوا تاريخ (دولة المدينة) بتمعن، فهي التي حددت معالم (الدولة المدنية) في الاسلام، اما الاعتماد على دول مثل بني امية وبني العباس وامثالهم، لشرعنة (دولهم) المرتقبة، فان ذلك سيركل تجربتهم بعيدا عن الاسلام وعن (دولة الاسلام) المدنية التي اقامها رسول الله (ص) في المدينة المنورة.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 30/كانون الثاني/2012 - 6/ربيع الأول/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م