شبكة النبأ: صورتان متناقضتان على اشد
ما يكون التناقض، صارختان باعلى صوت يمكن ان تطلقه حنجرة في ليل الصراخ
والعويل في بلد مثل العراق تعوّد على الصراخ منذ عقود وقرون طويلة،
صورتان من انحطاط وسمو، يجتمعان في مكان واحد من بغداد، وهو ساحة
الرصافي، اولها تمثال الشاعر الشهير، والثانية ما يحيط بهذا التمثال.
أبدأ بعمارة الرصافي التي سطت على اسمه ولا علاقة لها بالشاعر من
قريب ومن بعيد، فعمارة الرصافي تختص ببيع الملابس والاحذية والاحزمة
الجلدية، اضافة الى مرآبها الذي يحتل الطوابق العليا.. العمارة
بطوابقها المتعددة تمارس فعل هيمنة وسطوة حضور على ما يحيط بها من
تاريخ وجغرافيا.. انها تمارس سطوة حضورها على المتحف البغدادي الذي
يقابلها من الجهة الاخرى، وهي تمارس نفس السطوة والحضور على تمثال
الشاعر الرصافي بوقفته العتيدة وببدلته التي يرتديها منذ عقود طويلة..
حتى انها قد غطتها الاتربة منذ سنوات طويلة واستحال لونها الاصلي الى
لون اخر.
استطرادا، على يمين التمثال يقع المدخل الى شارع المتنبي، شارع
الثقافة العراقية بامتياز حيث المكتبات والارصفة التي يحتلها باعة
الكتب ومقهى الشابندر المشهور برواده من المثقفين العراقيين، ربما هي
صورة مفارقة اخرى ان يكون التمثال بوقفته متجها الى جسر الاحرار وليس
الى شارع المتنبي حيث يفترض ان يكون.. على يسار التمثال توجد تلك
العمارة التي تحمل اسم الشاعر.. هل جمع الشاعر في وقفته وجهي عملة
الحياة من سعي للمعاش واهتمام بالثقافة في وقفته تلك؟ ربما..وهل يعني
الوقوف امام مدخل الجسر العبور من حياة الى اخرى؟ ربما!
الرصافي الشاعر، كتب عن جماهير الكادحين وعن الفقراء وكان المعبر عن
الكثير من احلام وطموحات وتطلعات هؤلاء الكادحين، الرصافي التمثال،
تحيط به عربات الحمالين وبسطيات الباعة المتجولين، وهو يمارسون من جهة
مغايرة سطوة وحضورا على صاحب التمثال، تاريخا وحجرا، انها سطوة القاع
والهامش في اكبر مركز تجاري في العاصمة بغداد وفي العراق كله.
اصحاب العربات والحمالون، الذين يجرون احمالهم على عربات حديدية
باطارين صغيرين، او عربات خشبية بثلاثة اطارات صغيرة، او عربات خشبية
باطارين كبيرين تعرف باسم (الربل) هم المهمشون وهم القادمون من قاع
المدينة حيث احزمة البؤس تنتشر في اكثر من مكان من بغداد ولا تقتصر على
اطرافها كما في مناطق الهامش في المدن العالمية الاخرى.
ما الذي يعنيه الهامش؟
انه الاسم الشامل لكل ما يكتب في اسفل صفحة الكتاب من حواش وتعليقات
وتنبيهات... وهو في النظرية الاجتماعية جميع من ينتمي الى الطبقة
المقهورة بجميع انواع القهر والبؤس والعوز والفقر.. او هم بتعريف
اكاديمي من يقفون خارج النظام الاجتماعى بدرجات متباينة، ليس بالضرورة
بالكامل. فيتراوح وضعهم من الحياة خارج المجتمع المنظم تماما، فبعضهم
بلا أوراق هوية ولا تسجيل فى أية جهة حكومية ولا انتماءات حزبية ولا
نقابية ولا يخضعون لأى نظام تأمينى؛ موجودون بشكل(غير رسمى)، ومنهم (أطفال
الشوارع). وهناك مهمشون فى جانب أو أكثر من الحياة؛ فالبعض يملك أوراق
هوية ولكن لا ينتظم فى أى عمل، وآخرون يعيشون على هامش الحياة المدنية
فى عشوائيات ومقابر وبيوت من الصفيح، على شواطيء الترع وأحيانا بلا أى
مأوى.
هناك أيضا عاطلون بشكل مزمن ويعملون فى اقتصاد الظل بأنواعه
المختلفة بلا تأمينات ولا أجور مناسبة ولا أية حقوق... المهمشون
الفقراء هم معادون للنظام بالطبيعة وهم عشوائيون فى مختلف نواحى حياتهم
ولذلك يسلكون فى العادة بطريقة غير (رقيقة) ولا (مهذبة) فيميلون للعنف
وكثير منهم عدوانى ويميل للتخريب،وهم طاقة تمرد هائلة يمكن أن تكون
ثورية أو مضادة للثورات.فقد ينتفضوا فى هبات ثورية أو رجعية أو تدميرية
ولا يميلون إلى احترام القانون والدستور وكل أنظمة المجتمع.
في التاريخ الغربي تبرز صورة المهمشين الاوائل عبر المهاجرين
الغرباء، والاعمال التي كانوا يقومون بها في اثينا القديمة والذين
حرموا من حقوق المواطنة وبرر الفلاسفة أهمية وجودهم على أساس أنهم
يتيحون للارستقراطية التفرغ للحكم والحرب، وكان هؤلاء يشكلون قوام
الطبقة الوسطى، التي يقع عليها عبء الضرائب الفادحة والحرمان من ملكية
الأرض.
وكانت هناك طبقة الأرقاء، من أسرى الحرب أو الصيد المجلوبين من
الدول الأجنبية عن طريق التجار، وكان الفلاسفة ومنهم أرسطو، يبررون
وجود هؤلاء باعتباره أساسيا لقيام مجتمع الأحرار لكن أحوالهم المتردية
كانت حافزا على التمرد من وقت لآخر.
كما يذكر ذلك الدكتور محمود اسماعيل في كتابه (المهمشون في التاريخ
الاوربي).
في التاريخ العربي ربما تبرز صورة الصعاليك والشعراء منهم، او تبرز
ثورة القرامطة التي قادها مهمشو المجتمع الاسلامي في ذلك الوقت.
هل من مقارنة بين المهمشين في تلك الازمان وربيع الثورات العربية
والبوعزيزي التونسي؟
في الثورة الفرنسية لعب الليبراليون الراديكاليون دورا جوهريا مع
الطبقات الدنيا فى تحقيق أهداف تلك الثورة، بل قاموا بإعدام عدد من
الرأسماليين الكبار والتجار المحتكرين والقادة السياسيين
للبورجوازية(حزب الجيروند)، رغم أن الثورة الفرنسية في طابعها العام هي
ثورة بورجوازية.
نعود الى الرصافي التمثال الذي يقف عاجزا عن تفسير زيادة اعداد
المهمشين في المجتمع العراقي رغم التغيرات الكثيرة التي عصفت به منذ
عقود طويلة وكان هو الشاعر اللسان المعبر عن بعضها، والمراقب لها
كتمثال لايستطيع الكلام بل النظر فقط باعين جامدة لمشهد يتكرر امامه كل
يوم منذ ساعات الفجر الاولى وحتى ساعة متاخرة من عصره. |