الخطايا الأربع للساسة في العراق

د. خالد عليوي العرداوي/مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية

في الفصل الرابع والثلاثين من إنجيل برنابا ورد عن السيد المسيح عليه وعلى نبينا الكريم أفضل الصلاة والسلام قوله: ((الحق أقول لكم إن إحراق مدينة لأفضل من أن يترك فيها عادة رديئة، لأنه لأجل هذا يغضب الله على رؤساء وملوك الأرض الذين أعطاهم الله سيفا ليفنوا الآثام).

إن هذا القول البليغ يشير إلى حقيقة مهمة مفادها أن صلاح الإنسان أكثر فائدة من صلاح العمران في حياة الشعوب، لان الخراب في العمران يمكن إصلاحه بينما الخراب في الإنسان من العسير إصلاحه أو يحتاج إلى أجيال من العمل الإصلاحي المتواصل، كما تؤكد هذه الحكمة على دور النخبة الحاكمة في حماية بنية المجتمع العقلية والنفسية والأخلاقية، فضلا عن بنيته السياسية والاقتصادية، لأن وظيفتها تحتم عليها ذلك، أما إذا عجز الحكام عن القيام بواجبهم عند ذاك ستحل عليهم وعلى مجتمعهم نقمة الله وغضبه لأنهم أصبحوا فاسدين مفسدين غير مؤهلين للإصلاح وللحياة بشكل عام.

 والتجارب التاريخية تؤكد صدق ودقة هذا الرأي، فكم مرة خربت ودمرت مدن مثل البصرة والكوفة وبغداد وغيرها لكنها لم تلبث طويلا حتى أعاد أبنائها بنائها من جديد، حتى أن ذكريات الخراب ومظاهره اندرست وطواها النسيان، لكنها إلى هذه اللحظة تئن وتشكو من التقاليد الأموية والعباسية.. السيئة في الحكم، بل تكاد تحكم على كل حاكم جديد بالسوء لأنه لم يتحرر من تلك التقاليد ولم ينجح في ترسيخ تقاليد جديدة مغايرة لها.

انطلاقا مما تقدم، لابد من توجيه تحذير إلى ساسة العراق بعد 9/4/2003 من كل المستويات والانتماءات لتجنب الخطايا التي ارتكبها قبلهم كثير من الساسة في تاريخ العراق الحديث، ولا زال يرتكبها بعضهم في خطابه السياسي الحاضر، تلك الخطايا التي رسخت تقاليد في إدارة البلد غير حكيمة وتركت تأثيرات خطيرة جدا على مصالح العراق الداخلية والخارجية. وهذه الخطايا التي تورط فيها بعض الساسة العراقيين وورطوا من خلالها شعبهم يمكن تحديدها بأربع هي:

الخطيئة الأولى: الاستقواء بالخارج على الداخل

يوجد في العلاقات الدولية مبدأ مهم جدا تؤسس عليه العلاقات السليمة والجيدة بين الدول ألا وهو مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وكلما كان هناك احترام لهذا المبدأ من أطراف العلاقة كلما تقدمت العلاقات بينهم وتنامت مدياتها كما وكيفا، والعكس صحيح - طبعا بشرط أن يكون النظام الحاكم في الدولة نظاما مدنيا ديمقراطيا لا ينتهك حقوق وحريات شعبه ولا يهدد السلم والأمن الدوليين – ومهمة النخب الحاكمة في كل الدول هو ترسيخ هذا المبدأ حفظا لسيادة واستقلال دولهم، لكن للأسف فان بعض النخب السياسية في العراق قدمت وتقدم العراق على طبق من ذهب للتدخل في شؤونه الداخلية من قبل دول الجوار (إيران، السعودية، تركيا..) أو الدول الكبرى (الولايات المتحدة، الاتحاد السوفيتي السابق، بريطانيا..) والمنظمات الإقليمية (الجامعة العربية) أو الدولية (الأمم المتحدة) من خلال استقواءها بالخارج على خصومها السياسيين في الداخل، وتبرز حالة الاستقواء هذه بشكل سافر في وقت الأزمات الداخلية وحالات شد العضلات بين الفرقاء السياسيين، ولما كان هذا الخارج يمثل محاور عدة متصارعة ومتنافسة على مناطق النفوذ ومصادر القوة في المنطقة، فأنها تجد من مصلحتها تصفية حساباتها على الأرض العراقية الرخوة وغير المستقرة – في الوقت الحاضر- بدلا من تصفيتها في مناطق أخرى غير مأمونة العواقب، فتجد تدخل الخارج لحساب هذا الطرف أو ذاك غالبا ما يكون على حساب مصلحة العراق أولا وأخيرا.

 إن عجز السياسيين العراقيين اليوم عن حل مشاكلهم في الداخل يدفعهم باتجاه الخارج، وتوجههم هذا من شأنه تصعيد التوتر والخلاف بينهم بدلا من حله، وإذا كانوا كما يعلنون جميعا همهم حماية امن وسيادة واستقلال بلدهم، فهم بسلوكهم هذا ينتهكون كل هذه المعايير، ولا يرتقون إلى مستوى التحدي الجيواستراتيجي الذي يفرضه عليهم الموقع الجغرافي والدور الإقليمي والعالمي لدولتهم، وسيكون وبال ذلك خطيرا جدا عليهم وعلى شعبهم، ولن يتعامل معهم الخارج كرجال دولة لها هيبتها ومكانتها بين دول العالم، بل كعملاء ووكلاء بالنيابة لتمثيل مصالحه في الداخل العراقي، فعلى السياسيين في هذه المرحلة كسر هذه القاعدة والتوبة عن هذه الخطيئة وجعل المصلحة العراقية فوق كل اعتبار، من خلال منع الخارج بمحاوره ودوله وصراعاته المختلفة أن يتخذهم وسيلة لخدمة نفوذه وتحقيق أغراضه على حساب العراق، في الوقت الذي يمتنعون فيه من التدخل في شؤون الآخرين.

الخطيئة الثانية: الاستقواء بالشارع الشعبي على الخصوم

نقصد بالشارع الشعبي هنا عامة الشعب، وهذه العامة معروف عنها سرعة تهيجها وانفعالها، وعاطفية توجهها، وسطحية تفكيرها، وقصر نظرها وعدم إدراكها الحقيقي للمصلحة العامة، وان العامة لا تلجأ إليها النخبة إلا في المواقف التي يتعرض فيها الأمن الوطني إلى الخطر مما يستلزم التعبئة والحشد الجماهيري كمواقف العدوان الخارجي المباشر أو الكوارث الجسيمة التي تعجز عن مواجهتها المؤسسات الرسمية للدولة، أما أن تلجأ النخب الحاكمة إلى الشارع الشعبي للاستعانة به على خصوم داخليين كما حصل ويحصل في العراق منذ غزو الولايات المتحدة له وبعد خروجها منه، فهذه مشكلة خطيرة وخطأ سياسي فادح لأسباب عدة منها:

- إن اللجوء المستمر للشارع الشعبي من قبل النخبة الحاكمة لكسب دعمه المعنوي والمادي على خصوم داخليين سيفقد هذا الشارع قيمته وتأثيره الكبير عند مواجهة البلد لتحديات خطيرة تتطلب وقوفه إلى جانب نظامه الحاكم، لأنه سيكون غير مبال بعد أن افرغ السياسيون روحه وسلبوه دوره.

- والعامة – أيضا – كالبحر الذي لا يمكن التنبوء بحركة أمواجه، فمتى ما تم تهييجها لن يكون من السهولة السيطرة عليها أو لجم انفعالاتها واندفاعاتها، لاسيما عندما تتخذ هذه الانفعالات بعدا فئويا أو طائفيا.. كالذي اتخذته قضية نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي على سبيل المثال، في مجتمع يعاني من توتر العلاقة بين مكوناته الاجتماعية كالشعب العراقي.

- وسيرتد ذلك سلبا على هيبة ومصداقية مؤسسات الدولة في عين المواطن، تلك المؤسسات التي سيجدها مشلولة وعاجزة عن تلافي وحل مشاكل نخبه الحاكمة.

- ثم أن الشارع الشعبي العراقي تم التلاعب به كثيرا في العهود السابقة، وهو يحتاج إلى تأهيل دوره الحيوي ليكون المصدر الحقيقي لقوة الدولة لا أن تمارس النخب السياسية مزيدا من التلاعب به لحسابات ومصالح ضيقة تزيد من ضعفه.

لكل هذه الأسباب وغيرها، فأن من مصلحة العراق أن لا يستمر السياسيون العراقيون بزج الشعب في صراعاتهم وخلافاتهم، وان يتوصلوا إلى الآليات المناسبة لحل مشاكلهم بعيدا عن استثارة الشارع الشعبي، لأن النخبة هي المسئولة عن تقريب المسافات وتجسير العلاقات بين العامة لا العكس، وهي التي تقود العامة لا أن تتسارع الإحداث فتقودها العامة المستثارة بعيدا عن متطلبات الحكمة والسياسة الرشيدة.

الخطيئة الثالثة: الاستقواء بالسلطة للبقاء في الحكم

إن أدوات السلطة من الجيش، والشرطة، والإعلام، والمال العام، والقضاء، والتعليم وغيرها إنما وجدت لخدمة الشعب كله بكل أطيافه ومكوناته، ولم توجد لخدمة حزب ما أو طائفة ما أو قومية ما.. لكن هذه الحقيقة جرى طمسها في تجربة الحكم في العراق، فغالبا ما كانت أدوات السلطة تبدو للشعب وكأنها أملاك خاصة لحزب الحاكم أو طائفته أو قوميته، أو الأدهى من ذلك أسرته كما حدث في زمن صدام حسين، ولم يشعر الشعب يوما أنها وجدت لخدمته ولتلبية حاجاته، وقد تغيرت الحال – نوعا ما – بعد 9/4/2003 لكن ليس بشكل كامل، فالخطاب السياسي لبعض السياسيين وطريقة تعاملهم مع أدوات السلطة المذكورة آنفا، تبين أنهم لم يستوعبوا الدرس السابق تماما، حيث لا زالوا يتصارعون على أدوات السلطة وكأن الحصول عليها غنيمة للاستقواء على خصومهم ولتحقيق المزيد من المكاسب لهم، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على استمرار المنهج الدكتاتوري في الحكم على الرغم من تغير شكل الحكم وشخوصه وشعاراته، كما يدل على وجود أزمة الثقة والشك وعقلية التآمر في مفاصل العملية السياسية الجارية اليوم.

 والسؤال المطروح هنا متى تتحول أدوات السلطة في العراق عن صورتها المعتادة والمتعارف عليها كأدوات خدمة للحاكم لتكون أدوات خدمة لشعب العراق ؟ إن الإجابة عن هذا السؤال مرهونة بتغيير عقلية النخب السياسية في هذا البلد، فطالما كانت الأزمة فيهم والحل لديهم أيضا، واستمرار ارتكابهم لهذه الخطيئة يعني استمرار تخلف نظام الحكم، وفرديته، ورجعيته، وبعده عن الشعب، وعدم ثقة الأخير به.

الخطيئة الرابعة: الاستقواء بالفرقة للوصول إلى السلطة

كثيرا ما يقال في المدارس أن الاستعمار يمارس سياسة فرق تسد من اجل تفتيت وحدة الشعوب التي تهب لمقاومته ورفض وجوده، حيث انه يؤلب طائفة على أخرى وقومية على أخرى وأهل ديانة على أهل ديانة أخرى.. فتتصادم هذه المسميات فيما بينها وتتناسى وجود الاستعمار وهيمنته عليها، فتضعف شوكة الجميع مقابل تعاظم شوكة وقوة المستعمر. لكن هذه السياسة لم تكن حكرا على المستعمر فقد وجدت مظاهرها ومصاديقها في التجارب التاريخية للحكومات التي حكمت في عالمنا الإسلامي منذ القرون الوسطى مرورا بالعهود الاستعمارية، ووصولا إلى أنظمة الحكم الاستبدادية التي استفحل أمرها بعد الاستقلال، والغريب في الأمر هو استمرار العمل وفقا لقواعدها من قبل بعض السياسيين العراقيين في الوقت الحاضر، ففي الوقت الذي كان يجب عليهم أن يحرصوا على رأب الصدع بين العراقيين الذي أوجدته العهود الاستبدادية السابقة، لتعزيز الوحدة الوطنية المرتكزة على المواطنة الحضارية، فان بعضهم حاول الاستفادة من خلال اللعب على أوتار التفرقة الطائفية والدينية والمناطقية والقومية من اجل تعزيز مكاسب سياسية شخصية وآنية، ومثل هكذا سلوك يعد خطيئة كبيرة يرتكبها السياسي بحق دوره ووظيفته في إصلاح بلده للتقدم به إلى الأمام، وعلى الرغم من أن جميع السياسيين لا يكشفون بشكل صريح عن استقوائهم بسياسة التفرقة لتحقيق مكاسب سياسية معينة، فأن القراءة المتأنية والتحليل الموضوعي يكشف قيام بعضهم بذلك وإرباكهم المكونات الاجتماعية التي يمثلونها بنتائج أفعالهم غير الحكيمة، وهذا الأمر يتطلب منهم إعادة النظر في حساباتهم لان الخير كل الخير للعراقيين في وحدتهم ولا خير في التفرقة مهما كانت تقديرات مكاسبها لمن يعمل وفقا لمنهجها.

إن الخطايا الأربع المذكورة أعلاه، تحتاج إلى إدراك مقدار خطرها من قبل النخب السياسية العراقية الموجودة على الساحة اليوم، فتلافيها لا يعود بالنفع على جيلنا الحاضر بل على الأجيال القادمة التي ستحكم على نجاحهم أو فشلهم، والخشية كل الخشية من استمرار ارتكاب هذه الخطايا كعادات رديئة في إدارة الحكم، تحول دون تحقيق أمل العراقيين في بناء دولة مدنية تستوعبهم وتلبي قناعاتهم وطموحاتهم وحاجاتهم.

* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

www.fcdrs.com

[email protected]

Phone-iraq:07812515381

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 18/كانون الثاني/2012 - 24صفر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م