بعد نجاح ثورات الربيع العربي صعدت الحركات الإخوانية إلى ميدان
إدارة الدولة وصياغة النظام. أثار صعودها جدلاً واسعاً عن ماهية
الأنظمة القادمة في بلدان الربيع العربي. وبغض النظر عن طريقة هذا
الصعود سواءً بالانتخابات أو بغيرها، فإن حضورها الكثيف على المسرح
السياسي ودخولها لعبة الديمقراطية يجعل التساؤلات مشروعة عن مدى جهوزية
هذه الحركات لتسلم الحكم وصياغة النظام الاجتماع السياسي، وعن مدى
استعدادها لتقبل التنوع الثقافي والتعددية السياسية، وعن مدى المرونة
التي ستقدمها في حقلي العمل السياسي والممارسة الدبلوماسية.
جانبان يقفان وراء ثورات الربيع العربي، وقد يتفق الجميع عليهما،
هما: «الإحباط والأمل». لا نأتي بجديد عندما نقول ان الشعوب العربية
تعيش حالة إحباط تتمظهر في السياسة ولا تقتصر عليها، فهناك الإحباط
الاجتماعي والإحباط الاقتصادي المعيشي والإحباط العلمي...إلخ. وفي
الوقت ذاته يأمل المواطن العربي في تغيير يستعيد من خلاله اعتباره
كمواطن كريم في عيشته، حر في التعبير عن أفكاره وارائه ومعتقداته،
ويتطلع إلى ديمقراطية ترفع من مستوى مشاركته في الشأن العام دون خوف أو
وجل. ساعد على ذلك وجود تململ عند الشعوب من وجوه الساسة التي هيمنت
على المشهد السياسي طوال العقود الأربعة الماضية.
صعدت حركات «الإخوان المسلمين» في تونس ومصر كما أنها في طريقها
للصعود في ليبيا. هذا الصعود يعبر أولاً عن ثقل جماهيري حقيقي لهذه
الحركات لا يمكن نكرانه. ويعبر أيضاً عن تغييب متعمد قد مارسته الأنظمة
السابقة ضدها. ويعبر عن رغبة الشارع العام في التغيير وتجريب ما لم
يُجرب، وقد يعبر عن طبيعة الشارع الذي لا يخفي هويته الدينية في وقت
ينادي بشعارات إنسانية أشمل تتجاوز الهوية الدينية أحياناً. وعليه،
أدرك الإخوان الوضع، في البدء توازنوا ما بين مطالب الشارع والموقف من
النظام، كما حصل في تونس ومصر، ثم تكيفوا مع الثورة وتبنوا أغلب
مطالبها، وبالتالي أمسوا المكون الأساس في تشكيل البرلمان والعمل على
تشكيل الحكومة.
النموذج التركي لحكومة الإسلاميين الجدد، المتمثلة في حزب العدالة
والتنمية، هو اليوم ما تحاول حركات الأخوان المسلمين في بلدان الربيع
العربي محاكاته. ولكن قد يغيب عن كثيرين تلمس الفوارق الكبيرة بين حركة
الإخوان الأردوغانية وحركة الإخوان في مصر وتونس وليبيا، بل لا يمكن
وضعهما في كفتي المقارنة. لذا لن تكون عملية المحاكاة يسيرة، ولن تكون
مستحيلة. قد تخفق في بعض صورها ويحالفها النجاح في صور أخرى. أخوان
تركيا هم حزب ديني يعمل في إطار علماني، هم حزب ديني سياسي يخوض غمار
اللعبة الديمقراطية باحتراف. احتراف أنتجته أكثر من نصف قرن من التجربة
المتراكمة بدأها المرحوم نجم الدين أربكان، الأب الروحي لإخوان تركيا
اليوم. تجربة مليئة بالكر والفر والسجون والتحالفات والصراعات مع
العسكر والأحزاب العلمانية المختلفة وأداروا الدولة فيها لبضع سنوات.
الإخوان المسلمون في تونس ومصر لديهم تجربة، لكنها لم ترتق لتمتحن
نفسها في إدارة الدولة والمجتمع. لم يُعرف، تاريخياً، عن خطابهما
المرونة والمسايسة، أفكارهم تميل للتشدد، أطروحاتهم في الاجتماع
والسياسة والاقتصاد موضوعة في قوالب عامة وجميلة، ولكنها لا تتلمس
الواقع المعاش. لذلك، وحتى منتصف عام الربيع العربي 2011، سادت حالة
تخويف عند الغرب وبعض الدول العربية من الإسلاميين القادمين ما لبثت أن
تحولت لحالة اطمئنان بعد تفاهمات غير معلنة قادتها قطر وتركيا بين
الإخوان القادمين للحكم وأقطاب غربية وعربية. أما اليوم فهناك مؤشرات
كثيرة على تحولات داخلية في الإخوان، هل هي تحولات تكتيكية مرتبكة
بنشوة الوصول للحكم ويراد منها تجربة استلام دفة الحكم، أم أنها تحولات
فعلية في الفكر والسياسة؟
تحولات تكتيكية أم تحولات فعلية
نعم، توجد مؤشرات تحول في أفكارهم ومواقفهم، منها تصريحات راشد
الغنوشي بعد عودته إلى تونس من المنفى، حيث حاول طمأنة الداخل
الليبرالي والعلماني بتصريحاته، وحاول تهدئة الخارج الغربي والعربي
بمواقفه، ومما قاله في أوقات مختلفة: «ان تطبيق الشريعة الإسلامية ليس
من أولويات حزب النهضة الآن، وإنما ضمان عدم عودة الديكتاتورية مرة
أخرى إلى تونس... وانه يشترك في مفاوضات مع أحزاب علمانية تونسية
لإدخالها في الوزارة القادمة...لا نية لحزبنا التقدم بقانون يتيح
الزواج المتعدد، أو يلغي النظام المصرفي الغربي...وانه إذا تولت النهضة
السلطة في تونس فإنها لن تمنع الخمور أو النساء من ارتداء البكيني في
الشواطئ... وأن الإسلام لا يجب أن يمنع الخمور ولكن لا يشجعها، مؤكدا
أن الهدف الحقيقي هو تقليل الطلب عليها وليس وقفها، وكذلك النهج مع
لباس البحر...».
أما الإخوان في مصر فقد أعاد الدكتور شاكر النابلسي قراءة مواقفهم
في مقال له بعنوان: «هل تستعيد مصر الخلافة الإسلامية» حيث أوضح أن
عصام العريان لخص رؤية الإخوان بقوله: «الاتفاق على التعددية السياسية
والموقف من المرأة أمور فيها اجتهادات جديدة من جانب الإخوان تتماشى مع
المستجدات التي تعيشها الأمة الإسلامية الآن»، وقد تبنى إخوان مصر
عناوين ومصطلحات غير معهودة في مواقفهم السابقة فيما يتعلق بـ
(الديمقراطية، الانتخابات، التعددية، الحريات السياسة، النضال
الدستوري، إقامة المجتمع المدني، إقامة الدولة المدنية وليست الدينية..
الخ). وهو ما جاء على لسان محمد السيد حبيب عضو مكتب الإرشاد في مصر
الذي قدّم شعارات سياسية حداثية وليبرالية جديدة للإخوان، فيما يعتبر
انتفاضة سياسية إخوانية مثيرة. وكان من أهم هذه الشعارات: «تدرج
الخطوات من ثوابت منهجنا، والنضال الدستوري سبيلنا عبر القنوات
القانونية» و«تبنّي الدعوة لإنهاء الخصومة بين الحكومات والشعوب من
خلال الإصلاح السياسي وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني».
إلا أن هذه المؤشرات، التي تعد بمثابة انقلاب كبير في الفكر
والموقف، لا يمكن تأكيد حقيقتها حتى تواجه واقع المسك بزمام الدولة
وإدارتها وصياغة هوية النظام القادم في تونس أو مصر. المحك في التجربة،
فهذا الحجم من التنازل المثير والغريب يوحي بوجود براغماتية غير
طبيعية، لأنها، كما يبدو، تنبئ عن صدورها في لحظة مرتبكة ومندهشة بنشوة
الوصول إلى الحكم. ما يؤكد ذلك مواقف حزب النور السلفي المتشدد الذي
أطلق تصريحات بالغت في حجم التنازل تجاه قضايا كانت من الثوابت التي لا
حياد عنها مثل الاعتراف بإسرائيل واحترام معاهدة كامب ديفيد، ومثل
التحول من اعتبار الديمقراطية كفرا إلى الإيمان بالعمل الديمقراطي، كما
جاء على لسان بعض المرشحين السلفيين.
الإخوان والسلفيون يمرون بمرحلة نشوة لا يمكن اعتماد ثباتهم على ما
يصرحون به فيها، فالأمر بحاجة إلى زمن أطول لمعرفة حقيقة الثابت
والمتغير لاسيما تحت قبة البرلمان عند مناقشة ملفات اجتماعية وسياسية
والتصويت عليها.
www.aldaronline.com |