لـمـاذا الإنتاج المعرفي مرة أخرى...
وتحديداً المعرفي لا العلمي؟
لأن المعـرفـة قـوة... أي أنها يمكن أن تتحول إلى مصدر للقوة
بالمعنى الشامل للقوة السياسية، الدبلوماسية، الإقتصادية، المالية،
الإعلامية، العسكرية، الأخلاقية، الثقافية، الفنية، التعلمية،
الإجتماعية، الصناعية، التكنولوجية، الصحية، الدينية، التربوية،
الترفيهية، و...الخ.
لأن المعـرفـة التي نقصدها هنا هي المعرفة وفقاً لأرباب هندسة
المعرفة، ولذلك كان إختيارنا في العنوان الإنتاج المعرفي دون العلمي
لأن تأخرنا يعود إلى أزمتنا المعرفية، وتراجع إنتاجنا المعرفي كماً
وكيفاً، ومنذ أمد طويل، ولاسيما فيما يرتبط بحقول "ما وراء المعرفة" (Metacognition)،
أو مجالات "المعرفة حول المعرفة" التي تتناول الوعي المعرفي بالذات، أي
وعي الأمة بما تعرفها، أو وعي الفرد بما يعرفه، وربط ذلك مع مشكلة
قائمة أمامه إسـتقداماً لحل تلك المشكلة.
أجلْ ترتبط المعرفة المقصودة بالعمل، الواقع، التطبيق، المرض
والعلاج، المشكلة والحل، الممارسـة والتطوير، إحتياجات الأمة
وأولوياتها وإهتماماتها ومشكلاتها الفردية والجمعية، والواقع المعيش،
بينما العلم يمكن أن لا يكون كذلك كما هو الحال في الكثير من البحوث
النظرية البحتة، أو الترفية، أو المستهلكة، أو غير النافعة، أو... الخ،
وليس في ذلك إستهانة بالعلم لأنه لا معرفة دون علم.
ولعلاقة المعرفة بالعمل أو الأداء - في مفهوم المعرفة - يذهب البعض
مثل "نانوكا" في تعريف المعرفة على أنها:
"الإيمان المحقق الذي يزيد من القدرة على العمل الفعال".
وبهذا فهو يعرفها وظيفياً، وكأنه يجيب على سؤال افتراضي يقول:
ماذا يمكن أن تفعله المعرفة؟
ولذلك ربما يمكن الإدعاء بأن ذلك من أهم ما يميز المعرفة عن كل من
العلم، والفكر.
النصوص بين العلم والمعرفة
النصوص المقدسة التي تتناول العلم والعمل تؤكد على العلم النافع من
جهة، وعلى العمل بالعلم من جهة ثانية، وتستزرع العلم الموجب للعمل من
جهة ثالثة، و... الخ، ولذلك ربما يمكننا الزعم بأن تلك النصوص في
المحصلة تملي المعرفة العلمية بالمفهوم المتقدم للمعرفة بمعنى طلب "المعرفة
العلمية" فريضة على كل مسلم ومسلمة، وبناءً على ماتقدم يمكننا
الإستدلال بالروايات التي تتناول العلم للمعرفة فنقول:
نعم المعـرفـة قـوة، وقد قالها قبل حوالي 14 قرناً الرسول الأكرم
صلى الله عليه وآله وسلم قبل فرنسيس بيكون (1561 - 1626) م:
( وأما العلم، فيتشعب منه الغنى، وإنْ كان فقيراً، والجود، وإنْ كان
بخيلاً، والمهابة، وإنْ كان هيناً، والسلامة، وإنْ كان سقيماً، والقرب،
وإنْ كان قصياً، والحياء، وإنْ كان صلفاً، والرفعة، وإنْ كان وضيعاً،
والشرف، وإنْ كان رذلاً، والحكمة والحظوة، فهذا ما يتشعب للعاقل بعلمه.
فطوبى لمنْ عقل، وعلم ). تحف العقول: 16
لأن المعـرفـة - بالمفهوم المتقدم - قـوة... أي أنها تتحول إلى
قاعدة للنهوض، ومصدر للقوة بالمعنى الشامل المذكور.
ويعني ذلك ان المعـرفـة تمتلك القدرة على الإستقلاب الإيجابي الكامل
لتحويل الضعيف إلى قوي، أولتحويل الضعف إلى قوة... الهزيمة إلى نصر...
العجز إلى إقتدار... التخلف إلى تقدم... النقمة إلى نعمة...الخ.
إذن المعرفة والعمل متلازمان مفهوماً، وذلك من أهم ما يميزها عن
العلم، ولذلك ولقدرتها الإستقلابية الإيجابية الفريدة كان سؤالنا في
مقدمة البحث عن الإنتاج المعرفي لا العلمي.
لكن:
منْ المسـؤول عن إنتاجنا المعرفي؟
لاشك أن الجامعات والمعاهد والحوزات العلمية ومراكز الدراسات
والبحوث هي المسؤولة، والمشكلة تكمن في أن أغلب دراسات وبحوث ومؤلفات
تلك الجهات لم ترتبط باحتياجات المجتمع ومشكلاته... أي أنها ليست
بمعرفية، ولذلك تبقى محلقة في برج عال لا صلة لها بالمجتمع.
كم منا سمع عن نتائج دراسة بينت خللاً معيناً في جانب من الجوانب؟
وقدمت الحلول العملية التطبيقية لمعالجة ذلك الخلل بعيداُ عن
التكرار، و التدوير المحير للبيانات والمعلومات بعيداً عن المعرفة
والتمثيل المعرفي.
لاشك أنها قليلة لكن كتاب "فقه التعاون" للفقيه السيد مرتضى
الشيرازي يتصدرها لأنه يتصدى لمعالجة خلل عظيم يتلخص في غياب التعاون
لأسباب منها إنحسار قيمته في الجانب الأخلاقي، والجهل بكل من القيمة
الإيمانية والتشريعية للتعاون إضافة إلى مأساة تعميم الندب التي يعاني
منها في جانب القيمة التشريعية.
انها محاولة أصولية تأصيلية جريئة نابعة من صلب إحتياجات المجتمع،
ومن أعماق حقول "ما وراء المعرفة" المهجورة. |