قراءة في كتاب: رأسمالية المدرسة في عالم متغير

الوظيفة الاستلابية للعنف الرمزي

 

 

 

 

 

الكتاب: رأسمالية المدرسة في عالم متغير الوظيفة الاستلابية للعنف الرمزي

الكاتب: علي أسعد وطفة

الناشر: منشورات اتحاد الكتاب العرب

قراءة: د. صابر جيدوري

 

 

 

 

 

شبكة النبأ: ليس ثمة غرابة أو مغامرة في أن يخوض المؤلف الدكتور وطفة خوضا نقديا إبداعيا في قضايا المدرسة والعولمة والثقافة، لما عرف عنه من حصافة فكرية ونزعة نقدية وروح ثورية جعلته من أكثر المفكرين العرب في مجال علم الاجتماع التربوي قدرة على تناول القضايا الفكرية التربوية المعاصرة تناولاً فذاً وأصيلاً بحكم خبرته الطويلة وأصالته العلمية وانتسابه إلى المدرسة الفرنسية النقدية لعلم الاجتماع النقدي الجديد بزعامة المفكر النقدي الكبير بيير بورديو الذي أسس فضاءً فكرياً متجدداً وحداثياً للعلاقة بين التربية والحياة السياسة الرأسمالية.

يلامس المؤلف في كتابه (رأسمالية المدرسة) أكثر قضايا التربية والتعليم حساسية وجوهرية في عصر التقانة والصيرورة والمال ودورة الرأسمالية الجديدة. يقع هذا الكتاب في ثمانية فصول وخاتمة، امتزج فيها الفكر بالخبرة، وتخاصب فيها التأمل بالرؤية الناقدة. والكتاب يتناول جوهرياً الدور الاستلابي للمدرسة في النظام الرأسمالي الجديد، كما يتناول الوظيفة الطبقية لمنهاجها الخفي الذي يتجلى في صيرورات العنف الرمزي والرسائل الصامتة بوصفها قوة تستهدف الجوانب الإنسانية في المدرسة وتدمرها. فالمدرسة كما يقدمها الكاتب تحولت في عصر الرأسمالية الجديدة إلى أداة إنتاج رأسمالية وصارت جهازاً لإنتاج وإعادة إنتاج النظام الرأسمالي في حلته الجديدة، حيث تمارس وظيفتها الطبقية والأيديولوجية وفعالياتها في عملية الاصطفاء التربوي بأوسع معانيها. والكتاب في تتابع فصوله يتناول الدور الرأسمالي للمدرسة في عصر العولمة والميديا بوصفها نموذجاً جديداً للمدرسة المدججة بالتكنولوجيا والتقانة، كما يتناول عمليات الاستلاب والصراع الطبقي في فضاء المدرسة.

والمؤلف لا يقف عند حدود وصف الفعاليات التربوية والعلاقات القائمة ما بين المدرسة والأنظمة الاجتماعية الرأسمالية الجديدة بل يتجاوز هذا كله ليقدم رؤية مقترحة جديدة لمدرسة أكثر أنسنة وعدلاً. ولعله من العسير على المرء في حدود هذا المقال أن يفي المؤلف وكتابه حقهما من التقدير والتعريف، وبخاصة حين وجدت بعد قراءتي أن ما يجمع بيننا من رؤى وتوجهات في قضايا التعليم أكثر بكثير مما نتباين فيه. ونظراً لأهمية موضوع رأسمالية المدرسة، واستمتاعاً بما أورده المؤلف حول هذا الموضوع من منظور مبدع، فإنني سأقدم قراءة نقدية للكتاب أبرز فيها مختلف المعاني والدلالات والأفكار مغنياً هذه الأفكار ببعض التصورات النقدية على بعض ما أورده المؤلف من أفكار ورؤى في هذا الكتاب المتميز.

الدور الاستلابي للمدرسة في النظام الرأسمالي الجديد

في هذا المبحث يبين المؤلف أن النظام الرأسمالي الجديد المدرسة يعمل على تحقيق هدفين أساسيين: يتمثل الأول في إنتاج أناس مؤهلين جيداً لأداء أدوار رأسمالية تسويقية للنهوض بقدرات النظام الرأسمالي؛ ويتمثل الثاني في إنتاج طبقة عمالية بروليتارية قادرة على الوفاء بمتطلبات هذا النظام وتلبية احتياجاته. ووفقا لهذا الدور الثنائي الجديد للمدرسة، قام المؤلف بالتمييز بين مرحلتين أساسيتين متضافرتين وظيفياً: في المرحلة الأولى يتم إخضاع المدرسة لمنطق الرأسمال وقانونياته الخاصة، أي تعليم الأفراد وفقاً لمتطلبات الحياة الرأسمالية المتغيرة عبر الزمان والمكان. وفي المرحلة الثانية تمّ ترويض المدرسة لإنتاج طبقة عاملة وتزويدها بالقدرة على إعادة إنتاج نفسها رأسماليا.

 وفي حديث المؤلف عن الوظائف الرأسمالية الجديدة للمدرسة الرأسمالية يؤكد أن التحولات التكنولوجية والراديكالية في ظل العولمة الرأسمالية الجديدة أدت إلى حرمان المدرسة من خاصية الاستقلال التربوي، وأضعاف دورها الإنساني الذي يتعلق ببناء الثقافة والمعايير والقيم، وتحت تأثير هذه التحولات بدأت المدرسة تتصدع تحت الضربات القوية لمعاول الرأسمالية الجديدة التي أدت إلى فصل المدرسة عن سياقها الحضاري والإنساني وتكييفها لمتطلبات الرأسمال ومقتضياته، فضلاً عن تحويلها إلى أداة توضع في خدمة المنافسة الاقتصادية من جهة، وتعميق اللامساواة الاجتماعية في مجال الوصول إلى المعرفة من جهة أخرى. فالمدرسة في سياق هذه الدورة الرأسمالية تتحول إلى مؤسسة منتجة لقيم العالم الرأسمالي وتصوراته الاجتماعية. وهي في صورتها الرأسمالية هذه تمارس دورها المؤلم في حرمان الشرائح الأوسع في المجتمع من إمكانيات التعليم الحقيقي، فهي تقدم تعليماً محدود الكفاءة والإمكانية إلى أبناء العمال والمهمشين الذين يجب تحويلهم إلى قوة عاملة منتجة وإلى مادة خام في دورة الإنتاج الصناعي الجديدة للمجتمع الرأسمالي، وهي في الوقت نفسه تشجع بعض روادها من الطبقات العليا في المجتمع على استنفار طاقاتهم وقدراتهم العقلية والذهنية والإبداعية لتوظيفهم في مجال المنافسة العالمية في مستوى الإبداع العلمي في مختلف الاتجاهات.

ماهية العنف الرمزي وتجلياته التربوية

أما في المبحث الثاني من كتاب رأسمالية المدرسة يعرف المؤلف مفهوم العنف الرمزي ويحرره من الغموض الذي اعتراه وشوه معالمه ويبين التوظيفات الخاطئة لهذا المفهوم من قبل الكثير من الباحثين والمفكرين التربويين، لينتقل بعد ذلك إلى توضيح تجليات هذا المفهوم على صعيد العملية التربوية بكاملها. وإن كانت المساحة المخصصة لهذا المقال لا تسمح بإبراز ما أورده المؤلف من تعريفات لغوية واصطلاحية كثيرة عن مفهومي العنف والرمز، غير أن هذا لا يمنع من الإشارة إلى رؤية المؤلف للمفهوم الذي يرى فيه مدخلاً سوسيولوجياً معاصراً من مداخل التحليل والتقصي الاجتماعي للظواهر الثقافية والاجتماعية، فالمفهوم (العنف الرمزي) يأخذ مكانه المميز بين المفاهيم التربوية والاجتماعية المعاصرة كأداة سوسيولوجية قادرة على فهم وتحليل أكثر جوانب الحياة الثقافية حضوراً وتواتراً. ويرى المؤلف في هذا السياق إن العنف الرمزي ينزع إلى توليد حالة من الإذعان والخضوع عند الآخر بفرضه لنظام من الأفكار والمعتقدات الاجتماعية التي غالباً ما تصدر عن قوى اجتماعية وطبقية متمركزة في موقع الهيمنة والسيادة، حيث يهدف هذا النوع من العنف إلى توليد معتقدات وأيديولوجيات محددة وترسيخها في عقول وأذهان الذين يتعرضون لهذا النوع من العنف، فالعنف الرمزي ينطلق من نظرية إنتاج المعتقدات، وإنتاج الخطاب الثقافي، وإنتاج القيم، ومن ثم إنتاج هيئة من المؤهلين الذين يمتازون بقدرتهم على ممارسة التقييم والتطبيع الثقافي في وضعيات الخطاب التي تمكنهم من السيطرة ثقافياً وإيديولوجياً على الآخر وتطبيعه.

الوظيفة الطبقية للمنهاج الخفي واستلاب رسائله الصامتة

ويُقدم المؤلف في هذا المبحث محاولة علمية جادة تهدف إلى تحقيق نقلة نوعية في تقصي مفهوم المنهاج الخفي، وتجاوز حدود التعريفات المحضة إلى أفق التحديدات النقدية في سياق منهجي تاريخي، حيث يعتقد أنه لا بد من إعادة النظر في التكوينات العلمية للمفهوم وفقاً لمنهجية جديدة تحررنا من أسر الرؤى والتصورات التقليدية الجارية في هذا الميدان. وفي هذا السياق يُشير إلى أن إشكالية السياق كامنة في إشكالية التعريف السائد لمفهوم المنهاج الخفي بوصفه حادثاً عفوياً وناتجاً ثانوياً من نواتج التعليم في المدرسة، حيث نريد أن نقول في هذا السياق إن المنهاج الخفي نظام تربوي جوهري وأصيل في الحياة التربوية والمدرسية، وإنه ليس أبداً حادثاً عفوياً أو ناتجاً ثانوياً في الحياة التربوية والمدرسية، وهو نظام طبقي أيديولوجي هادف ومنظم رافق ظهور المدرسة وما زال يحدد مساراتها الطبقية والإنسانية. فالمنهاج الخفي، كما يدل اسمه، فعالية تربوية صامتة خفية غير منظورة، وعلى الباحث أن يرصده فيما بين السطور وما خلفها وفي الزوايا المظلمة للحياة التربوية. ويرمز المنهاج الخفي - من حيث المبدأ - إلى مختلف الفعاليات التربوية المضمرة والخفية في المؤسسة المدرسية.

وفي مناقشة المؤلف للأبعاد الأيديولوجية والطبقية للمنهاج الخفي يرى أنه إذا كان الخفي خفياً بفعل فاعل وإرادة مريد، فهناك بالضرورة إرادة اجتماعية محددة تعمل على بناء التنظيمات الخفية والتخطيط لها في المدرسة وفي مختلف المؤسسات التربوية وذلك لأغراض مجتمعية سياسية أو اجتماعية طبقية. ومن البداهة المنطقية أن ينتسب المنهاج الخفي إلى طبقة اجتماعية غالباً ما تسود وتهيمن وتمتلك القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهي الطبقة التي تنظم وتخطط وترتب وتحدد غايات التربية ومراميها في مجتمع محدد. فالتعليم كان وما زال يوجه طبقياً عبر التاريخ، ولم يكن التعليم قط خارج دائرة الأيديولوجيا والسياسة، بل كان وما زال يشكل نظاماً أيديولوجياً وُضع في خدمة الدولة والطبقة والأيديولوجيا. ومن هنا يرى المؤلف أن ما يجري في المؤسسات التعليمية يجري بإرادة طبقية سياسية في آن واحد. لكل هذا يؤكد المؤلف إن المنهج الخفي هو فعالية رمزية يلعب دوره الحيوي في إقصاء أبناء الفئات الاجتماعية المهمشة، عبر أواليات الإخفاق، وتنمية أحاسيس الدونية والقصور لديهم، وتوليد عملية إخفاقهم المدرسي باستمرار. وانطلاقاً من هذا الأساس يقول: إن كثيراً مما يتعلمه التلميذ في المدرسة قد لا يرتبط جوهرياً بمحتويات الدروس والمقررات (المنهج المعلن) بل يرتبط بعملية ترويض الطالب على قيم ومعايير محددة تتمثل في قيم الطاعة، واستهلاك التحيّزات الاجتماعية والقيمية والأيديولوجية السائدة في المجتمع وفقاً للمنهج الخفي والمستتر المعتمد. ووفقاً لهذه الرؤية فإن المدرسة وفقاً لمناهجها الخفية لا تهدف إلى تحقيق المساواة بين التلاميذ والطلاب بل تهدف إلى ترسيخ مبدأ اللاتكافؤ بينهم؛ وهنا لابد من الحذر من المنهج الخفي بما يغرسه من قيم سلبية تتمثل في قيم الطاعة والخضوع وإضعاف روح الإبداع في نفوس الطلاب حيث تكون المدرسة أداة لإعادة إنتاج الأمر الواقع بكل سلبياته واختناقاته لصالح النخبة المهيمنة.

دور المدرسة في اصطفاء النخبة

وقد اكد المؤلف في هذا المبحث أن الدراسات السوسيولوجية تكشف اليوم عن حقائق خفية ومعقدة في بنية الفعل المدرسي، وهذه الحقائق تتناقض مع الصورة المشرقة لمفهوم المدرسة ووظائفها، فالمدرسة في وظيفتها الاصطفائية تترجم آلية النظام الحياتي لمجتمع قائم على الاصطفاء. وهي بموجب هذه الوظيفة الاصطفائية تتبنى نسقاً من القيم والمعايير الاجتماعية التي تتصل بعملية تقويم التحصيل المعرفي والعلمي والمهني. ويتم هذا التقويم على أساس مناهج يفترض أنها موضوعية، ومثل هذه العملية تقود إلى اصطفاء رواد المدرسة وتصنيفهم في طبقات وفئات مختلفة. فالمدرسة وكالة اجتماعية رهينة بالأنظمة الاجتماعية التي تهيمن حيث ترتسم وظائفها على مقاييس النظام الاجتماعي القائم. وهذا يعني أن المدرسة لا يمكنها أن تنفصل عن السياق الاجتماعي الذي يحتضنها، وبالتالي فإن وظائفها لا يمكن في نهاية الأمر أن تتضارب مع الضرورات الوظيفية والاجتماعية للمجتمع التي توجد فيه، وهي غالبا ما تكون على صورة المجتمع الذي يحتضنها. وتأسيسا على ذلك تلعب المدرسة دوراً اصطفائياً في مجتمع يقوم على الاصطفاء، وهي تمارس دوراً طبقياً في مجتمع تحركه نوازع الصراع الطبقي.

 ويرى المؤلف أن الاصطفاء المدرسي يأخذ غالباً طابع النجاح والرسوب والترك والتخلي والتوزع في الاختصاصات المدرسية. وكل صورة من هذه الصور الاصطفائية تأتي تحت تأثير مظلة من العوامل والمتغيرات التي تتدرج في أهميتها وتتنوع في طبيعتها لترسم الصورة الكلية لحركة الاصطفاء التعليمي واتجاهاته. كما يشكل الأصل الاجتماعي بمتغيراته الأساسية منطلق الاصطفاء الاجتماعي في المدرسة. حيث تؤكد الأبحاث الميدانية والأمبيريقية الجارية، التي تتناول مسألة الأصل الاجتماعي والنجاح المدرسي، وجود علاقة ترابط قوية وإيجابية بين النجاح المدرسي والأصل الاجتماعي للتلاميذ، ويلاحظ في مسار هذه النتائج، أنه كلما تم التدرج في المستوى الاجتماعي للأطفال، ازدادت تصاعديا احتمالات نجاحهم المدرسي. أما مفهوم الاصطفاء الذاتي Autosélection فيشير إلى قرار يتخذه الطالب أو أسرته، أو كلاهما معا، بالتخلي عن متابعة التحصيل المدرسي نهائيا، أو العدول عن الدراسة في فرع علمي معين والانتقال إلى فرع علمي آخر. وغالبا ما يستند مثل هذا القرار على متغيرات مدرسية واجتماعية مختلفة. وقد أشار المؤلف في هذا الخصوص إلى مجموعة من الآليات التي تحدد معالم الاصطفاء الذاتي أبرزها: يتصل بندرة أن يتجه أطفال الفئات الاجتماعية للتسجيل في الفروع العلمية الهامة بالمقارنة مع أبناء الفئات الاجتماعية الميسورة، وتركهم للمدرسة مبكراً قياساً إلى أبناء الفئات الأخرى.

العولمة الرأسمالية للمدرسة

فيما يؤكد في هذا المبحث أن العولمة أحدثت تحولات جوهرية وملموسة في مجال الحياة التربوية برمتها، فالعولمة تفعل فعلها اليوم في حقل التربية والتعليم، وهي تباشر تأثيرها المنظم وتعمل على تغير معالم التربية القائمة وتثوير تكويناتها في اتجاه ما يسمى بعولمة التربية، وهذا يعني تكييف المؤسسات التربوية لمطالب العولمة واحتياجاتها. وهي في هذا الاتجاه تركز على توجيه جديد لمنظومات القيم التربوية السائدة في الحياة المدرسية والأسرية. كما يؤكد المؤلف أن التربية تشبعت بمعطيات العولمة وخضعت لمعاييرها وقانونها، موضحاً ذلك من خلال دراسة شروير عام 1997 حول النظام العالمي ووجود اتجاهات تربوية تفرضها العولمة في مختلف الأنظمة التربوية في مختلف أنحاء العالم.

التسويق الرأسمالي للمدرسة

ويعرض المؤلف في هذا المحور أن المدرسة تتعرض لعملية تسويق Commercialisation تصهر عناصر وجودها وتحولها إلى مؤسسة ثقافية جديدة تقوم بمختلف أركانها على أساس الصورة الرأسمالية لمؤسسات ربحية ديدنها الاستهلاك والعرض والطلب والاستثمار والتسويق. وفي ظل هذه “الكمرسلة “فإن المدرسة دخلت السوق الاقتصادية من أبوابها الواسعة وشكلت قطاعا خاما تتهافت عليه المشاريع الاقتصادية الربحية لتحولها إلى مؤسسة ربحية بامتياز. وهي في دائرة هذا الاجتياح تفقد في حقيقة الأمر وظيفتها الإنسانية ودورها الحضاري كمؤسسة منتجة للمعرفة والقيم والعقول.

من جهة أخرى يعد مفهوم حرية اختيار المستهلك وفقاً لمعيار السوق الاقتصادي أحد أبرز مفاهيم التسويق التربوي، وعلى هذا الأساس يتوجب على الآباء أن يمتلكوا ناصية الحرية والقرار في استهلاك التربية التي يرغبون بها لأطفالهم في المؤسسات التربوية المختلفة دون أن يخضعوا لقوانين وأنظمة حكومية ومدرسية هنا وهناك. ومن أجل هذه الغاية فإن بعض الحكومات توفر للآباء المدارس الجيدة، وتمكن الآباء من فرصة اختيار المدرسة التي يرغبون فيها دون حدود مرسومة أو قيود معلومة، حيث يمكن للآباء اختيار المدارس التي تناسبهم في القطاع التعليمي الخاص الذي يقع خارج دائرة إشراف الدولة وتوجيهها. وهذا التصور الحر يعتمد على حجة مفادها بأن التعليم لغايات ربحية يمكنه أن يعمل على إحياء نزعة المنافسة وتأكيد الفاعلية التربوية للنظام التربوي، وهذا بالتالي سيؤدي إلى تحسين نوعية التعليم وجودته.

المدرسة المدججة بالتكنولوجيا

ثم يطرح المؤلف في سياق مناقشته لهذا المحور سؤالاً مركزياً تفرعت عنه مجموعة من الأسئلة جميعها يدور حول حول الوظيفة الأساسية لوسائل الاتصال والمعلوماتية في الحياة التربوية للمدرسة. وفي إجابة المؤلف عن أسئلته يرى أنه ومع دخول التكنولوجيا الاتصالية إلى ميدان المدرسة، بدأت المدرسة تشهد في حقيقة الأمر تغييراً يهدد بنيتها التي بقيت على حالها مدة أربعة قرون من الزمن. لأن هذه التكنولوجيا الجديدة تترك المجال متاحاً لانفتاح مدرسي جديد، وتسمح بأنماط تربوية جديدة خارجة على مبدأ الانغلاق الصفي الذي عرفت به المدرسة منذ لحظة تأسيسها. فالتكنولوجيا الجديدة تتيح للتلاميذ والمعلمين نوعاً واسعاً من الاتصال يخترق جدران الصفوف التقليدية، وتتيح نوعاً من التفاعل التربوي الذي يتجاوز حدود الجدران المغلقة والحجيرات المدرسية الصماء. فالصف كما نعرفه مكان مغلق للمراقبة الزمنية والمكانية حيث يتم زج التلاميذ والمعلمين بين الجدران في زمن يتصف بأنه زمن مدرسي بالمطلق. وفي تأكيد المؤلف على استحضار مختلف الجوانب الإنسانية في شخص المعلم والمتعلم أثناء العمل التربوي التفاعلي، يرى أن السمات الإنسانية لهذا التفاعل غير قابلة للانزياح والتراجع تحت تأثير نظام من التفاعل الشكلي الذي يتم بين الإنسان والآلة. ولذا فإن الاعتقاد بأن تكنولوجيا الاتصال والمعلوماتية قادرة على الحلول في مكان التفاعل الإنساني لأداء الدور الإنساني في عملية التعليم أمر يبدو غاية في الصعوبة والتعقيد إن لم يكن في دائرة الاستحالة. فهناك قاعدة إنسانية تقول بأن الكائنات الإنسانية هي وحدها التي تستطيع أن تشكل الكائنات الإنسانية الأخرى إنسانياً. وهذه الحقيقة التربوية تأخذ مشروعيتها أنتروبولوجياً وتاريخياً: فالإنسان كائن يحتاج إلى الآخرين من أجل أن يصبح إنساناً. فالتربية صيرورة إنسانية، وبالتالي لا يمكن للإنسان أن يصبح إنساناً إلا بالتربية، وتلك هي رؤية كانط ومنهجه في النظر إلى العملية التربوية حيث يقول “لا يصير الإنسان إنساناً إلا بالتربية. ووفقا لهذا التصور فإن تكنولوجيا الحداثة لن تكون إلا وظيفة أداتية داعمة للعملية التربوية في أنساق تفاعلها الإنساني وهي لن تستطيع في أي حال من الأحوال أن تكسب العملية التربوية جوهرها الإنساني. وهنا ومن جديد يجب علينا أن نؤكد بأن التعليم مهنة إنسانية تفاعلية معيارية وقيمية، وهذه السمة الإنسانية تظلل بعمق عمل المعلم ومهنته. ففي الوقت الذي يتحدث فيه المعلم مع الطلاب فإنه في الوقت نفسه يودع فيهم منظومته القيمية والمعيارية، ويتجلى ذلك على سبيل المثال عندما يقول لطلابه هذا جيد، هذا حسن، هذا رائع، هذا مميز، هذا خاطئ..الخ.

الصراع الطبقي على المدرسة

من جهة أخرى ناقشة المؤلف موضوع الصراع الطبقي على المدرسة يتساءل عن الغاية الأساسية للتربية والتعليم، وفي إجابته عن هذا التساؤل يرى أن انقسام النظام التعليمي إلى تعليم عام ومهني وفني وأدبي وعلمي يؤكد عملية اصطفاء مبكرة اجتماعية وتربوية تقوم على الأصول الاجتماعية للطلاب والمتعلمين. وهذا التعليم يعزز ومنذ البداية فكرة أيديولوجية قوامها أن الطلاب لا يستطيعون جميعهم متابعة الدراسة في اتجاه تعليمي واحد، وأنهم لا يستطيعون الوصول جميعهم إلى مستوى واحد من التحصيل العلمي. وهذا الأمر يؤكد فكرة اللامساواة بل يعززها ويمنهج لها لتنطلق كفكرة أولى يؤمن بها الطلاب أولا، ثم تصبح فكرة أساسية تتنامى بسرعة كبيرة وتتمركز في العقل كي تولد قناعات راسخة بمسألة التفاوت واللامساواة بين الطلاب بصورة عامة. وغني عن البيان أن هذا التفاوت بين المضامين التعليمية والتربوية وفقا للفروع والاختصاصات العلمية والتعليمية يؤدي في نهاية ألأمر إلى تعزيز الفروق الاجتماعية والطبقية بين الطلاب.

نحو مدرسة أكثر أنسنة وعدلاً

يعلمنا أن الحضارة لا يمكنها أن تستمر في الوجود من غير دفعة إنسانية أخلاقية روحية، والمدرسة معنية اليوم بتفجير طاقة الروح والأنسنة الضرورية للحضارة والإنسانية إذ "ماذا يفيد الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، وماذا يعطي الإنسان فداء نفسه كما يقول السيد المسيح". وهذا القول يتناغم مع الأهمية الكبرى التي يعطيها طاغور للحضارة بوصفها روحاً إذ يقول “"إن الحضارة المادية ستخسر كل شيء إذا فقدت روحها، وأن البشرية ستصبح مهددة بالفناء في ظل جسد بلا روح وعندما تصبح الحضارة بلا قلب فإنها ستفقد أهم مقومات الحياة.

 لقد أوضح المؤلف في أكثر من موقع عبر هذا الكتاب بأن المدرسة تشكل اليوم ساحاً للصراع الطبقي والأيديولوجي، وأن الإكراهات الرأسمالية تهدد المدرسة بالفناء البرجوازي، وتتمثل هذه الإكراهات في عمليات تسويق المدرسة على القيم الرأسمالية التي ترمز إلى معطيات الربح والمادة والصراع والتنافس والهيمنة والسيطرة وكل ما من شأنه أن يتعارض مع قيم الوجدان والروح والحق والخير والجمال التي تشكل بمجملها منطلق الأنسنة في الحياة المدرسية. فالعولمة تريد أن تفرغ المدرسة من روحها وأن تفقدها توازنها الإنساني، وهذا ما لا يجب أن يكون إذا أرادت المجتمعات الإنسانية أن تحافظ على مكونات أنسنتها بوصفها مجتمعات إنسانية تناشد الحق والخير والجمال، وهذا يعني أن الحضارة لا تكون من غير روح، وروح الحضارة تكمن في الجرعة الإنسانية التي يجب على المدرسة أن توفرها للأجيال والناشئة.

رؤية نقدية للكتاب

في خاتمة هذه القراءة تجدر الإشارة العاجلة إلى ما أفاض فيه المؤلف من الدروس المستفادة من ثقافته المتميزة وقراءاته المتعددة، وخاصة فيما يتصل بقراءته الواعية لكتابات بورديو وباسرون حول المدرسة الرأسمالية ودورها في إعادة إنتاج فلسفة المجتمع الرأسمالي القائمة على تكريس الطبقية في فضاء العملية التربوية والتعليمية. ومع التقدير الجم لكل ما أورده المؤلف من أفكار ورؤى حول رأسمالية المدرسة، غير أن السؤال الذي يزن في رأسي منذ أن وقع بصري على عنوان الكتاب هو: لماذا أخذ المؤلف موقفاً سلبياً من كل ما يجري في فضاء المدرسة في المجتمعات الرأسمالية؟ ألم تُسهم مخرجات هذه المدارس بثورة الاتصالات والمعلومات وغزو الفضاء..؟ ثم هل التفاوتات الطبقية في المجتمعات الرأسمالية هي صناعة مدرسية رأسمالية بحتة؟ ألم يخبرنا كارل ماركس ومفكرو مدرسة فرانكفورت أن هذه التفاوتات الطبقية موجودة أصلاً ومترسخة في قلب المجتمعات الرأسمالية، وكل ما تقوم به المؤسسات التربوية هو إعادة إنتاجها واستمرارها؟ ثم هل ما مارسته المدرسة الرأسمالية من أدوار استلابية كان بفعل تدفق تيارات العولمة، وما بعد التصنيع، وما بعد الحداثة؟ على أية حال فإن هذه الأسئلة وغيرها كثير قد أجاب عنها مؤلف الكتاب إجابات تنطلق من رؤية فكرية تستند في مجملها على ما أورده بورديو وباسرون في كتابهما “إعادة الإنتاج “في الوقت الذي كنت أتمنى فيه أن ينظر المؤلف إلى إفرازات النظام العالمي الجديد، وخاصة ما يتصل منها بحقوق الإنسان والعدل الاجتماعي وتعزيز ثقافة التنوع الإنساني المبدع.. وهذا لا يمنع بطبيعة الحال من الإشارة إلى الوجه الآخر السلبي لهذا النظام العولمي الذي تعززه جملة من الشواهد الداعية إلى القلق والتوتر وخاصة ما يتصل منها بمصير الخصوصيات الثقافية، ومنظومة القيم الإنسانية المغيبة في المدرسة الرأسمالية.

من جهة أخرى كنت أتمنى على المؤلف أن يُسقط هذا الفكر المبدع على المدرسة العربية المنكوبة بفعل سياسات الاستبداد التي مارست أدوراً استلابية لإنتاج وإعادة إنتاج فكر السلط الحاكمة في عموم العالم العربي، مع التأكيد مرة أخرى ومرات أن المؤلف لم يدخر جهداً في نقد السياسات التربوية العربية في كتب أخرى وأخص منها كتاب “بنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي “غير أنني لم أجد في كتاب “رأسمالية المدرسة “مساحة واسعة للأدوار الاستلابية التي تُمارسها المدرسة العربية في فضاءاتها المختلفة، ليس بفعل تدفق تيارات العولمة، وما بعد التصنيع، وما بعد الحداثة، وإنما بفعل التوظيف المتخلف الذي أنتج بدوره تخلفاً في الميادين كافة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 25/كانون الثاني/2012 - 1 /ربيع الأول/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م