هل يمكن وضعنا في القفص الزجاجي من جديد

عباس عبود سالم

عندما قرر صدام حسين اجتياح الكويت لا شك انه انتحر سياسيا وكتب نهايته بنفسه، وكذلك انهى آخر ورقة كان يتبجح بها قادة البعث وهي اكذوبة القومية والوحدة، وفي الحقيقة ليس في جعبتهم سوى الغدر والخيانة والانقلاب على الحلفاء.

بهذا التصرف قام صدام دون ان يشعر بتحويل عقيدة الانقلاب البعثية من تكتيك سياسي داخلي يضمن الاحتفاظ بالسلطة، إلى منهج للسياسة الخارجية، تسبب في كشف العورات السياسية لنظام سلطوي قمعي مستبد، في زمن استسلمت الدنيا لأفكار جديدة مع بروز البروستوريكا والغلاسنوست من الشرق، ورياح العولمة العاتية التي أنهت الحرب الباردة، واقتلعت جدار برلين التاريخي وهي بمثابة الانتصار الثاني لليبرالية الغربية بعد انزال نورماندي وسقوط الرايخ الثالث الذي كان ثمنه ازهاق ارواح 61 مليون انسان.

بعد انهيار حلف وارشو توقع ريتشاد نيكسون الرئيس الامريكي الاسبق ان بلاده حققت (نصر بلا حرب)، لكن الجمهوري جورج بوش الذي كان يدير البلاد يومها ارداها حرب تحمل دلالات رمزية ويتحقق من خلالها نصر نتائجه السياسية تفوق تكاليفه التقليدية، فكانت الفرصة ان قام صدام باجتياح الكويت، وكان لبوش ماراد من نصر كبير بثمن قليل، فكانت (عاصفة الصحراء) التي لم تكلف العالم الغربي شيء يذكر.

 وسط ذلك كله كان الشعب العراقي الخارج من حرب الثماني سنوات محملا بالجراح والم الحرب مازال يخضع لحكم حزب لا يفهم من السياسة الا الوصول الى السلطة، ولا يفهم من الحكم الا عبادة الأشخاص، وصناعة الرموز الوهمية، ورئيس يستمد قوته وتأثيره الخارجي من قبضته على صولجان الحكم حتى وان كان مضرجا بدماء العراقيين.

 وبالمقابل فان صدام حسين لم يتضرر من الحرب مع ايران بقدر تضرر الشعب العراقي، بل كان المستفيد الاكبر، فقبل 2 آب 1990م كان يحظى بمقبولية خارجية لا تتناسب مع حجم جرائمه والكم الهائل من عمليات القتل التي مارسها نظامه.

 والسبب انه تصدر لكبح جماح (الثورة الايرانية) ومنع وقوع ارتدادات ثورية تعم دول المنطقة، ناهيك عن دعم بلدان الخليج التي حاولت انتهاز الفرصة التاريخية حيث وجد الجميع مصلحتهم في سياسة (الاحتواء المزدوج) لايران والعراق، (فربما تموت الافاعي بسموم العقارب)، على حد وصف الملك السعودي خالد بن عبد العزيز.

وعندما تمكنت الولايات المتحدة من قيادة اكبر ائتلاف دولي لاخراج صدام من الكويت بعد قصف جوي كثيف كانت الظروف مواتية لابناء الشعب للانقضاض على الطاغية الذي اسقط الورقة الدولية من يده، وكشف للعالم عن قبح سياساته، لذلك انطلقت الانتفاضة بثقة عالية في عموم محافظات العراق وكانت الكفة في صالح الثوار لان كل العوامل في صالحهم.

 لكن عامل واحد جعل الملك الراحل فهد بن عبد العزيز والرئيس المصري السابق حسني مبارك يضغطان على الرئيس الامريكي الاسبق جورج بوش باتجاه ابقاء صدام حسين كون السيناريو البديل كارثيا بالنسبة لهم، وبالفعل عمل بوش بنصيحة حلفائه العرب ومارس على صدام ما سميت لاحقا بسياسة (الاحتواء الانتقائي) او كما وصفها مستشار الامن القومي الامريكي الاسبق ساندي بيرغر بسياسة (القفص الزجاجي).

ولكن صدام كان خارج القفص والعراقيين وحدهم من كانوا بداخله، ففي الوقت الذي شيدت فيه السعودية الابراج الشاهقة المزججة، واعادت الكويت بناء معالمها التي دمرتها الحرب، واسست دبي عظمة عمرانها وموانئها ومطاراتها المميزة، كانت فرق التفتيش الدولية تجوب العراق وتدمر مخزونه من السلاح المحظور والذي كلف مليارات الدولارات و كان العراقيون يبيعون اثاث منازلهم ويتخلون عن كل شروط الحياة الكريمة.

 وهكذا ادخل البعث العراق في بوابة القرن الحادي والعشرين، ففي الوقت الذي احتفل فيه العالم بالالفية الجديدة لم يعرف اطفالنا شكل وطعم الشوكلاته، او قناني الببسي كولا التي يعبث بها التافهون في أفقر دول الجوار، وفي وقت تتباهى الدول بحجم ماتستهلك من ورق التواليت واكياس التغليف وعلب البلاستك الانيقة الملونة، كنا نستخدم اواني واكياس البلاستك المعاد الذي يصنع من بقايا (النعال) المقطعة ويعطي لونا داكنا، ورائحة نتنة، لنشرب فيه الماء ونحفظ فيه الاطعمة!!

كانت 60 من افخم القصور الرئاسية قد شيدت في تلك الفترة وكانت اطنان الرز العنبر تخرج من العراق مع زيارات عزة الدوري الى دبي والدوحة والرياض لكسر الحصار عن سلطة البعث واعادة خيوط الوفاق مع خصوم الامس القريب وكانت موجات من الاساتذة والكفاءات تهرب الى الاردن وليبيا واليمن للعمل هناك.

ربما يستغرب البعض من اني اعيد النبش في صفحات الماضي لكن المؤشرات المحيطة تدفعنا جميعا الى تجنب الوقوع في اخطاء كبيرة تهمشنا من جديد فنحن اليوم على اعتاب انتهاء الفصل الامريكي وبداية مرحلة تاريخية جديدة ربما تعيد العراق الى وضعه الطبيعي وربما تفتح المجال لاحتمالات كثيرة، نلاحظ ان بعض دول الجوار تحاول اعادة النغمة التي اوقفت زحف الانتفاضة ووضعتنا في القفص الزجاجي المشؤوم، فهم يريدون العودة بالعراق الى ايام اكلت من جرفنا الكثير وخرجنا منها بإصرار واضح على الحياة.

وعلينا ان لا نستغرب اذا اكتشفنا ان هناك مؤامرات وانقلابات لإسقاط العملية السياسية، او اغتيال التجربة، فقبل ذلك تآمروا على نوري السعيد، وعلى عبد الكريم قاسم بدعم خارجي عربي، والهدف كي لايتوفر للعراق نظام حكم يعطي لهذا البلد دوره الذي يتوافق مع ما يحمل من عوامل وامكانات.

ومن الواضح ان اللعب هذه المرة خطير جدا لانه ينصب الى الداخل ويهدف الى تفتيت العراق وتطاحنه داخليا، ومن ثم ايجاد دور لتدخلات ومبادرات عربية توازن ادوار دول الجوار غير العربي وبالتالي يعود العراق للعب دور الساحة الخلفية للأخرين، وهو الاحتمال الاكثر وقوعا اذا لم ننتبه لحجم التآمر الخارجي علينا، وارى ان مسؤوليات كبيرة تقع على عاتقنا نحن الاعلاميين في مثل هذه الايام، لكشف ما يحاك في الظلام ولتوعية الشعب بمخاطر المرحلة الراهنة والجديدة الموعودة لاسيما وقد استعد لها البعض بفكر انفصالي واجندات طائفية مقيتة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 18/كانون الأول/2011 - 22/محرم الحرام/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م