شايلوك الكردي ورطل اللحم البغدادي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: برع شكسبير الانجليزي كما يعرفه العالم، او الشيخ زبير كما يعتقد بعض الباحثين العرب في نسبته الى امة عدنان وقحطان وتحديدا بصرة العراق، برع هذا الكاتب في تناول الكثير من الشخصيات الدرامية عبر مسرحياته الشهيرة... من منا لم يسمع بهاملت او روميو وجولييت او عطيل او ماكبث وغيرها من مسرحياته الشهيرة التي تحول الكثير منها الى افلام سينمائية لازالت حية في الذاكرة.

تاجر البندقية هي واحدة من تلك المسرحيات الرائعة والتي قدمتها السينما الامريكية في فيلم من روائع الافلام والذي قام ببطولته الممثل القدير آل باتشينو في دور اليهودي المرابي شايلوك.

كان شكسبير قاسيا في تناوله لتلك الشخصية، فشايلوك كما في المسرحية انسان حاقد على الجميع لا يفكر الا في مصالحه حتى لو كانت على مصائب الاخرين.. تشعر به انه يحمّل الاخرين وهم المسيحيين عن جميع ماحل باليهود من اقصاء وتهميش وتنكيل على مدار قرون طويلة نتيجة فعل اسخريوط تلميذ المسيح (ع).

انه يحاول الثأر والانتقام من كل من هو مسيحي بواسطة أمواله المتراكمة والتي لا يملك غيرها من وسائل القوة.. فالمال في ذلك العصر وفي كل العصور سلطة نافذة المفعول ودروبها سالكة في جميع الاتجاهات.. شايلوك يشعر بالغيرة والحسد والكره لشخصية أنطونيو التاجر المسيحي الذي لا يتوانى عن فتح خزائنه لمساعدة المحتاجين وخاصة اصدقائه، ومنهم صديقه بسانيو الذي يحبه كثيراً لأن بسانيو يريد أن يتزوج من بورشيا بنت دوق (بالمونت) الذكية.. هذه المرة خزائن هذا التاجر فارغة بانتظار وصول سفنه المحملة بالبضائع والموجودة في عرض البحر.. لا يملك امام حاجة صديقه للمال الا التوجه الى شايلوك للاستدانة منه.

هنا سنحت الفرصة التي كان يتحينها اليهودي شايلوك للتاجر انطونيو.. ودارت في ذهن اليهودي أفكار الشر والأذى والانتقام... وظل يفكر طويلا فيما عساه يصنعه بهذا التاجر الذي يعطي للناس نقودا بلا فائدة: هذا التاجر الذي يكرهني ويكره شعبنا اليهودي كله.. إنه يسبني ويلعنني ويسمني بالكافر.. وبالكلب الأزعر.. ويبصق على عباءتي كلما رآني.. وها هي الفرصة قد سنحت أمامي لكي انتقم.. وإذا لم اغتنم هذه الفرصة فلن يغفر لي ذلك أهلي وعشيرتي من اليهود الآخرين.

قال شايلوك وهو يخفي الحقد والكراهية في قلبه: يا سنيور انطونيو.. كثيرا ما شتمتني ولعنتني وركلتني بقدمك كما لو أني كلب من الكلاب.. وهأنتذا جئتني وتطلب مني أن أساعدك بثلاثة آلاف من الجنيهات.. فهل تظن يا سيدي أن كلبا يمكنه أن يقدم لك مثل هذا القرض..؟! فقال انطونيو بشجاعه: حتى لو اقرضتني هذه النقود، فسوف أظل أدعوك كلبا وأركلك بقدمي وأبصق عليك وعلى عباءتك.. اقرضني هذه النقود وافرض وزد عليها ما شئت من فوائد تطمع فيها.. وسوف يكون لك الحق في أن تفرض على ما شئت من عقاب إذا لم أردها إليك في الوقت المتفق عليه.

وعندئذ قال شايلوك بكل خبث ودهاء إنه على استعداد أن يقدم لانطونيو هذا القرض بدون فوائد على الاطلاق. ولكن بشرط واحد: هو ان يذهبا معا إلى المحامي، وان يوقع انطونيو على عقد- يبدو كما لو كان مزاحا-، يتيح لليهودي شايلوك أن يقطع رطلا من اللحم، ومن اي جزء يختاره شايلوك من جسم انطونيو؛ إذا عجز هذا الأخير عن رد الالاف الثلاثة من الجنيهات التي اقترضها، في الموعد المحدد.

لم يكن هذا التاجر يتوقع ان تتحول ما اعتقد مزحة الى حقيقة يجب مواجهتها.. لأن سفنه وبضائعه ستصل قبل أن يحل موعد السداد بمدة كافية... ولن تكون هناك فرصة امام شايلوك لتنفيذ هذا المزاح... وهكذا وقع انطونيو على العقد.

لكن سفنه تغرق في البحر ولا يملك الا مواجهة هذا الدين الفادح.. في قاعة المحكمة حيث القضاة وأمير البندقية يحضرون للبتّ في تلك القضية العجيبة.. تقدم اكثر من تسوية لأجل ان يتنازل شايلوك عن شرطه ويستعيد امواله ويحافظ على حياة هذا التاجر.. انه مصر على اقتطاع رطل من لحمه حتى لو ادى ذلك الى موته.. فالعقد شريعة المتعاقدين.. لا تردع صيحات الاستهجان والاستنكار من الحاضرين في قاعة المحاكمة شايلوك عن المطالبة بتطبيق شرط العقد.

هنا تتدخل بورشيا متنكرة بزي محام شاب.. ونطالب بتطبيق شرط العقد.. يفرح شايلوك بهذا الموقف الداعم له.. لكن بورشيا تشترط ان يكون اللحم المقتطع رطلا واحدا دون زيادة او نقصان ودون اراقة قطرة دم واحدة.

يعجز اليهودي عن تنفيذ مثل هذا المطلب ويخسر شرطه الجزائي وامواله.

هل من مقارنة بين شايلوك الشكسبيري والقيادات الكردية في ما جرى بعد العام 2003 وما يجري الان؟

منذ نشوء الحركة الكردية عملت الكثير من الدول المجاورة للشمال العراقي على محاولة استغلال البندقية الكردية في صراعها مع الحكومة المركزية في بغداد.. فكانت هناك مجالات واسعة للتعاون مع ايران ومع اسرائيل ومع المخابرات الامريكية.. حاولت تلك الجهات استغلال هذا النزوع القومي نحو الانفصال عن الدولة المركزية في اكثر من مناسبة.. كانت مناسيب المد والجزر تتأثر بالكثير من مواقف المركز في بغداد.

فكلما كان الصراع يشتد بين تلك الدول والعراق كان الاكراد يتقدمون خطوة في صراعهم وقتالهم، وكلما خفت حدة هذا الصراع كلما تراجع الاكراد الى المشهد الخلفي.

وكلنا نتذكر التسوية العراقية الايرانية واتفاقية الجزائر التي جعلت ايران نحد من ذلك الدعم اللامحدود للاكراد.

في الثمانينات استطاع صدام حسين دكتاتور العراق باموال النفط وبدعم لا محدود من دول الخليج من شق الصف الكردي ليجعل من الموالين له يرفعون بندقيتهم تجاه اخوانهم وهم ما أطلق عليهم في الاعلام الرسمي (الفرسان) وحسب التوصيف الشعبي الكردي (الجحوش).

في التسعينيات من القرن المنصرم وفي ذروة الاقتتال الكردي هرع مسعود البرزاني لصدام حسين طالبا مساعدته لايقاف ميليشيات طالباني التي تحاصر اربيل خيمة الحكم للعشيرة البرزانية وكان ماكان من دخول وحدات من الجيش العراقي الى تلك المدينة وهزيمة الطالبانيين.

منذ العام 2003 وبوجود الراعي الامريكي بقوات احتلاله وجد الاكراد الفرصة سانحة للحصول على مكتسبات اضافية لاقليمهم، مستغلين بوادر التنافس والصراع الناشيء بين السنة والشيعة، وحالة عدم الثقة وتعارض المواقف بين الطرفين..رغم ان الشيعة هم حلفاء الاكراد التقليديون بسبب المظلومية المشتركة وقواسم اخرى.. والسنة هم جلادو الفترة السابقة لانتساب صدام حسين اليهم رغم اشتراكهم معهم في المذهب الواحد.

دائما ما كان الموقف الكردي خلال تلك السنوات الماضية يتسم بمحاولة ابتزاز الاخرين تشريعات ومواقف..ومحاولة الوقوف على التل ومشاهدة مايحدث بين السنة والشيعة واستغلال نقاط الافتراق الكثيرة في هذا المشهد السياسي.

اذكر ببعض المواقف، كتابة الدستور، حل الجيش العراقي، محاكمة صدام حسين على جريمة الدجيل قبل محاكمته على جريمة الانفال، ترك الشيعة يواجهون اللوم والكراهية من المحيط السني لاعدام صدام حسين وعدم توقيع الرئيس طالباني على قرار الاعدام، الانتخابات الاخيرة وورقة المطالب التسعة عشر لتأييد اي مرشح يوافق عليها.. قانون استثمار النفط والغاز، العقود مع الشركات النفطية العالمية، المادة 140، والآن قضية طارق الهاشمي التي يضعها الرئيس طالباني في موقع (ضيف كريم حل في ديارنا)، تضاف اليها تصريحات النائب حسين الاسدي عن دولة القانون حين قدم تعريفا جديدا للضيافة الرئاسية من خلال أحكام المادة الرابعة/ب من قانون مكافحة الإرهاب، لإيوائه نائبه طارق الهاشمي (المطلوب قضائيا)، معتبرا أن التستر على الهاشمي خرق دستوري وقانوني صريح للقضاء. وكان رد التحالف الكردستاني سريعا بالانسحاب من جلسة البرلمان التي تناقش ميزانية العراق للعام 2012 واعتبار ذلك مساسا بالرموز الوطنية.

ولا ادري قصة الرموز الوطنية هذه، فالجميع يتحدث عنها بكثرة عند اي خلاف بين الكتل السياسية يمس بالنقد سلوكا او قولا لاحد القادة.. والرموز كما نعلم لا تقتصر على الاشخاص المسؤولين، فما الذي يمنع ان يكون الانسان العراقي البسيط رمزا وطنيا، وما الذي يمنع ان تكون باقلاء قدوري الشهيرة رمزا وطنيا، وما المانع من اعتبار باجة الحاتي العراقية والدولمة وكباب زرزور وساحبات عنتر الزراعية وسيارات دق النجف والسمك المسقوف وغيرها الكثير من مفردات حياتنا رموزا وطنية؟ على الاقل هذه تحظى باجماع وطني لا يتوفر للمسؤولين اصحاب السيادة والنيافة والفخامة.

فباقلاء قدوري تجمع البصراوي والموصلي والانباري والناصري والبغدادي والواسطي مثلها مثل الباجة والدولمة وكباب زرزور الذي افتتح منذ سنوات فرعا له في السيدة زينب (ع) في دمشق وكان يقصده مختلف العراقيين الذين انتخبوا القائمة الكردستانية او القائمة العراقية او قائمة دولة القانون وغيرها من قوائم صوّت لها العراقيون في سوريا.

كم من النقاط ستحتوي قائمة المطاليب الكردية اذا اخذ التنافس السياسي بين الشيعة والسنة يتقدم باضطراد كل يوم، وهل يكفي كيلو غرام واحد من اللحم البغدادي لاطعام الجوع الكردي؟

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 7/كانون الثاني/2012 - 13/صفر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م